بقلم زكرياء بوغرارة
عبد الحميد ديب شاعر مصري سقط سهوا من سفر أعلام الشعراء المعاصرين.. ذلك أن قلة من الناس من يعرفونه أو يذكرون له شعرا .. أو يروون عنه أثرا.. تنبعث من سيرة هذا المشاكس في زمن نهضة الشعر العربي المعاصر الكثير من القصص الغريبة العجيبة التي إتسقت مع شخصيته المزاجية المتمردة..
عندما كان الكبار من معاصريه أمثال عباس محمود العقاد وحافظ إبراهيم والمازني ينحتون في جدارات الأدب العربي أسماؤهم بحروف بارزة لاتخطؤها العين فتبدو في سفر الأدب شامخة ذات عمق ومكانة ونفحات….
لكنه ظل الحاضر الغائب في ثنائية الحضور والغياب
وصفه الأديب عبد المنعم شميس بأنه الشاعر الذي ضاع في شوارع القاهرة …
ترى ؟ هل كانت شوارع القاهرة في ذلك الزمن بتلك الضخامة الهائلة حتى تتحول الى متاهة يضيع فيها شاعر من طراز عبد الحميد ديب
أم أنها وصف لحالة من الصعلكة التي أنتجت لنا في القرن الماضي شعراء صعاليك. كان تصعلكهم مسلكا مباينا للصعاليك الذين عرفناهم في الجاهلية .. أو صدر العصر العباسي من حيث المفاهيم والمبادئ وظروف وبيئة التصعلك….
لا شك ان لهؤلاء الصعاليك المعاصرين مسلك آخر من لون جديد للصعلكة الأدبية …
التي لاتخلو من صعلكة في الزمان والمكان تقترب من الصعلكة الأولى أحيانا وتتباعد أحيانا أخرى
شاعرنا العجيب ملك زمام اللغة وكانت بين جوانحه ملكة شعرية .. استقرت تلك الملكة الشعرية في عمق وجدانه فقرض أجمل القطع الشعرية وفي روحها عبق من الابداع الجميل .. غير ان شعره ذاك قد ضاع ..كضياع صاحبه في دنيا الله الواسعة فلم تصلنا من تلك الأشعار سوى نتف متناثرة هنا وهناك… لاتكاد تبين .. او يضمنها ديوان شعر ….
كانت هناك محاولات خجولة لجمع زبدة اشعاره في ديوان لكنها لم تسفر عن شيء يذكر
ربما كان شاعرنا صعلوكا من طراز فريد ولعل النحس كان طالعه الذي يلازمه كظله اذ أن النكبات كانت تتوالى عليه الواحدة إلإثر الأخرى .. أحيانا هي محض قدر.. وأحيانا أخرى كان يصنع اقداره بما جبل عليه من صعلكة كانت كامنة في أعماقه.. منها ما يروى عن بداياته في طلب العلم عندما كان ينتسب لمدرسة دار العلوم
فقد كان يسكن في غرفة من بيت يستأجره من زوجة جزار الحي .. في إحدى الحارات بالسيدة زينب.. وفي يوم الإمتحان الذي يكرم فيه المرء أو يهان.. إستعد بلبس أنظف ملابسه وأخذ موضع الإستعداد لهذا اليوم الموعود.. وقبل أن ينطلق كالسهم الى مقصده إلتفت يمينا وشمالا فقد افتقد حذاءه إذ لم يعثر له على أثر وعيل صبره في البحث عن الحذاء المفقود بعد ان استعان في البحث عنه بكل جيرانه وسأل صاحبة المنزل عن الحذاء فلم يجد جوابا شافيا
وما كان منه ألا ان لبس القبقاب بدل الحذاء فهو مضطر ..
وكما يقال في المثل { المضطر يركب الصعب}
ثم انطلق الى مقصده مدرسة دار العلوم بقبقابه يخطو خطواته المتعثرة بعد أن طال انتظاره لهذا اليوم الفاصل في حياته
ولكن…
البداية كانت بالقبقاب
ترى ما الذي كانت تخفيه نهايات هذا اليوم ومآلاته
انها مفارقة مضحكة مبكية اجتمعت فيها الملهاة بالمأساة .
أورد عبد المنعم شميس في مقال له عن عبد الحميد ديب هذه الحادثة الغريبة وهو يقف على هذه القصة كأنما يطل على أنقاض الرجل
لما فيها من مأساوية تفوق الخيال
انطلق بالقبقاب غير مدرك أن في بيت الجزار الذي يسكنه كلبا أليفا تبعه وهو يمشي بقبقابه ولعل صوت القبقاب حرض الكلب على اللحاق به فهو يتبع رائحته وصوت القبقاب.. ظل الكلب ملازما لشاعرنا إلى أن وصل دار العلوم ودخلها والكلب يقتفي أثره ..
ثم أوغل فيها إلى ان وصل الفصل الدراسي حيث يعقد الإمتحان …
والكلب ملازم له ..
وجلس وقعى الكلب امامه ثم يلبث إلا يسيرا فبسط ذراعيه بالوصيد..
كل هذا وعبد الحميد ديب لم يلتفت للكلب او ينتبه له
ثم وزعت أوراق الامتحان وساد الصمت وكأن الطير على الرؤوس وفي تلك اللحظة نبح الكلب ..
كأنما الصمت الذي أصبح سيدا اغراه بأن يخترقه بصوت نباحه
ثم هاج الكلب وعمّت الجلبة والصخب والضوضاء …
سيق بعدها صاحب الكلب الذي جاء به على غير رضا منه خارج قاعة الامتحان ثم طرد خارج دار العلوم
{كلب وقبقاب}…
وهكذا صار عبد الحميد ديب الشاعر الذي ضاع في شوارع القاهرة على حد تعبير عبد المنعم شميس……
هكذا تاه شاعرنا في دنيا الله الواسعة
ولعله أدمن الصعلكة ذات اللون الجديد وولع بها في ذلك المنعطف الكبير .. بعد أن فقد الإنتساب لدار العلوم ووجد نفسه يرتطم بأمواج بحار طامية وبواقع مّر قاده إلى تخوم التشرد اللذيذ..
هاهو حينا ينام هنا على دكة خشبية في مقهى وربما هناك في ركن من اركان مسجد الحسين.. فقد صارت دنياه بائسة ذات يباس شديد
هاهوأحيانا أخرى يدور في فلك التصعلك من شارع لآخر ومن مجلس لمجلس إلى أن ينتهي به الطواف داخل تلك المتاهة في ميدان العتبة الخضراء لتصل به قدماه الواهنتان الى المقهى …
هناك حيث يلتقي ببقية رفاقه في التصعلك .. و بكل ألوان الطيف من بشاوات وباكاوات وشعراء وأدباء مرموقين وآخرين مثله في دوامة التيه والصعلكة
يقول عبد المنعم شميس وهو يكتب عن شاعرنا التائه في دنيا الله
كانت المكتبة التجارية في أول شارع محمد علي كانت منضدة في بعض الأيام حين يأتي إليها عباس محمود العقاد ويمضي يوما حيث كانت تنشر كتبه وكان من عادة العقاد أن يتناول طعامه ويلقي شعره في هذه المكتبة حيث كان يأوي عبد الحميد ديب وهناك تقع له قصة عجيبة … لا أدري أهي ملهاة أم مأساة
أم شيء يجمع بينهما
حدثت عندما صدر للعقاد كتاب جديد وصادف ذلك اليوم زيارة قام بها عبد الحميد ديب للعقاد الذي كان يستأنس به .. فأجلسه معه وأطعمه وأكرمه ثم شرع العقاد في كتابة إهداءأت بخط يده على نسخ من الكتاب الجديد وعندما إنتهى طلب من شاعرنا ان يوصلها
بحيث يصل كل كتاب الى صاحبه المهدى له حيث يقيم
دفع له أجرة المواصلات واتعاب الرحلة التي ستقوده لأنحاء شتى من القاهرة
حمل عبد الحميد ديب الكتب ودس المال في جيبه ثم مضى…
نهايات القصة تبدو عجيبة وغريبة ربما أن المعزى منها والستار الذي أسدل عليها و معناها في بطن الشاعر كما يقال
مرت نصف ساعة كان العقاد لايزال في مجلسه يحتسي قهوته
إذ تقدم نحوه أحد تجار الكتب على سور الأزبكية الذائع الصيت .. كان يحمل حزمة الكتب كما هي … ظل العقاد برهة يتأملها وهو في دهشة… قال الكتبي للعقاد {لقد باعني أحمد الأفندية هذه الكتب ووجدت عليها إهداءات إلى كبار أدباء وعظماء البلد ولم أجسر على تمزيق الإهداءات وبيع الكتب..}
دفع العقاد ثمن الكتب للتاجر …
لقد باع عبد الحميد ديب الكتب
وهاهو القدر ينقذها من الضياع لتعود لصاحبها ….
لم يعلّق عبد المنعم شميس على هذه القصة ولكنه أوردها بتفاصيلها.. وقد توقفت مليّا متأمّلا هذه المشاهد وكأنما ألاحق إندفاعها إلى النهاية كمن يشاهد شريطا وثائقيا مرة يألم ومرات يحزن وأخريات يبتسم ثم يضحك… لم يكن بميسوري أن أفهم عقلية عبد الحميد ديب ولكن نفسيته المتمردة الساخطة المزاجية وربما اللامبالاة التي جعلت منه صعلوكا ظريفا هي التي تبرر هذه النهاية..
هل نسميها خيانة للأمانة.. ام سرقة أم استهتارا .. أم شيئا آخر
ربما هي ليست أي شيء من هذا…
قد تكون علاقة الوثيقة بالعقاد الاديب العملاق هي من جرّأته لينهي هذا المشهد بهذه الطريقة وربما هو السخط والتمرد الذي جعله يتامل حاله ويرثي لمآلاته ولنفسه قبل أن يهجوها على مسلك الحطيئة ولكنه هجاء من نوع آخر اللون فيه تمرد خاص به
لا شك انه وهو يرى نفسه الشاعر الفحل الذي أصبح ساعي بريد… قد أوغر صدره ….
لكن النتيجة التي نقف أمامها هي ان عبد الحميد ديب كان لا مباليا لا يقف عند التخمينات والتوقعات وردات الفعل أنما ينساق مع لحظاته المجنونة بلا مبررات
هكذا ظل التائه في دنيا الله…..