يشرف شبكة وا إسلاماه للإعلام أن تعيد نشر هذا اللقاء الماتع مع الأديب الإسلامي العالمي الكبير الطبيب
د. نجيب الكيلاني رحمه الله تعالى، الذي وافته منيَّته بعد معاناة مرض عضال ألمَّ به بتاريخ: الخامس من شوال 1415 هـ، الموافق 6/3/1995م. رحمه الله رحمة واسعة ونفع بتراثه وأدبه:
يعد الدكتور ((نجيب الكيلاني)) من أبرز الروائيين الإسلاميين المعاصرين.. وقد شهدت له الأوساط والمحافل الأدبية بحسن أدائه الرفيع، وإبداعه المميز، وفنه الأصيل الذي صاغه في القوالب الفنية المختلفة من الرواية، والقصة، والمسرحية، والشعر… فضلاً عن الدراسات الأدبية المتنوعة.
كما يعد الدكتور نجيب الكيلاني من أوائل الأدباء الذين تبنوا فكرة الدعوة إلى الأدب الإسلامي، وإنشاء رابطة للأدباء الإسلاميين.. حتى تحقق الحلم الجميل.. وقد كرمته رابطة الأدب الإسلامي العالمية تكريمًا يليق بتاريخه الأدبي.. وبمكانته في الأدب الإسلامي.
وفي هذا اللقاء مع ((نجيب الكيلاني)) نحاول أن نتعرف رأيه في كثير من القضايا الأدبية التي تفرض نفسها على الساحة.. والتي تضاربت حولها الآراء، وتباينت فيها وجهات النظر. بل إن اللقاء مع نجيب الكيلاني هو هدف – في حد ذاته – باعتباره قمة أدبيه وفنية في عالمنا المعاصر، وضع قواعد وأسسًا ونظرات فنية فريدة من نوعها كلها تمتاز بالأصالة والنضج العقلي والعاطفي الذي بلغ ذروته خلال مسيرته الأدبية وجاء الحوار مع الروائي نجيب الكيلاني – على النحو التالي:
– سألت الأديب الإسلامي الكبير د.نجيب الكيلاني – في البداية – عن القواعد الأساسية والخطوط العامة لما يمكن أن يسمى ((أدبًا إسلاميًا))… فقال:
من حسن الحظ أن الإسلام لم يحدد ((شكلاً)) فنيًا معينًا يلزمنا به، بحيث ندور في إطاره، فلا نتعدى رسومه، وإنما حدد الإسلام ((المضمون)) أو الفكر الذي يتناوله الفنان في الشكل الذي يختاره.
فالإسلام يختلف عن غيره من الفلسفات الإنسانية، فمن الفلاسفة من يرى أن الإنسان طبيعته الشر، وأن الأصل في الحياة الكذب والنفاق والجبن، ومن الفلاسفة من يرى أن الفن غاية في حد ذاته وليس وسيلة لبلوغ أي هدف، وهم دعاة ((الفن للفن)).
أما الفنان المسلم فله فهمه الشامل للحياة والإنسان، وله إيمانه بأن الفن وسيلة لبلوغ غاية عظمى، ألا وهي تكوين ((الوجدان)) المشبع بروح الحق والخير والحب..
والفن الإسلامي لا يختار نماذجه من أمثلة الخير والحب والفضيلة وحدها، بل يقدم شتى النماذج خيِّرها وشريرها، عاليها وسافلها، وإلا انعدمت الحركة الفنية، والصراع النفسي، إنها معاناة أصيلة نابضة، تبعث في نفسه لونًا من ألوان ((القلق)) العظيم، وتحرمه الإخلاد للكسل والسلبية والأنانية.. وهذا هو الفن العظيم.
وعالم الأدب والفن الإسلامي عالم فسيح رحب، يستوعب التجارب الأسطورية والتاريخية والواقعية المعاصرة، ويجول في أنحاء الشرق والغرب، ويبرز التجارب المحلية والعالمية، ويرتبط بقضايا الإنسان عامة وقضايا المسلمين في شتى أنحاء المعمورة خاصة.
أدب معقول… وأدب مرفوض
– أستاذنا.. ما هو تقييمكم للتراث الفكري والأدبي المعاصر، على المستوى المحلي والعالمي – ماله وما عليه.؟؟
إذا نظرنا إلى التراث العالمي المعاصر، وجدنا ركامًا هائلاً من القصص والمسرحيات ودواوين الشعر، والأفلام السينمائية، واللوحات الفنية وغيرها، وكلها تئن تحت وطأة الإثم والتحلل والسخط واللامبالاة، وتعبر عن الرغبة المجنونة في الهدم والتدمير، والرفض الصاخب لصور الحياة السائدة.
ولكن عالمنا العربي لا يرزح تحت نفس الظروف والأوهام والانحرافات التي عانى منها الغرب.. ويؤسفني كثيرًا أن أرى مفكرينا وأدباءنا يروجون للبدع الغربية، وينساقون وراءها دون تَرَوٍّ، فالمفروض أن يكون أدبنا مرتبطًا بتراثنا، وواقعنا، ومعبرًا عن آمالنا وآلامنا، ونابضًا بقيمنا الروحية الخالدة..
وهذا يعطينا دليلاً آخر على أن الجري خلف البدع المستوردة لا يكون دائمًا خطوة إلى الأمام.
وهذا لا يعني أن نغلق النوافذ والأبواب، ونتقوقع داخل قمقم من العزلة والأفق الضيق والتعصب، بل لابد أن نكون مستعدين دائمًا لاستيعاب التجارب الجديدة، دون أن نفقد أصالتنا وتميزنا والالتزام بقيمنا الخالدة..
الخراب الفكري والعقائدي
– ما رأيكم فيما يقال بأن الأدب والفن هو تمرد على الثوابت؟.. وإذا كانت الحرية هي من أهم شروط الإبداع الجيد.. فإلى أي مدى يمكن للأديب الإسلامي أن يجمع بين الحرية والإلتزام في آن واحد؟!
لابد أن نعلم أن حرية الفكر لم تكن مجرد شعارات ترفع، أو كلمات جوفاء يتشدق بها الناس، إنما لابد أن تكون واقعًا حيًا ملموسًا وسلوكًا عمليًا يراه الناس ويمارسونه، وأن الحريات لم تكن مجرد نصوص في دساتير ومواثيق وإنما هي تطبيق مؤثرٌ، ودافع قوي للإبداع.
وهل كان غريبًا أن ينظر الغرب المتخلف – يومًا ما – إلى الشرق نظرة إعجاب وتقدير وامتنان، حتى أدرك الغرب أنه لا يستطيع أن يقيم دعائم حياة كريمة إلا إذا استفاد من تراث الحضارة الإسلامية واستوعبها، وحاول مواصلة السير على منهاجها، حتى إنهم أخذوا يتعلمون لغتنا، وينقلون علومنا وفنوننا، بل استفادوا من أساليبنا في الحياة، ومن الموسيقا والشعر والغناء، فهذا هو الشاعر الكبير ((دانتي)) في الكوميديا الإلهية يقتفي أثر شاعرنا الكبير أبي العلاء المعري في رسالة الغفران.. والصورة الحقيقية لحضارتنا أنها أقامت بناءها الشامخ الخالد، على دعائم ثابتة من حرية الفكر، فأنجبت نخبة فريدة من عمالقة الرجال في شتى فروع المعرفة الإنسانية.
أما عن دعاة التمرد وأدعياء الحرية فكل ذلك بمثابة ((بدعة)) ليتشبث بها الضائعون والتائهون، وأسموها فلسفة، إنها لا ترمز إلا إلى الانعتاق من كل مسئوليات العقائد، والانفلات من كل القيم… والغريب أن المروجين لهذه الشعارات يسمونها ((موقفًا)) وأحيانًا يدعونها ((وجودية)) و((تعبيرًا عن الذات)) بل يحاولون أن يضعوا لها القواعد والأصول، وقد تكون لهذه ((البدع)) الفكرية في أوروبا ما يسوغها، لكن في الشرق المستعبد الممزق التائه، يلتقطونها ويروِّجون لها، ويتخذونها دينًا جديدًا، فيسقطون في خطر داهم، وفناء محتم.. وهو الخراب الفكري والعقائدي.
إن من ينظر إلى صحفنا ومجلاتنا ومطبوعاتنا في السنوات الأخيرة يستطيع أن يقرأ بوضوح سوء المصير، ويشم رائحة الضياع والحسرة. والأديب الإسلامي الملتزم رجل عقيدة وفكر، رجل حركة وعمل، يسترخص كل شيء في سبيل عقيدته، ولا يقيس المعارك بحساب الحياة والموت، والخوف والخسائر المادية، وإنما يقيسها بالعمل الجاد والجهاد وبمقاييس الحق والعدل.
لكل فكرة موقف
– كيف تنظرون إلى التحيز الفكري والمذهبي عند الخصوم، فضلاً عن اتهامهم الإسلاميين بالرجعية والردة والتخلف إلى آخر هذه الأسماء التي امتلأت بها الصحف والمجلات..؟!
أنا لا أرفض التحيز بالنسبة لأي مثقف، وهذا مجرد رأي، لكن الذي أرفضه أن يكون هذا التحيز منبعثًا من ثقافة ناقصة، إن لكل مفكر موقفًا، ولكي يختار موقفه، يجب أن يتدارس المواقف المهمة والبارزة، فكثيرًا ما قرأت لقوم يهاجمون الأديان دون أن يلموا بأصولها الأولية، وكثيرون أخذوا علمهم من مبشر حاقد، أو مستشرق ناقم، أو كاتب موتور، دون أن يكلفوا أنفسهم مؤونة البحث عن الحقيقة.
لذا أقول: لا بأس أن يكون لكل مفكر موقف، أي أن يتحيز لموقفه.. على أن ينطلق هذا الموقف عن وعي وفهم ودراسة. أما عن تلك الهجمة الشرسة التي تطارد أو تحاصر الشرفاء والمخلصين، وقد صورهم المغرضون بصورة المتخلفين عن قضايا عصرهم، وبصورة اللاهثين وراء فتات الموائد.. نعم.. إن هذا الإرهاب الفكري هو الذي يمارسه هؤلاء المتخبطون، الذين يرمون المخلصين بالانحراف والتخلف والتبعية، ومن ثم أصبح النقد لونًا من ألوان المطاردة العنيفة لكل ماهو جاد وأصيل، حتى وجد المخلصون أنفسهم محصورين في زوايا ضيقة، مرغمين على الاستسلام والصمت، وخلا الميدان إلا من العازفين على أوتار القيثارة الرسمية، وتحول الفن والفكر إلى هتاف وصياح وصرخات تشنجية!
مؤهلات الأديب
– بعد أن قطعتم شوطًا كبيرًا في ممارسة الإبداع والنقد معًا نريد أن نتعرف مؤهلات الأديب المعاصر – أو التي ينبغي أن تتوافر فيه – من وجهة نظركم..؟؟
نعم.. إن من البديهي أن لكل إنسان استعداداته الخاصة، وميوله الشخصية، أو موهبته الفطرية، وهي أمر أساسي في أية مهنة أو حرفة يختطها الإنسان في حياته، ثم يأتي بعد ذلك دورنا في رعاية هذه الموهبة وصقلها، حتى يمكنها أن تؤدي الرسالة المنوطة بها.. فضلاً عن ذلك هناك بعض الاشتراطات الجوهرية التي لابد منها لأي أديب يريد أن يقدم عملاً أصيلاً في أي فرع من فروع الأدب.
أولها اللغة لأنها الأداة التي سوف يستعملها الأديب في صياغة أفكاره، ولذلك فإن تعلم اللغة العربية وقواعدها، والإلمام بالتراث يعد مسألة حيوية لأي أديب يريد أن يكون له شأن مذكور في عالم الأدب.
الأمر الثاني: باعتبار أن الأديب مرآة عصره، فلابد أن تكون له حصيلة من الثقافة العامة، بمعنى ألا يتقوقع في حيز ضيق من الثقافة حتى لا يفقد الرؤية السليمة والحكم الصادق على الأشياء..
ثالثًا: على الأديب أن يطَّلع على التجارب الأدبية المتنوعة لكبار كتاب العصر، فهذه النماذج هي في واقع الأمر الأستاذ الأول لأي أديب، وهي تأتي قبل الدراسة ((الأكاديمية)) للعلوم الأدبية مثل فن القصة أو فن المسرحية وعلم العروض وأوزان الشعر.
رابعًا: من الضروري أن يرتبط الأديب بأهداف عليا، وغايات نبيلة، وهذا لن يكون إلا إذا كان للأديب منطلق فكري واضح، أو فلسفة محددة يمكنه أن يلتزم بها، لأن الأدب ليس مجرد كلمات جميلة، أو عبارات عذبة، وإنما الأدب الأصيل هو الذي يجمع بين عناصر ثلاثة:
1 – إثارة العقل وإقناعه.
2 – تحريك الوجدان وإشعاله.
3 – التحريض على فعل شيء ما، وهو أمر يرتبط بسلوك المتلقي.
عندئذ يكون لذلك الأدب قيمة حقيقية، ويكون الأديب – أيضًا – حاملاً لرسالة عظيمة.. وهنا يكمن السر في ذلك الخلود الذي حظي به كثير من الكتاب على مر الأجيال والعصور، وهنا يتضح لنا كيف أن التاريخ جر أذيال النسيان على تراث كتاب كثيرين لم تكن مؤلفاتهم تساوي ثمن المداد والأوراق!!
الموهبة.. والثقافة
– د.نجيب الكيلاني… كيف يختار الكاتب القصصي ((الفكرة)). وهل بالضرورة أن تعبر الفكرة عن شيء حقيقي في الحياة..؟
لابد للعمل الناجح أن يكون نابعًا عن فكرة أو موقف في الحياة، وهي التي تدور حولها الصراعات والحوار والوصف والسرد والبناء العضوي ككل. المهم أن هذا يعتمد على حسن اختيار الكاتب للفكرة، ومدى قدرته على الإقناع.. ولا يمكننا بطبيعة الحال أن نفصل الفكرة عن الشكل الفني المميز للقصة..
وفي رأيي أن ثقافة الكاتب محصلة لخبراته في الحياة، وقراءاته المختلفة في شتى فروع المعرفة، ومواقفه المتبانية إزاء الأحداث والناس والقيم والأعراف والتقاليد.. والكاتب الموهوب يستطيع أن يمزج ذلك كله، ويستوعبه ويتمثله، ثم يخرج بالجديد الذي تكون لديه قناعة تامة، ومن ثم قد تكون الفكرة فكرته، وقد تعجبه فكرة اقتنع بها عبر التراث أو التجارب والأحداث التي مر بها الآخرون، وهل ينكر أحد أن التراث الديني والفلسفي والتاريخي في العصور الغابرة والعصور الحديثة أيضًا يُعَدُّ كنزًا فريدًا لأفكار لا تعد ولا تحصى.. المهم أن تكون الفكرة متوائمة مع احتياجات الواقع، ولها دور بناء في دفع عجلة الحياة إلى الأمام، والعمل على إسعاد البشر، وإثارة وجدانهم وعقولهم، وتجعلهم دائمًا في شوق إلى اتخاذ موقف أو فعل شيء إيجابي.. من خلال الأقوال والأعمال.. ولابد أن نأخذ في الاعتبار أن إثقال الفن بالأفكار المقحمة، والقيم العنصرية المريضة عمل يسيء إلى الفن والفكر ويهبط بمستوى الأداء، ويهلهل الشكل الفني بالكلية.
الفكرة إذًا مهمة، لكنها في يد الفنان المقهور العاجز تضر بالصورة الفنية أبلغ الضرر، ولهذا سمعنا عن مؤسسات موجهة ساقت الفنانين إلى حظائر السخرية الفنية، وألزمتهم بموضوعات معينة، وأفكار مغرضة… فكانت النتيجة أن بقيت ملايين النسخ من تلك الكتب، ملقاة في مخازنها يعشش فوقها العنكبوت، ولم تستطع برغم ألوان الدعاية المختلفة والتسهيلات الكثيرة أن تجد الطريق إلى عقول القراء وقلوبهم…
°°°°°°°°°
حاوره/محمد عبدالشافي القوصي
المصدر: مجلة الأدب الإسلامي/السنة الثالثة/العددان التاسع والعاشر/رجب-ذو الحجة1416هـ، ص170-173، تنشر باتفاق خاص مع مجلة الأدب الإسلامي.