(( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا . . ))
ما تزال الأمة المسلمة تعاني من دسائس اليهود ومكرهم ما عاناه أسلافها من هذا المكر ومن تلك الدسائس غير أن الأمة المسلمة لا تنتفع – مع الأسف – بتلك التوجيهات القرآنية وبهذا الهدى الالهي : (( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ؟ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ؟ ))
ا تنتفع الأمة المسلمة بما انتفع به أسلافها فغلبوا كيد اليهود ومكرهم في المدينة والدين ناشئ ، والجماعة المسلمة وليدة .
وما يزال اليهود – بلؤمهم ومكرهم – يضللون هذه الأمة عن دينها ويصرفونها عن قرآنها كي لا تأخذ منه أسلحتها الماضية ، وعدتها الوافية ، وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها الحقيقية وينابيع معرفتها الصافية . وكل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء اليهود ، سواء عرف أم لم يعرف أراد أم لم يرد ، فسيظل اليهود في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها – حقيقة العقيدة الإيمانية والمنهج الإيماني والشريعة الإيمانية ، فهذا هو الطرق . وهذه هي معالم الطريق .
كان لليهود في المدينة مكانتهم وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع اهلها ، ولم يتبين عداؤهم سافرا . ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد ، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع هذه العقيدة !! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة ، وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به ، وكان هناك من يدافع عنهم ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم (( كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي من بني قينقاع ، واغلاظه في هذا للرسول صلى الله عليه وسلم )) .
إن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربونها بالسيف والرمح فحسب ، إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها !! كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك ، ونثر الشبهات وتدبير المناورات !
كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها البإيمانية التي منها انبثق كيانها ومنها قام وجودها فيعملون فيها معاول الهدم والتوصية ذلك أنهم كانوا يدركون – كما يدركون اليوم تماما (1) – أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل ولاتهن إلا أذا وهنت عقيدتها ولا تهزم إلا أذا هزمت روحها ، ولا يبلغ اعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان مرتكزة إلى ركنةه سائرة على نهجه حاملة لرايته ممثلة لحزبه منتسبة إليه ، معتزة بهذا النسب وحده .
من هنا يبدو أن أعدى أعداء الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية ، و يحيد بها عن منهج الله وطريقه ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة .
إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيئ معركة هذه العقيدة وحتى حين يريد اعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها ، ملتزمة بمنهجها ، مدركة لكيد أعدائها . . ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين من خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال آمنون من عزمة هذه العقيدة في الصدور .
وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة والتشكيك فيها والتوهين من عراها استخدم اعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة . ولكن لنفس الغاية القديمة : (( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم )) .
لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا . . . كان يأخذ الجماعة المسلكة بالتثبيت على الحق الذي هو عليه وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب ، ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية .
وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة وأهذافهم الخطرة وأحقادهم على الإسلام والمسلمين لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم .
وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود فبين لها هزال أعدائها وهوانهم على الله ، وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء ، كما يبين لها أن الله معها وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك وأنه سيأخذ الكفار اليهود بالعذاب والنكال كما أخذ المشركين من قبل .
وعانت أمتنا التلبيس والدس من يهود .
(( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون )) وهذه خصلة أهل الكتاب يجب أن يبصرها المسلمون ويأخذوا حذرهم منها .
خصلة التلبيس والدس .
وهذا الذي ندد الله به – سبحانه – من اعمال أهل الكتاب حينذاك . هو الأمر الذين درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة . . . فهذا طريقهم على مدار التاريخ .
اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى . . ثم تبعهم الصليبيون .
وفي خلال القرون المتطاولة دسوا – مع الأسف – في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون !! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله – اللهم إلا هذا الكتاب الذي تكفل الله بحفظه أبد الأبدين والحمد لله على فضله العظيم .
دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله ودسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود .
ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني .
وهناك دس جد خطير .
لقد دسوا رجالا وزعامات للكيد لهذه الأمة .
فالمئات والألوف كانوا دسيسة في العالم الإسلامي – وما يزالون في صورة مستشرقين وتلاميذ مستشرقين الذين يشغلون مناصب الحياة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : أنهم مسلمون !!
والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة (( أبطال )) مصنوعين على عين الصهيونية (2) ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين .
وما يزال هذا الكيد قائما مطردا ، وما تزال مثاة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ ، والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون .
وتستمر حملة التشكيك من اليهود في هذه الأمة المسلمة :
(( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم )) وهي طريقة ماكرة لئيمة ، فإن اظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه يوقع بعض النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته . . يوقعهم في بلبلة واضطراب . . . فإذا رأوا اليهود يؤمنون ثم يرتدون حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص من هذا الدين وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال .
وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم . في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل . ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة .
إن لهذه القوى اليوم في العالم الإسلامي جيشا جرارا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين – وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين – يحملون أسماء المسلمين لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة !! وبعضهم من (( علماء )) المسلمين !!
هذا الجيش من العلماء موجه لخلخلة (3) العقيدة في النفوسبشتىالاساليب بصورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة . . وتوهين قواعدها من الأساس . . والتوهين من شأن العقيدة والشريعة سواء .
وتأويلها وتحميلها ما لاتطيق والدق المتصل على (( رجعيتها )) ! والدعوة للتفلت منها وأبعادها عن مجال الحياة اشفاقا عليها من الحياة أو اشفاقا على الحياة منها !! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها . . وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية . . وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخرج من الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثرا . ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص !!
وهم بعد مسلمون !! اليسوا يحملون اسماء إسلامية ؟ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار !! وبهذه المحاولات يكفرون آخره !! (( ويؤدون بهذه وتلك دور اليهود القديم )) ولا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم !
تظاهروا بالإسلام – ومعكم دليل إسمي – أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم .
(( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم )) .
وعملاء الصهيوينة اليوم كذلك . . إنهم متفاهمون فيما ينهم على أمر . . هو الاجهاز على العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود . . وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة ، ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة (4) .
ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض . . ثم يتظاهرون – بعضهم على الأقل – بغير ما يريدون وما يبيتون . . والجو من حولهم مهيأ . . والأجهزة من حولهم معبأه . . والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلهم مغيبون أو مشردون !!
لقد تحدث القرآن كثيراً عن يهوده وشرح نفسياتهم الشريرة وليس مصادفة أن يفصل القرآن هذا فإن تاريخ أمة من الأمم لم يشهد ما شهده تاريخ بني إسرائيل من قسوة وجحود وتنكر للهداة فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عدداً من أنبيائهم – وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين – وقد كفروا أشنع كفر واعتدوا . . أشنع الاعتداء وعصوا أبشع معصية وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل ! !
ومخاليق تقتل الأنبياء وتذبحهم وتنشرهم بالمناشير لا ينتظر منها إلا استباحة دماء البشر واستباحة كل وسيلة قذرة تنفس عن أحقادهم وفسقهم .
والقرآن الكريم يقص علينا العجب من سلوك يهود العجيب : (( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبه بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين . . من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين )) .
في قصة هذا التحدي نطلع على سمة أخرى من سمات اليهود . . . سمة عجيبة حقاً . . لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده مبلغاً يتجاوز كل حد . . وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل . . لقد سمعوا أن جبريل ينزل بالوصي من عند الله على محمد – صلى الله عليه وسلم – ولما كان عداؤهم لمحمد قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لج بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة فيزعموا أن جبيريل عدوهم لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب ، وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد من جراء صاحبه حبريل ، ولو كان الذي ينزل بالوحي هو ميكائيل لآمنوا فميكائيل يتنزل بالرخاء والمطر والخصب .
إنها الحماقة المضحكة . . . ولكن الغيظ والحقد يسوقانه إلى كل حماقة وإلا فخاب لهم يعادون جبريل ؟ وجبريل لم يكن بشراً يعمل معهم أو ضدهم ولم يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير ؟ إنما عبد الله يفعل بأمره ولا يعصي الله ما أمره !
ويمتد حقد اليهود الأسود من جبريل عليه السلام إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم .
وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . .
وهذ الطبيعة التي تبدو هنا في اليهود هي الطبيعة الكنود . طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد ، وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو متقطع منها ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى التي تربط البشرية جمعاء .
وهكذا عاش اليهود في عزلة .
يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة ويتربصون بالبشرية الدوائر ويكنون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض ، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها الغنائم ، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطف~ ، وهلاكا يسلطونه على الناس ، ويسلطه عليهم الناس . . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة : (( بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده )) .
وحقد اليهود الأسودعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن وعلى الإسلام جعلهم يؤثرون الشرك – وهم أهل كتاب – على الإسلام .
وهم اليوم يؤثرون الشيوعية .. أي صلة أخرى فاسدة على هذا الدين بل أنهم ينشئون هذه المذاهب الإلحادية (5) لمحاربة الإسلام !
عن محمد بن اسحاق قال – بإسناده عن جماعة – : إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري ، وحيي بن أخطب النضري ، وكنانة بن أبي الحقيق النضري ، وهوذة بن قيس الوائلي ، وأبو عمار الوائلي ، في نفر من بني النضير ، ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرجوا حتى قدموا على قريش في مكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت قريش : يا معشر يهود . . إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، أفديننا خير أم دينه ؟؟ قالوا – اليهود- بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه !!! فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم : (( ألم تر ألى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين أمنوا سبيلا )) إلى قوله تعالى : (( أم يحسدون الناس على ما أتاهم من فضله . . )) ؟
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم واسـتعدوا له .
وصدق الله العظيم : (( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . . ))
إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم وأن تكون كذلك خطابا عاما خرج مخرج العموم لأنه يتضمن أمرا ظاهرا مكشوفا يجده كل إنسان .
فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد عداوة للذين آمنوا ، وإن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى ويجده كل من يتلأمل !!
نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين أمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا . . ولكن تقديم اليهود هنا حيث يقوم الظن بإنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين – بما أنهم أهل كتاب – يجعل لهذا التقديم شأنا خاصا غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي !! إنه – على الأقل – يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا !! ونقول : إن هذا (( على الأقل )) ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا .
وحين يستأنس الإنسان في هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائما أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمدا من عداء الذين أشركوا .
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة ، وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة ، وتضمن القآن من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الامة المسلمة في تاريخها الطويل والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا وما تزال حتى اللحظة (6) يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا .
لقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم أول مقدمه إلى المدينة ، معاهدة تعايش مع اليهود ، ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة ، ولكنهم لم يفوا بهذا العهد ، شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل حتى قال الله فيهم : (( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون * أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون * ولما جائهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )) .
ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج ، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تعد لليهود فرصة للتسلط .
ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية وأفادتها منذ قرون البي (( في بابل )) والعبودية في مصر . . والذل في الدولة الرومانية . . ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الإول .
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة : (( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا )) .
ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه – لم يسلم إلا كتاب الله الذي تكفل الله بحفظه سبحانه – ويكيدون بالدس بين صفوف المسلمين . . وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض . . حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة . . وهم يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين . .
ويشنوها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين !!
وصدق الله العظيم : (( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والدين أشركوا )) .
إن الذي ألب الأحزاب على الذولة المسلمة الناشئة في المدينة ، وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم وبين قريش من مكة وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . . يهودي .
والذي ألب العوام ، وجمع الشراذم ، وأطلق لشائعات في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وماتلاها من النكبات . . . يهودي .
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الروايات والسير . . . يهودي .
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال (( الدستور )) بها في عهد السلطان عبد الحميد ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي (( البطل )) أتاتورك . . . يهودي .
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود !!
ثم لقدكان وراء النزعة المادية الالحادية (( يهودي )) ووراء النزعة الحيوانية يهودي . . . ووراء هدم الاسرة والروابط المقدسة في المجتمع . . . يهودي (7) . . .
ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمد ، وأعرض مجالا من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون – على ضراوتها – قديما وحديثا ، إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها ، وكذلك المعركة مع فارس في العهد الأول . . . أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية (( التي تعد ماركس مجرد فرع لها )) .
إن لقصة بني اسرائيل التي فصلها القرآن أوسع تفصيل حكمة متشعبة الجوانب.
. من جوانب هذه الحكمة أن بني اسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها . . .
فقد كانوا حربا على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول ، وهم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين جميعا . . وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة . . كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حولالعقيدة وحول القيادة . . وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة ، فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة لتعرف من هم أعداؤها ؟ وما طبيعتهم ؟ وما وسائلهم ، وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم ؟
ولقد علم الله سبحانه أنهم هم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله ، كما كانوا أعداء هدي الله في ماضيهم كله ، فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا. . ووسائلهم كلها مكشوفة .
. ومن جوانب هذه الحكمة أن بني اسرائيل هم أصحاب آخر دينقبل دين الله الأخير وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة من التاريخ طويلة . . ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ووقع منهم النقض المتكررلميثاق الله معهم ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف . . كما وقع فيأخلاقهم وتقاليدهم فقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة – وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها – بتاريخ القوم . .
وتقلبات التاريخ ، وتعرف مزالق الطريق وعواقبها ممثله في حياة بني اسرائيل وأخلاقهم ، لتضم هذه التجربة – في حقل العقيدة والحياة – إلى حصيلة تجاربها وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون ولتتقي – بصفة خاصة – مزالق الطريق ومداخل الشيطان ، وبوادر الانحراف ، على هدي التجارب الأولى .
. ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني اسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل ، وقد علم الله أن الأمة حين يطول عليها الامد تقسو قلوبها وتنحرف أجيال منها ، وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة . . ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني اسرائيل ، فجعل الله أمام أئمة الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة نماذج حية من العراقيل التي تلم بالأمم ، يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته .
وبعد فإن المعركة بين الإسلام ويهود لا تزال دائرة وستظل كذلك لأن اليهود لا يرضون إلا بتدمير هذا الدين .
كانوا – بعد أن غلبهم الإسلام – يحاربون هذا الدين بالمؤامرات والدسائس وتحريك عملائهم في الظلام .
أما اليوم فقد ازدادت المعركة ضراوة وسفورا و تركيزا بعد أن جاءوا من كل فج وأعلنوا أنهم أقاموا اسرائيل .
كانت أطماعهم ترف من بعيد إلى بيت المقدس ، أما اليوم فهم منه على بعد خطوات . . ولا يكف أطماعهم إلا أن يغلبهم الإسلام .
ولقد دارات – من قبل- في بيت المقدس . . فقد أفسد اليهود في الارض المقدسة فبعث الله عليهم عبادا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولا .
لكن على المسلمين – وهم يتأهبون للمعركة – أن يفهموا قرآنهم ، لقد كانت رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن ابراهيم واسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا ، وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير صلى الله عليه وسلم لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ، وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تنكشف عنها للنظرة الأولى .
وسوف ينازع بنو اسرائيل المسلمين في وراثة المسجد الأقصى .
وسوف تدور المعركة .
(( فأذا جاء وعد اولاهما بعثنا عليك عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولا )) .
فهذه هي الأولى : يعلون في الأرض المقدسة ، ويصبح لهم فيها قوة وسلطان ، فيفسدون فيها فيبعث الله عليهم عبادا من عباده أولي بأس شديد ، وأولي بطش وقوة . . يستبيحون الديار . . ويروحون فيها ويغدون باستهتار . . ويطأون مافيها ومن فيها بلا تهيب . . (( وكان وعد الله مفعولا )) لا يخلف ولا يكذب .
وتتكرر قصة الافساد . . ويتكرر الاذلال والطرد .
وكلما عاد بنو اسرائيل إلى الافساد في الأرض فالجزاء من جنس حاضر والسنة ماضية (( وإن عدتم عدنا )) .
ولقد عادوا إلى الافساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة العربية كلها . . ثم عادوا إلى الافساد فسلط الله عليهم عبادا آخرين ، حتى كان العصر الحديث فسلط الله عليهم (( هتلر )) ولقد عادوا اليوم إلى الافساد في صورة (( اسرائيل )) التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقا لوعد الله القاطع (( وإن عدتم عدنا )) ووفاقا لسنته التي لا تختلف وإن غدا لناظره قريب !!
ولا يهولن المسلم ما يراه من قوة وتهديد فانهم (( لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى )) . والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم وترى عصبيتهم بعضهم لبعض ، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد . . ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم ، إنما هو مظهر خارجي خادع . وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع ، فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور . . وما صدق المؤمنون مرة وتجمعت قلوبهم على الله حقا إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال . وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار . وما تزال الأيام تكشف حقيقة الاعجاز في (( تشخيص )) حالة الكافرين حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان زفي أي مكان بشكل واضح للعيان . ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين . . فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولو الأدبار كالجرذان حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء وسبحان العليم الخبير !!
الأستاذ / سيد قطب رحمه الله
نقلا عن كتيب ” معركتنا مع اليهود ” طبع دار الشروق – لبنان –
هـوامـش
(1) تأمل حملة التشكيك في العقيدة ، والتعبئة الالحادية في جيش عربي ضد الايمان بالله قبيل هزيمة 1967 بأسابيع !!! ثم الاصرار الطويل النفس على إبعاد الإسلام عن قضية فلسطين مثلا .
(2) وفي المستقبل القريب سنجعل الرئيس شخصا مسئولا ويومئذ لن نكون حائرين في أن ننفذ بجسارة خططنا التي سيكون (( دميتنا )) مسئولا عنها ، لكي نصل إلى هذه النتائج سندبر انتخاب أمثال هؤلاء الرؤساء ممن تكون صحائفهم السابقة مسودة بفضيحة ما أو صفقة أخرى مريبة .. إن رئيسا من هذا النوع سيكون منفذا وافيا لأغراضنا لأنه سيخشى التشهير وسيبقى خاضعا لسلطان الخوف …. البروتكول العاشر من بروتوكولات صهيون .
(3) لن نبيح قيام أي دين غير ديننا . ولهذا يجب علينا أن نحطم كل عقائد الايمان وستكون النتيجة المؤقتة لهذا هي إثمار ملحدين .. البروتوكول الرابع عشر .
(4) ولا أحد من الاعضاء سيفشي بالسر للغير ، والسبب هو أنه لا أحد يؤذن له بالدخول في عالمنا مالم يكن يحمل سمات بعض الأعمال المخزية في حياته .. البروتوكول الثالث عشر .
(5) لا تتصوروا أن تصريحاتنا جوفاء ، ولا حظوا هنا أن نجاح ماركس قد رتبناه من قبل . . . ونحن على الدوام نتبنى الشيوعية ونحتضنها متظاهرين بأننا نساعد العمال طوعا لمبدأ الأخوة والمصلحة الإنسانية . وهذا ما تبشر به الماسونية .. البروتوكول الثاني والثالث .
(6) صرخ جنود اليهود وهم يدخلون القدس في يونيو 1967 (( محمد مات ، وخلف بنات )) .
(7) هؤلاء بالترتيب هم ماركس .. فرويد .. دركايم .