يكاد يتفق جميع الباحثين الدارسين لتاريخ المورسكيين في شبه الجزيرة الأيبيرية, أن هؤلاء الأندلسيين المتحولين قسرا إلى النصرانية قد عاشوا حياة مبهمة و فريدة, جمعوا فيها بين اعتناقهم الجبري للنصرانية و ولائهم الخالد للإسلام, فعاشوا نصارى في الظاهر و مسلمين في الباطن. و تشبثوا بهذه الازدواجية العقدية طيلة القرن السادس عشر, محبطين بذلك جميع مشاريع إدماجهم, العنيفة (الإعدام, التعذيب, الطرد و التشتيت و مصادرة الأملاك) و الرحيمة (الموعظة و الزواج المختلط), و التي ترأسها الملك, رأس هرم الدولة, و محكمة التفتيش أعلى سلطة دينية. و هناك مؤرخون برروا طرد المورسكيين من الجزيرة الأيبيرية سنة 1609 بتشبثهم بالإسلام, حيث فقد كل من الملك و الكنيسة الأمل في تحويلهم إلى كاثوليكيين خُلّص لا يُشك في ولائهم للدولة الإسبانية و للدين الكاثوليكي.
و من أسرار تشبث المورسكيين بدينهم الإسلامي, استمرار الفقهاء (رغم ما يترتب على ذلك من مخاطر جسيمة) في داخل و خارج الأندلس بتثبيت الناس و نشر الفتاوى التي كانت تحث على الهجرة (كفتاوى الونشريسي للأندلسيين بوجوب الهجرة) أو التي كانت تنصح من لم يقدر على الهجرة بالحفاظ على الإسلام باطنا و الاعتقاد به سرا. و هذا النوع الثاني من الفتوى هو الذي سنعرضه في هذا الموضوع من خلال فتوى مفتي وهران أبي جمعة المغراوي للمورسكيين يوم 18 نونبر 1504م.
واقع مؤلم
1-الواقع الأندلسي سنة 1504 و الأحداث التي هيأت للفتوى:
كرونولوجيا للأحداث التي سبقت الفتوى:
-25 نونبر 1491م: توقيع معاهدة تسليم غرناطة بين الأمير أبي عبد الله و الملكين الكاثوليكيين, فرناندو و إيزابيلا. تنص المعاهدة على تسليم المملكة النصرية للملكين مقابل تعهدما باحترام الإسلام و المسلمين بها.
-2 يناير 1492م: دخول الملكين الكاثوليكيين لمدينة غرناطة و رفع الصلبان على أبراج قصر الحمراء إيذانا بسقوط آخر دولة مسلمة بالأندلس.
-1493-1498: تنظيم فرق تبشيرية من رهبان و راهبات للقيام بنشر النصرانية بين مسلمي مملكة غرناطة. (1)
-يوليوز 1499م: استدعاء الملك فرناندو للكاردينال فرانثيثكو خمنيث دي ثيثنيروث, مطران طليطلة, ليعمل على تنصير المسلمين بصرامة أكبر. أمر ثيثنيروث بجمع فقهاء مدينة غرناطة و المدن الأخرى و دعاهم إلى ترك الإسلام و اعتناق النصرانية ليكونوا أسوة لغيرهم، و أغدق المنح على من قبل ذلك و هدد بالوعيد و العقوبة لمن رفض.
فضعف بعضهم و قبل التنصير و تبعهم بعض العامة. و تمركز التنصير في حي البيازين من أحياء غرناطة الشعبية، وحوّل جامعها الأكبر إلى كنيسة سان سلباطور. فاندلعت سلسلة ثورات في مملكة غرناطة رفضا للتنصير:
-18 دجنبر 1499م: اندلاع ثورة حي البيازين و إخمادها بعد 10 أيام.
– يناير 1500م, اندلاع ثورة أخرى في قلعة قولجر بجبال البشرات بزعامة إبراهيم بن أمية و إخمادها في نهاية فبراير.
– نونبر 1500: ثورة في جبال فلابرش و مدينة بلفيق بألمرية.
-يناير إلى أبريل 1501م: اندلاع ثورة في جبال رندة بزعامة سليم الأزرق.
-20 يوليوز 1501م: قرار بتنصير مورسكيي غرناطة.
-11 فبراير 1502م: قرار يخير مسلمي قشتالة بين التنصر و النفي.
-17 فبراير 1502: حظر مغادرة مورسكيي قشتالة لأراضيهم.
في هذه الظروف العصيبة, أرسل أهل مملكة غرناطة و مسلمو قشتالة إلى علماء المغرب يستفتونهم في مصابهم و كيف يتعاملون مع قرار تنصيرهم الذي خيرهم بين الكاثوليكية و الويل و الثبور. فأجابهم الفقيه أبو جمعة الوهراني المغراوي.
ترجمة الفتوى
2- ترجمة فتوى أبي جمعة المغراوي للألخميادو.
فتوى أبي جمعة المغراوي وُجهت أساسا لمسلمي مملكة غرناطة و قشتالة, لأنه, و كما رأينا أعلاه, هما المنطقتان اللتان صدر فيهما قرار بالتنصير القسري آنذاك.
و قد عثر المؤرخون لحد الآن على ثلاث نسخ لهذه الفتوى المهمة للمورسكيين:
– الأولى بمكتبة الفاتيكان و قد عثر عليها العلامة المصري محمد عبد الله عنان أثناء أبحاثه هناك, و قد نشرها سنة 1958م في كتابه: “نهاية الأندلس و تاريخ العرب المنصرين”. كما يبدو أن المؤرخ البريطاني هارفي قد عثر على نفس النسخة العربية, و قام بترجمتها للإنجليزية سنة 1962م بمناسبة أشغال المؤتمر الأول للدراسات الإسلامية لقرطبة.
-النسخة الثانية هي ترجمة ألخميادية للفتوى: و توجد في الأكاديمية الملكية بمدريد, و قد نشر جزءا منها المؤرخ لونغاس سنة 1915م في كتابه “الحياة الدينية للمورسكيين”, و أجرى عليها تعديلات طفيفة. تاريخ النسخة العربية لهاته الفتوى المترجمة للألخميادو هو بداية رجب 910 هجرية (دجنبر 1504). بينما يعتقد أنها ترجمت للألخميادو سنة 1563م, حيث تحمل هذه النسخة هذا التاريخ. ما يبين أن هذه الفتوى ظلت مهمة حتى سنة 1563م.
-النسخة الثالثة هي أيضا ترجمة للألخميادو: توجد في مكتبة ميجان بإيكس أون بروفانس بفرنسا . تاريخ النسخة العربية لهاته الفتوى المترجمة للألخميادو هو رجب 909 هجرية (دجنبر 1503). و قد نشر هذه النسخة الالخميادية المؤرخ الفرنسي كانتينو في مجلة “الجريدة الأسيوية” سنة 1927.
تقول الباحثة الإسبانية مارية خيسوس روبييرا ماتا بأن فتوى أبي جمعة الوهراني كتبت سنة 1504 بالعربية, و حُملت إلى الجزيرة الأيبيرية عبر بلنسية التي كان ميناؤها معبرا للقادمين من و إلى الأندلس.و قد أعاد كتابتها مدجن أراغوني في العشرية الثانية من القرن 16م و حملها إلى أراغون مع نصوص عربية أخرى. هناك, و حينما فُرض التنصير على مسلمي أراغون (سنة 1526م) و بدأ ضغط محاكم التفتيش عليهم, ترجم المورسكيون هذه الفتوى إلى الإسبانية بالحروف العربية (الألخميادو) سنة 1563م. و هي النسخة المحفوظة بمدريد.
سنة 1609م, و قبيل الطرد النهائي من الأندلس, ترجم المورسكيون الأراغونيون هذه الفتوى مرة أخرى إلى الألخميادو. و هي النسخة المحفوظة اليوم بفرنسا.
تعريف بصاحب الفتوى
2-تعريف بصاحب الفتوى أبي جمعة المغراوي الوهراني.
هو” أحمد بن أبي جمعة المغراوي ثم الوهراني الشيخ الفقيه الحافظ المطلع المحقق المشارك العلامة أبو العباس , قال ابن عسكر: قدم فاسا و درس بها, و كان من الفقهاء الأعلام, ألّف كتاب “جامع جوامع الاختصاص و التبيان في ما يعرض بين المعلمين و آباء الصبيان” أخذت عنه بواسطة. و مات في العشرة الثالثة من القرن العاشر” أي أنه مات ما بين 920 و 930 هجرية, الموافق ل 1514و 1524 ميلادي.
ينسبه البعض إلى بلدة ألمغرو بمقاطعة قلعة رباح الأندلسية, نظرا لتشابه اسمه المغراوي بهذه البلدة, لكن الباحث الجزائري يوسف عدار, الذي بحث في سيرة العلامة محمد شقرون المغراوي الوهراني, ابن صاحب الفتوى, نفى نسبتهم إلى تلك البلدة, و إنما لقبيلة مغراوة البربرية.
و هو شريف النسب لأن بوجمعة جده هو ابن محمد بن عمر الهواري, دفين وهران, بن عثمان بن عياشة بن عكاشة بن سيدي الناس بن أحمد بن محمد بن علي بن الأمير أمغار ابن أبي عيسى بن محمد بن موسى بن سليمان بن موسى بن محمد بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
- الفتوى
نص الفتوى كما وردت كتاب “دولة الإسلام في الأندلس” لمحمد عبد الله عنان, ص 342-344, الجزء السابع.
“الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما”
إخواننا القابضين على دينهم، كالقابض على الجمر، ممن أجزل الله ثوابهم فيما لقوا في ذاته, وصبروا النفوس والأولاد في مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله من مجاورة نبيه في الفردوس الأعلى من جناته، وارثوا سبيل السلف الصالح في تحمل المشاق وإن بلغت النفوس إلى التراق، نسأل الله أن يلطف بنا وأن يعيننا وإياكم على مراعاة حقه بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً.
بعد السلام عليكم من كاتبه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده وأحوجهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله تعالى أحمد ابن بوجمعة المغراوي ثم الوهراني.
كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلاً من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء, بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار, والحشر مع الذين أنعم الله عليهم من الأبرار, ومؤكداً عليكم في ملازمة دين الإسلام، آمرين به من بلغ من أولادكم. إن لم تخافوا دخول شر عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وإن ذاكر الله بين الغافلين كالحي بين الموتى, فاعلموا أن الأصنام خشب منجور, وحجر جلمود لايضر ولاينفع, وأن الملك ملك الله, ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله, فاعبدوه واصطبروا لعبادته، فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء، لأن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن إلى قلوبكم، والغسل من الجنابة, ولو عوماً في البحور. وإن مُنعتم فالصلاة قضاء بالليل لحق النهار, وتسقط في الحكم طهارة الماء, وعليكم بالتيمم ولو مسحاً بالأيدي للحيطان, فإن لم يمكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء والصعيد, إلا أن يمكنكم الإشارة إليه بالأيدي والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمَّم به، فأقصدوا بالإيماء، نقله ابن ناجي في شرح الرسالة لقوله صلى الله عليه وسلم فأتوا منه ما استطعتم.
وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية و انووا صلاتكم المشروعة, وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم, ومقصودكم الله. وإن كان لغير القبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام، وأن أجبروكم على شرب خمر، فاشربوه لا بنية استعماله, و إن كلفوا عليكم خنزيراً فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم, ومعتقدين تحريمه, و كذا إن أكرهوكم على محرّم, وإن زوجوكم بناتهم, فجائز لكونهم أهل الكتاب, وإن أكرهوكم على إنكاح بناتكم منهم, فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وأنكم ناكرون لذلك بقلوبكم, ولو وجدتم قوة لغيَّرتموه.
وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام فافعلوا منكرين بقلوبكم, ثم ليس عليكم إلاّ رؤوس أموالكم, وتتصدقون بالباقي، إن تبتم لله تعالى. وإن أكرهوكم على كلمة الكفر, فإن أمكنكم التورية والإلغاز فافعلوا، وإلا فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك, وإن قالوا اشتموا محمداً فإنهم يقولون له مُمَدْ، فاشتموا مُمَداً، ناوين أنه الشيطان, أو مُمَد اليهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا عيسى ابن الله, فقولوها إن أكرهوكم, و انووا إسقاط مضاف أي عبد اللاه مريم معبود بحق, و إن قالوا قولوا المسيح ابن الله, فقولوها إكراها, و انووا بالإضافة للملك كبيت الله لا يلزمه أن يسكنه أو يحل به, و عن قالوا قولوا مريم زوجة له, فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بني إسرائيل, ثم فارقها قبل البناء. قاله السهيلي في تفسير المبهم من الرجال في القرآن. أو زوجها الله منه بقضائه و قدره. و إن قالوا عيسى قد توفي بالصلب فانووا من التوفية والكمال والتشريف من هذه, وإماتته وصلبه وإنشاد ذكره, و إظهار الثناء عليه بين الناس, وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلو, وما يعسر عليكم فابعثوا فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبون به, وأنا أسأل الله أن يديل الكرة للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهراً بحول الله, من غير محنة ولا وجلة, بل بصدمة الترك الكرام.
ونحن نشهد لكم بين يدي الله أنكم صدقتم الله و رضيتم به, ولابد من جوابكم والسلام عليكم جميعاً.
بتاريخ غرة رجب عام عشرة وتسعمائة عرف الله خيره
“يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى”
غرة رجب 910 هجرية, (18-11-1504م).