طليطلة تلك المدينة العتيقة, عظيمة القدر, جليلة الوضع, قديمة البناء, منيعة حصينة, كثيرة المياه و الثمار. دخلها الإسلام بدخول طارق رحمه الله إلى الأندلس سنة 91ه (711م) و كانت أول حاضرة إسلامية كبرى تسقط بيد النصارى في 6 ماي 1085م , في هذا اليوم فُتحت أبواب المدينة للملك ألفونسو السادس و لجنوده بعد حصار طويل انتهى باستسلام حكامها و أهلها بعد أن حصلوا من الإسبان على عهود بحفظ أنفسهم و أموالهم و أهليهم و بنيهم و شريعتهم و أن يحتفظوا بقضاتهم و نظمهم و تقاليدهم و أن يحتفظوا كذلك بالمسجد الجامع لطليطلة.
هنا أحس المسلمون بعظم الخطب و هول المصيبة و دنو الرحيل عاجلا أم آجلا فسقوط مدينة عظيمة كهذه لابد أن تتبعها مدن أخرى هي أقل منعة و حصانة من طليطلة , و ساد بين الأندلسيين جو شديد التشاؤم أدركه الشاعر عبد الله ابن فرج اليحصبي, فأنشد يقول أبياتا سادت فيها روح الإستسلام:
يا أهل أندلس حثوا مطيكم****فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه و أرى****ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
و نحن بين عدو لا يفارقنا ****كيف الحياة مع الحياة في سفط (1)
لكن الأندلسيين لم يحثوا مطاياهم و لم يغادروا الأندلس رغم بدء انسلال العقد بل و بقوا في طليطلة نفسها و عاشوا مدجّنين تحت حكم النصارى, خاصة وأنه كانت لملك إسبانيا ألفونسو شهرة احترامه للمواثيق و العهود إضافة إلى أنه كان قد قضى سنوات عديدة في طليطلة لمّا كانت بيد المسلمين حيث أكرموه و ساعدوه على استرداد عرش قشتالة.
يقول الدكتور نعنعي عبد المجيد في كتابه “الإسلام في طليطلة” : (و لكن إلى أي حد كان ألفونسو السادس صادقا في نهجه المرن المتسامح مع المسلمين؟ و إذا كان حقا, و كما تؤكد المصادر الإسبانية, فهل كان قادرا على السير شوطا بعيدا في هذا المنحى المخالف لاتجاهات سائر المحيطين به من علمانيين و رهبان؟ ذلك أنه في الشهر التالي لدخول طليطلة و أهلها في طاعة هذا الملك غادرها في زيارة رعائية إلى أراضي ليون فأقدم من حوله و بصورة خاصة زوجته الفرنسية الأصل كونستانس و برناردو كبير الرهبان دير سهاغون و الذي سيصبح فيما بعد رئيس أساقفة طليطلة على اتخاذ قرار بتحويل مسجد المدينة الجامع إلى كاتدرائية خلافا للعهود و المواثيق الصادرة عن ألفونسو السادس. ..و بالرغم من المعارضة الشديدة التي أبداها حاكم المدينة سسندو و من امتعاض السكان المسلمين فقد تمت عملية تحويل المسجد بتهديم محرابه و إقامة مذبح مكانه كما رفع جرس على مأذنته بحضور جمع كبير من مقدمي ووجهاء الإسبان النصارى. )
(ومع أن المؤرخين الإسبان يؤكدون أن ألفونسو السادس, الذي طالما عرف باحترامه لعهوده و مواثيقه, استشاط غضبا عندما عرف بتحويل مسجد طليطلة إلى كاتدرائية و قطع رحلته عائدا إلى عاصمته الجديدة إلا أن كل شيء بقي على حاله و برناردو صار فيما بعد رئيسا لأساقفة إسبانيا. فهل كانت زوجته و من حولها من رهبان أقوى منه و أكثر نفوذا فتغلبوا على إرادته الطيبة أم إنه كان في أعماقه موافقا على ما فعلوا و راضيا بما استحدثوا؟) (2)
هكذا فمصير جامع طليطلة لم يختلف عن مصير كل الجوامع الأندلسية بعد سقوط المدن الإسلامية بيد النصارى, فتم تحويله إلى كنيسة ثم هُدِّّم تماما بعد ذلك و أقيمت مكانه كاترائية طليطلة العظمى التي لا يغفل عن زيارتها اليوم الميمِّّم طليطلة.
يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان رحمه الله: (و تقع كنيسة طليطلة العظمى (الكاتدرائية) في وسط المدينة تقريبا, و هي تحتل مكان المسجد الجامع القديم, و قد كان هذا المسجد كنيسة قوطية قديمة, فحولها المسلمون وقت الفتح إلى مسجد طليطلة الجامع. و لما سقطت طليطلة في أيدي القشتاليين, كان من عهود التسليم التي قطعها ملك قشتالة على نفسه أن يبقى للمسلمين جامعهم إلى الأبد, يؤدون فيه شعائرهم أحرارا. بيد أنه لم يمض على ذلك سوى شهرين, حتى قام أسقف طليطلة الجديد بتحويل الجامع إلى كنيسة بالقوة القاهرة, ونصبت فيه الهياكل, ولم يغن احتجاج المسلمين و لا هياجهم شيئا. و في شهر ديسمبر سنة 1085م دشنت الكنيسة الجديدة في حفل ملوكي ضخم, و استمر بناء الجامع بعد تحويله إلى كنيسة إلى كنيسة قائمة قائما زهاء قرن و نصف حتى أمر بهدمه الملك فرنادنو الثالث في سنة 1227م, و أمر بأن تبنى مكانه الكاتدرائية الحالية, و هي من أعظم و أغنى الكنائس الإسبانية. وقد كانت طليطلة و ما زالت مقر الرياسة الدينية العليا للكنيسة الإسبانية.
و قد بدأ بناء هذه الكنيسة في عصر فرناندو الثالث, و لكن بناءها استمر دهرا و لم يتم إلا في سنة 1492م, في نفس الوقت الذي سقطت فيه غرناطة آخر القواعد الأندلسية. و توجد في نهاية صحنها, لوحة كتب عليها بالإسبانية ما يأتي : “في سنة 1492 فتحت غرناطة و كل ممتلكاتها, على يد الملكين فرديناند و إيسابيلا. و في نفس هذا العام في نهاية شهر يوليه , أخرج جميع اليهود من جميع ولايات قشتالة و أراجون و طليطلة. و في السنة التالية –سنة 1493- كان إتمام هذه الكنيسة”
و يوجد تحت القبة الكبرى, في شريط الحظيرة التي تحيط ببهو الهيكل الكبير, نقوش خشبية مصورة تمثل قصة حصار غرناطة و افتتاحها, و يبدو فيها فرسان معممون هم الفرسان المسلمون, كما تبدوا مناظر الحمراء و قلاعها. و تبدو صور الملك فرديناند و الملكة إيسابيلا كل على جواده, و تسمى هذه النقوش “افتتاح غرناطة في عصر الملكين الكاثوليكيين”Conquista de Granada en tiempo de los reyes catolicos, و تعتبر من أقيم ما تزدان به الكنيسة.)
(على أن أهم ما يثير طلعة الباحث بين ذخائر كنيسة طليطلة, هو علما السلطان أبي الحسن المريني, اللذان غنمهما الإسبان, في موقعة سالادو أو موقعة طريف, و هي الموقعة التي نشبت بين الإسبان, و بين الجيوش الأندلسية و المغربية المتحدة, بقيادة السلطان يوسف أبي الحجاج و السلطان أبي الحسن المريني الذي عبر إلى إسبانيا لنجدة المسلمين, و ذلك في 30 أكتوبر سنة 1340م (جمادى الأولى سنة 741ه) و هُزم فيها المسلمون هزيمة فادحة, و سقط معسكر السلطان أبي الحسن في يد النصارى, وكان من أسلابه هذان العلمان, اللذان مازالت تحتفظ بهما حتى اليوم إسبانيا النصرانية, عنوانا لظفرهما في ذلك اليوم المشهود.) (3)
زيارة السفير المغربي ابن عبد الوهاب لكنيسة طليطلة
يقول مؤرخ الأندلس المعاصر الأستاذ المصري عبد الله عنان رحمه الله : ( و قد زار الوزير ابن عبد الوهاب سفير ملك المغرب, طليطلة سنة 1691م, و هو يقدم لنا في رحلته التي سبقت الإشارة إليها, هذا الوصف الشائق لطليطلة و كنيستها العظمى و هو يسميها في وصفه بالمسجد, و يبدو في هذا الوصف عميق تأثره , بروعة منظرها و دخائرها:
” و أسوار هذه المدينة و حيطانها و أزقتها, باقية على حالها من عهد عمارتها من المسلمين, و أثرها أثر الحضارة, إلا أن أكثر أزقتها ضيقة جدا, ودورها باقية على حالها من البناء الإسلامي و تفصيله, و النقش في السقف و الحيطان بالكتابة العربية, و مسجدها الجامع من عجائب الدنيا, إذ هو مسجد كبير مبني كله من الحجارة الصلبة, القريبة الشبه بالرخام, و سقفه مقبوه من الحجارة و هو في غاية ارتفاع السمك, و علوه في الجو, و سواريه في غاية الضخامة و الصناعة العجيبة, و النقوش. و قد أحدث النصارى من هذا المسجد من جوانبه, زيادة في الوسط بشبابيك من نحاس أصفر, و فيها من تصاويرهم و صلبانهم و آلة الموسيقى المسماة عندهم أوركان, التي يضربون بها وقت صلواتهم, مع الكتب التي يقرأونها في الصلوات, شيء كثير. و قد جعلوا أمام هذا الشباك صورة المصلوب, وهو من ذهب يقابلونها في صلواتهم. و أبواب هذا المسجد غاية في الإتقان و الصناعة. و قد زادوا فوقها من الصور ما هو من عوايدهم, التي لا يمكنهم تركها. و من الزيادات المحدثة في جوانب هذا المسجد, بيوت كثيرة كبيرة مشتملة على خزاين من الأموال كثيرة, فيها من الذخائر و الأحجار الملونة, مثل الياقوت الأحمر و الأبيض و الأصفر و الزمرد, و التيجان المرصعة بالدر الفاخر, و الأحجار النفيسة التي لها بال و لا تقوم بمال. و مع هذه الذخائر تاج كبير من الذهب , و مع سواران من ذهب, زعموا أن ذلك من عهد المسلمين رحمهم الله) (4)
زيارة الغزال الفاسي لكنيسة طليطلة
يقول عبد الله عنانرحمه الله عن رحلة الغزال الفاسي إلى طليطلة: (و كذلك تحدّث الغزال الفاسي في رحلته عن كاتدرائية طليطلة, و قد زارها في سنة 1765م, و أفاض في وصف ضخامتها و روعتها, و ما تحتويه من الذخائر الجليلة, و هو يصفها بأنها ” الجامع”, و يقول إنه من أعظم المساجد, و له طراز خاص غير مسجد قرطبة, و بناؤه و سواريه من الرخام, و بوسط المسجد قبة عظيمة, نصبت تحتها كنيسة و زينت جدرانها بأنواع الصور و الرسوم , و علقت عليها الصلبان. و بأركان الجامع خزائن مملوء بالذخائر الإسبانية النصرانية, من تيجان و قلائد وخواتم و صلبان و غيرها من الذهب و غيره, و بعدها مرصع بالحجارة الكريمة. و هذه الذخائر تفوق نظائرها في أشكريال (بقصد قصر الإسكوريال). ثم يقول إنه مازالت بالمدينة مقبرة للمسلمين, و عليها ساريان من الرخام فيها أسماء و تواريخ بعض أكابر المسلمين) (5)
كاتدرائية طليطلة أثر نصراني محض
الجدير بالذكر أن النصارى هدموا المسجد الجامع بطليطلة بالكلية و أقاموا مكانه كاتدرائيتهم على الطراز النصراني القوطي, و هي بهذا لا تحمل أي أثر إسلامي و هذا ما أكده الأستاذ محمد عبد الله عنان قائلا: (ووصف الكنيسة العظمى فيما تقدم “بالجامع”, يرجع إلى كونها تحتل موقع المسجد الجامع القديم, و يقارنها الغزال في وصفه بجامع قرطبة, و لكن الواقع أن جامع قرطبة, بالرغم من تحويله إلى كنيسة بل كنائس, مازال يحتفظ بشكله و أوضاعه الإسلامية من عمد و بوائك و غيرها. أما كنيسة طليطلة فهي أثر نصراني محض. ) (6)
آخر من تلى القرآن العظيم بجامع طليطلة قبل أن يصير كنيسة
يقول الدكتور نعنعي عبد المجيد : (و كان آخر من تلى القرآن الكريم و أقام الصلاة في هذا المسجد من المسلمين العالم الفقيه الشيخ المغامي (7) . تم ذلك في شهر تموز من العام 1085م.)(8)
فمن يكون أوّل من يتلوا آيات كتاب الله به بعد انقطاع 923 سنة؟
و الحمد لله رب العالمين.
كتبه أبو تاشفين هشام بن محمد المغربي غفر الله له و لوالديه و لجميع المسلمين و المسلمات.
الهوامش :
(1) المقري, نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب, ج6 ص 84.
(2) “الإسلام في طليطلة” دكتور نعنعي عبد المجيد. ص 306-307.
(3) -” الأثار الأندلسية الباقية في إسبانيا و البرتغال” لمحمد عبد الله عنان رحمه الله. ص 83-90.
(4) (رحلة الوزير في افتكاك الأسير) ص 105-106. -” الأثار الأندلسية الباقية في إسبانيا و البرتغال” لمحمد عبد الله عنان رحمه الله. ص 83-90.
(5) (رحلة الغزال ص 67-68). -” الأثار الأندلسية الباقية في إسبانيا و البرتغال” لمحمد عبد الله عنان رحمه الله. ص 83-90.
(6)-” الأثار الأندلسية الباقية في إسبانيا و البرتغال” لمحمد عبد الله عنان رحمه الله. ص 83-90.
(7) ترجم له ابن بشكوال في الصلة رقم 1225 فعرفه بأنه: محمد بن عيسى بن فرج التميمي المغامي المقرئ من أهل طليطلة. و كان عالما بالقراءات ووجوهها, ضابطا لها, مثقفا لمعانيها, إماما ذا فضل و دين.
(8)”الإسلام في طليطلة” دكتور نعنعي عبد المجيد. ص 306-307.
°°°°°
ملاحظة لجمال الأحمر–أستاذ جامعي
ربما وقع خطأ مطبعي في البيت الآتي:
و نحن بين عدو لا يفارقنا ****كيف الحياة مع الحياة في سفط (1)
أتوقع أن كلمة الحياة الأخيرة قد تحرفت عن (الحيات)، حتى يستقيم البيت، هكذا:
ونحن بين عدو لا يفارقنا ****كيف الحياة مع الحيات في سفط
فيصير المعنى: كيف الحياة مع الحيات في صندوق واحد؟؟؟
وقد افترضت كلمة (الجُنـاة)، لكن لا يستقيم المعنى مع كلمة سفط، وبالتالي فإن الاحتمال الثاني مرفوض..