شيخ الإسلام مصطفى صبري: حياته وفكره
-
«إن الإسلام جنسيّة.. إنّ جنسيّته فوق الجنسيّات.. ذلك أن أفضل الجنسيّات ما يكون سبباً لتأسيس الوجدان المشترك بين أفراد الجنس، إذ بهذا الاشتراك فقط يحصل بينهم الاتحاد الحقيقي الذي هو الاتحاد الفكري، ومن هنا لم يفضل عليه الاتحاد القومي لعدم كفايته في تأسيس الوجدان المشترك ولعدم قابليّته للتوسّع »
لقد كان منصب شيخ الإسلام في الخلافة العثمانيّة يمثّل أعلى سلطة بعد الخليفة. وعلى الرغم من نكسته في أواخر أيّامها وسقوطه إلى الترتيب الثالث في هرم السلطة حين أصبح نائباً للصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، إلاّ أنّه ظل المسؤول الأوّل عن رسم سياسة الدولة الشرعيّة ومراقبة تقيّد القوانين الصادرة بالشريعة الإسلاميّة… وقد احتلّ شيخنا منصب مشيخة الإسلام عام 1919 واستقال منه عام 1920. فهل حاز مصطفى صبري لقبه هذا من حيازته للمنصب أم استحقّه لسيره على هدي سلفه الصالح ممّن حمل هذا اللقب من قبله، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللـه وغيره من العلماء العاملين في الدفاع عن الإسلام والذود عن حرمته؟ هذا السؤال الذي سنجيب عنه في هذا البحث بعون اللـه.
ولد مصطفى صبري في بلدة توقاد والخلافة العثمانية آيلة للمغيب.. وقد تكالبت عليها قوى الكفر يبثّون سمومهم من الداخل والخارج، وأذناب الكفر من دعاة التغريب والعلمانيّة في أوجّ قوّتهم يرون أنّ الإسلام هو العقبة الأساسيّة في طريق صعودهم وتألّقهم، والماسونيّة تلاميذ الصهيونيّة يزرعون بذور القوميّة والعرقيّة ليقطعوا جسد الأمّة ويقسّموها… في هذا المحيط المؤسف بدأ رحمه اللـه دراسته الشرعيّة في بلدته، وبعد إتمامه حفظ القرآن توجّه إلى قيصريّة حاضرة منطقته العلمية فتتلمذ على يد شيخه خوجه أمين وأخذ عنه جانباً من العلوم العقلية والنقليّة، ثمّ شدّ رحاله إلى عاصمة الخلافة آنذاك استانبول ملتحقاً بجامع السلطان محمّد الفاتح الذي كان يعتبر كلّية لتخريج الدعاة. وقد شدّ انتباه مشايخه ومعلّميه بقوّة حفظه وشدّة ذكائه وسرعة تحصيله، وما إن بلغ عامه الثاني عشر حتّى تقلّد منصب مدرّس في جامع الفاتح، هذا المركز الذي كان لا يحصل عليه أحد قبل إتمام العشرين أو أكثر من العمر.. وإن دلّ حصوله على هذا المركز على شيء، فإنّه يدلّ على كثرة علمه وتفوّقه على أقرانه..، ولقد جذبت أخباره السلطان عبدالحميد رحمه اللـه فقرّبه منه وعيّنه أميناً على مكتبته وجعله ضمن حاشية من العلماء على الرغم من حداثة سنّه. كما ترأّس الشيخ مجلّة بيان الحقّ الصادرة عن الجمعية العلمية عام 1906 وهو في ريعان شبابه، وعندما أسّس السلطان محمد رشاد عام 1918 دار الحكمة اختاره عضواً فيها. ودار الحكمة كانت مؤسّسة مهمّتها الأساسيّة مواجهة أعداء الإسلام العلمانيين والتصدّي لهم وتفنيد آرائهم وفضح أساليبهم وإيجاد الحلول الإسلامية للقضايا المعاصرة بدلاً من استيرادها من الكفّار وتطبيقها على علاّتها.
n رحـــلـــتــــه مـــع الســــياســــة n
بدأ حياته السياسية حين مثّل منطقته توقاد في مجلس المبعوثان العثماني (البرلمان) عام 1908 في زمن السلطان عبدالحميد الثاني، وكان سبب دخوله هذا المجلس كما يروي: نصرة الحقّ والدفاع عن الشرع وإبداء رأيه الشرعي من خلاله. كما أنّه تقلّد منصب مشيخة الإسلام عام 1919 حين استلم حزب الحرّية والائتلاف الوزارة وتولّى رئاسة الوزراء نيابة عن الصدر الأعظم مزيد باشا حين سافر الأخير إلى مؤتمر باريس، ولكنّ اختلافه بالرأي مع الوزراء جعله يستقيل ويتخلّى عن منصبه عام 1920م. ومع استقالته هذه بدأ نشاطه السياسي المعارض وبدأت معاناته في دفاعه عن الإسلام وجهاده في سبيله.
n فـــكـــره وجــهــــاده n
إعتمد فكره على ثلاث نقاط هي: أ- إعادة الخلافة الإسلاميّة. 2- التمسّك بالشريعة وتطبيقها على منهج أهل السنّة والجماعة. 3- التصدّي للعلمانية ودعاة التغريب والقضاء على مظاهره الخلقية ونبذ التبعية السلوكيّة.
على الرغم من افتقاره رحمه اللـه إلى الكادر الإسلامي القوي بجانبه إلاّ أنّه لم يخضع ويستسلم بل قام بالدفاع عن المفهوم الإسلامي في الحكم ونادى به، وكان جريئاً في الحقّ سريع الغضب في سبيله، ولقد كان لتصدّي الشيخ لدعاة التغريب والعلمانيين من مفكّرين وكتّاب وسياسيين وأصحاب سلطة أمثال حركة الاتّحاد والترقّي وجمعية تركيا الفتاة الماسونيتين الأثر الكبير في معاناته، حيث أجبره رجال الاتّحاد والترقّي عام 1922 حين استلموا زمام الوزارة على ترك استانبول فهاجر إلى تراقيا الغربية (في اليونان حاليّاً) فبدأ بجمع المسلمين هناك وتوحيد صفوفهم، وأنشأ صحيفته بارن (الغد)، وقد اختار هذا الاسم لصحيفته مستبشراً بغدٍ مشرق. ومن خلال صحيفته هذه بدأ يفنّد أقوال العلمانيين ويردّ على ترّهاتهم ويبيّن ارتباطهم بالغرب وتبعيّتهم له ويحذّر المسلمين من الوقوع في حبالهم وبراثنهم موضحاً شدّة خطرهم على الأمّة الإسلامية ومحاولتهم لهدم دينها وشرعها: «إنّ الضغط على الدولة الإسلامية لكفّها عن العمل بقوانين الشرع الإسلامي كان يأتي في الزمن القديم من الدول الصليبية وكان يقتصر على مسألة التسوية بين المسلم والذمّي وكان لهم عذر في ذلك أو على الأقلّ عذر في الظاهر، والآن ينوب عن الدول الأجنبية الضاغطة فريقٌ من المسلمين المتعلّمين في مدارس تلك الدول نيابة تعدّت حدود الأصالة غير معذورين ولا مقتصرين على مسألة دون مسألة، فهؤلاء النواب عن الأعداء أشدّ خطراً من الأعداء».(1) وحين استلم الكماليّون الحكم وأسقطوا الخلافة وطردوا آل عثمان من تركيا، لم ينسوا موقف الشيخ منهم وفضحه لعمالتهم فاعتبروه مجرماً وجعلوا اسمه يترأّس قائمة الـ150 شخصاً الخطرين على أمنهم والغير مرغوب بهم وحاولوا إعدامه، حينها شدّ الشيخ الرحال صوب الحجاز ومنه إلى مصر حيث استقرّ هناك.. وفي مصر كانت المفاجأة مؤلمة وخيبة الأمل عظيمة حين وجد بعض المثقّفين فيها أكثر مناداة بالعلمانية من الكمالية والاتحاديين الملاحدة، ويروي خيبة أمله قائلاً: «كان ظنّي عند مغادرتي تركيا مهاجراً إلى بلاد العرب التي جاء نور الإسلام إلينا منهم أنّني أستريح من مجاهدة الملاحدة، لكنّني وجدّت الجوّ الثقافي بمصر أيضاً مسموماً من تيّار الغرب، فشقّ ذلك على نفسي أكثر ممّا شقّ عليّ موقف تركيا الجديدة من ذلك التيّار، كما شقّ وقوفي على أنّ إخواني العرب يفضّلون تركيا هذه على تركيا القديمة المسلمة، فرأيتهم توغّلوا في تقليد الغرب وسابقوا الترك في الامتنان به، والانقلاب الثائر في تركيا حصل عندهم (في مصر) في شكل هادي وعن طريق التأثير والتجديد في الأزهر».(2)
n موقفه من المؤرّخين العرب القوميين n
لقد آذاه وآلمه حين وجد بعض المؤرّخين العرب من القوميين لا يجدون سبيلاً في الدعوة إلى القومية والإقليمية إلا في الطعن والنيل من الخلافة العثمانية، في حين كانت مقالاتهم تكيل المدح لمصطفى كمال الملحد وجماعته، كما فعل المؤرّخ محمد عبداللـه عنان الذي كان يرى أن الخطوات الأولى للثورة الكمالية مثل إلغاء الخلافة وحلّ الجماعات الدينية وفرض الألبسة الغربية والقبّعة، ما يثير الأذهان المستنيرة ثمّ ينتقد الخلافة العثمانية كما جاء في كتابه «مصر الإسلامية» ص149 «إنّ مصر الإسلامية لم تعرف رغم ما توالى عليها من عصور الاضطراب من الخطوب والمحن نكبة أعظم من الفتح العثماني، ولم تعرف حكماً أقسى وأمرّ من حكم الدولة العثمانية…إلخ» فلم يستطع الشيخ السكوت على مغالطته فأجابه «إنّ محمد عبداللـه عنان في قلبه مرض عدم التفريق بين المسلمين والعرب واليهود، وعلى بصره غشاوة في معاداة آل عثمان، فلم يكن مقصود السلطان سليم من الفتح إلاّ توحيد مصر الإسلامية بتركيا الإسلاميّة.. إنّ سليم قد حارب مماليك مصر لأنّهم انحازوا إلى إيران الصفويّة الشيعيّة.. ضدّه.. والتي كان هدفها إسقاط حكم آل عثمان وتعميم الفكر الشيعي بالقوّة في الدولة العثمانية. وإنّ الباحث يجد في بعض معاهدات الدولة العثمانية مع الإيرانيين نصوصاً تفرض عليهم أن يكفّوا عن شتم أبي بكر وعمر وسيّدتنا عائشة رضي اللـه عنهم».(3) «والأستاذ عنان ينضم بعداوته لتركيا القديمة الإسلامية العثمانية إلى تلك الوسائل المحشودة لخصومة الإسلام.. ويؤيّد جديدها.. وهو جاد في خصومة تركيا القديمة الإسلامية الشامخة التي لا بدّ أن يكون من خاصمها من خصوم الإسلام».(4) وشيخنا لا يبرّئ السلاطين من بعض الأخطاء لكنّه يرى في الاعتزاز بهم اعتزازاً بالإسلام كقوميّة وجنسيّة «أنا لا أقول أنّ آل عثمان حتى الأعاظم المشهورين منهم في تاريخ العالم براء من كلّ ما ينتقدونهم به، وإنّما أردّ على من أنكر اعتزاز الإسلام بهم».(5) فالجنسيّة الإسلامية عند الشيخ تتسامى فوق طرح القوميّة، ففي نظره «إن الإسلام جنسيّة.. إنّ جنسيّته فوق الجنسيّات.. ذلك أن أفضل الجنسيّات ما يكون سبباً لتأسيس الوجدان المشترك بين أفراد الجنس، إذ بهذا الاشتراك فقط يحصل بينهم الاتحاد الحقيقي الذي هو الاتحاد الفكري، ومن هنا لم يفضل عليه الاتحاد القومي لعدم كفايته في تأسيس الوجدان المشترك ولعدم قابليّته للتوسّع… إنّ الرجل تراه ينحاز إلى جانب زملائه في الحزب السياسي والاجتماعي أكثر من انحيازه إلى إخوانه القوميين».(6)
n الشيخ ودعاة فصل الدين عن الدولة n
عندما نقلت مجلّة الرسالة في عددها 396 عن شيخ الأزهر قوله «إنّ الدين في كتاب اللـه غير الفقه، وإنّ من الإسراف في التعبير أن يقال عن الأحكام التي استنبطها الفقهاء وفرعوا عليها واختلفوا فيها، وتمسّكوا بها حيناً ورجعوا عنها حيناً إنّها أحكام الدين، إنّما الدين هو الشريعة التي أوصى اللـه بها الأنبياء جميعاً… ولو جاز أن يكون الدين هو الفقه مع ما ترى من اختلاف آراء الفقهاء بعضها مع بعض… لحقّت علينا كلمة اللـه {إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}». فهم الشيخ مصطفى غرض الشيخ المراغي فردّ عليه بغضب ساخراً «لا دين في الأزهر باعتراف فضيلة شيخ الأزهر وإمامه، بمعنى لا علم يدرّس فيه وفي كلّياته يصحّ أن يسمّى علم الدين، ولا صحّة كما اشتهر عند الناس من كون الأزهر معهداً دينيّاً، بل كونه أكبر معاهد العالم الإسلامية الدينية ولا لما تواطأ عليه المسلمون من اعتبار ما في كتب الفقه من الأحكام والقوانين أحكام الشريعة الإسلامية وقوانينها فتكون ما يسمّونه الشريعة الإسلامية شريعة عنديه لأناس يسمّون الفقهاء… إنّ ما قاله شيخ الأزهر اعتداء عظيم على أئمّة الإسلام أصحاب المذاهب المشهورة في الفقه مثل الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل y.. إنّ لقول الإمام المراغي مغزى لم يبح به قائله، وقد خفي على محبّذيه ومنكريه، وسأبديه أنا: يحاول الأستاذ الأكبر المراغي بقوله المنقول من قبل ترويج آخر آمال دعاة الفكرة الغربية وتمزيق آخر أوصال الإسلام وهو فصل الدين عن الحكومة، فكأنّه يقول إنّ الفقه ينطوي على قوانين سنّها الأئمة المجتهدون وهي قوانين زمنيّة لا دينيّة.. فهذه يجوز لنا أن نهملها ونسنّ بدلاً منها قوانين أوفق لزماننا وسياستنا، فلا نكون إن فعلنا ذلك بدّلنا ديننا إلى دين غير الإسلام..، أو فصلنا الدين عن السياسة! وكان الأولى بالأستاذ أن لا يتوسّل إلى ترويج مبدئه بالاعتداء على الفقه وإخراج أقوال الفقهاء أئمة الإسلام من الدين، بل يبقيهم في مقاماتهم المسلّمة دينياً ويقول: “”ونحن نجتهد ونضع القوانين الجديدة مستمدّين من الأصول الشرعية فتكون آراؤنا أيضاً فقهاً وديناً كما كانت آراؤهم”” لكنّه لم يفعل… إنّ مقصود الإمام المراغي هو فصل الدين عن السياسة وتخليص الحكومات في سنّ القوانين عن التقيّد بقيود الشرع الإسلامي… ثمّ إن هذه الفكرة من الأستاذ الإمام فكرة تنزيل الفقهاء أئمة الدين الواضعين للقوانين الشرعيّة، منزلة واضعي القوانين الزمنية غير المتقيّدين في وضعها بالقيود الدينية تشبه ما فعله الكتّاب العصريّون بمصر من تنزيل الأنبياء إلى منازل العباقرة منكرين لهم النبوّة والمعجزات الخارقة لسنن الكون».(7) يقصد بذلك الدكتور هيكل باشا صاحب كتاب «حياة محمّد» والذي أسقط في مقدّمته ما جاء في كتب الصحاح كصحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داوود والنسائي وابن ماجه ومسند أحمد وموطأ مالك وغيرها من كتب الحديث والسيرة من أحاديث تبيّن معجزات الرسول e من حيث الاعتماد والاعتداد. كذلك ردّ على الدكتور هيكل الذي تبنّى في مقدّمة كتابه مبدأ فصل الدين عن الدولة في مصر فكتب الشيخ مصطفى رحمه اللـه قائلاً: «والدين في مصر وإن كان مفصولاً عن الدولة والحكومة إلى حدّ ما لانقسام المحاكم إلى شرعيّة وغير شرعيّة ولعدم دخول شيخ الأزهر في هيئة الوزارة.. معاليه يتمنّى فصلاً أوضح وأصرح بأن يحذف بتاتاً من الدستور كون دين الدولة الرسمي الإسلام، كما وقع في تركيا الحديثة، أو يجرّد لفظه من كلّ معنى حقيقي كما فعلت الدول الأوروبية بدينها المسيحي الذي يبدأ خطأ الخاطئين في قياس الإسلام عليه… وهذا الفصل الواضح الصريح الذي هو آمال المتعلّمين العصريّين وآخر منال لهم من ديننا… وهنا أقول سلفاً وباختصار أنّ هذا معناه خروج حكومة المسلمين من ربقة الإسلام ورقابته عليها وخروج الأمّة أيضاً من ربقته في اختيارها الحكومة الخارجة عن الإسلام حكومة لها… فمثل الفصل في تلك الحكومات كمثل المناداة بالردّة حكومة وأمّة… وبالنظر إلى أن بلاد الإسلام تطلق في عرف الشرع على بلاد تحكم فيها قوانين الإسلام وإنّ عزل الدين عن التدخّل في أمور الدولة يخرج تلك البلاد من عداد بلاد الإسلام… وإن كانت المخالفة لمبدأ الفصل والعزل معدودة من الجمود المعيبة عند معاليه فأنا أجمد الجامدين وأحمد الحامدين للـه تعالى على جمودي هذا».(8)
n الفرق بين الحكومة الإسلامية والعلمانية n
إنّ الحكومة الإسلامية كما عرفها الشيخ مصطفى صبري رحمه اللـه هي «الخلافة التي هي بمعنى الخلافة عن رسول اللـه r، وهي عبارة عن التزام أحكام الشرع الإسلامي ممن يتولّى الحكم على المسلمين، لأنّه إنّما يكون بهذا الطريق خليفة عن الرسول، وإلغاء الخلافة الذي هو إلغاء هذا الالتزام، لا بدّ ويترتّب عليه فصل الدين عن الحكومة وعزله عن أن يكون ذا سلطة عليها… وقد حصل هذا الحال في تركيا بعد إلغاء الخلافة فخلفها حكومة لا دينيّة…».(9) أمّا رأيه بالقانون الوضعي وعدالته فتتلخّص في قوله رحمه اللـه: «الحصول على العدالة غير مضمون بالقوانين الموضوعة عند البشر وإن كان واضعها نفس الأمّة التي تطبّق عليها لأنّ تلك القوانين لا تسنّ مطلقاً بإجماع آراء الأمّة وإنّما تسنّ بأكثر الآراء النسبيّ، فيكفيه أن يكون زائداً على النصف ولو بواحد، وليس بمضمون أن يكون رأي هذا الأكثر حقّاً، بل يفضل خطأ الأكثر على صواب الأقل كما هو المعروف بالأسلوب البرلماني، فتكون العبرة بعدد الآراء لا بقوّتها وأصالتها… وكلّ شيء في الأساليب المأخوذة من الغرب شكليّ واعتباريّ لا حقيقيّ. فيقال مثلاً إنّ في البلاد حرّية… ثمّ يقال حرّية مقيّدة بالقانون.. والقانون تضعه الحكومة مع الحزب الذي تستند إليه في البرلمان فتكون حرّية على حسب أهوائهما وتكون مضايقة للذين يحاولون مضايقتهم… والقانون البشريّ نفسه فضلاً عن تفسيره، لا يخلو على كلّ حال من أن يكون خديعة يخدع الناس بعضهم بعضاً ويتّخذها أداة للعدالة فيما بينهم، عدالة تقسم إلى طبقتين حاكمة وضعت القانون ومحكومة… فهي عدالة مخلّة بالمساواة، أمّا القانون الإلهي فالحاكم فيه اللـه، والناس حتّى السلطان سواء أمامه، غير محسّين بثقل الحكم لكونه على السويّة ولكونه من اللـه الذي خلقهم…»(10)
وقبل أن يفارقنا شيخ الإسلام مصطفى صبري عام 1954 ترك أمله ووصيّته لنا قائلاً: «مع رغبتي المخلصة في أن يصعد المسلمون إلى وجه عالم سعيد، ومع ذلك فإنّي ألعن الذين يضغطون على ديننا صاعدين إلى عالم يمكننا الوصول إليه… عندما نصعد إلى هذا العالم يجب علينا وفي نفس الوقت أن نمسك الإسلام في أيدينا نلصقه بها ونضعه على رؤوسنا».
رحمك اللـه يا شيخ الإسلام، وجعلك مع الصدّيقين والشهداء، وجزاك اللـه عنّا وعن الإسلام خير الجزاء n
المراجع: العثمانيون في التاريخ والحضارة، د. محمد حرب u تاريخ الدولة العثمانية، د. علي حسون u صحوة الرجل المريض، موفق بني مرجة u 1) موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين وعبادة المرسلين، ص345 u 2) ص23 u 3) ص85-86 u 4) ص72-73 u 5) ص 90 u 6) 332 u 7) 308-318 u 8) 162-167 u 9) 322 u 10) 334-345.