بقلم د. حسن أبو غدة
تعريف السجن:
هو بكسر السين: موضوع الحبس، وبفتحها: الحبس نفسه، وقليل من العلماء المسلمين من عرف الحبس، ومن هؤلاء ابن تيمية والكاساني، حيث قال الأول: السجن هو: تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، ولو بربطه بشجرة، أو جعله في البيت أو المسجد. (1)
وقال الكاساني: الحبس هو: منع الشخص من الخروج إلى أشغاله ومهماته الدينية والاجتماعية. (2)
وبناء على هذين التعريفين فإن الحبس – أصلاً – لايتوقف على وجود بنيان خاص معد لذلك، كما هو المتعارف عليه الآن.
مشروعية السجن:
اتفق العلماء على مشروعية السجن، وأنه من العقوبات التعزيزية والتأديبية، وليس له الصدارة والأولوية بين أنواع التعزير الأخرى، بل هو أشبه بالعقوبة الاحتياطية، لأن وطأته شديدة وآثاره السلبية كبيرة على الفرد وأسرته وعلى المجتمع عموماً. (3)
وذكر العلماء أنه لايجوز عند أحد من المسلمين تعطيل الحدود والمعاقبة على جرائمها بالحبس، كما لايجوز المعاقبة على جرائم التعزير الأخرى بالسجن، إذا غلب على الظن حصول الردع بغيره من أنواع التعزيز. (4)
ومن الأدلة على مشروعية السجن ما يلي:
أولاً: الآية من سورة النساء: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا}(النساء- 15) والإمساك في البيوت هو الحبس، وكان معمولاً به في صدر الإسلام للآتي يأتين الفاحشة. (5)
ثانياً: حديث الدارقطني: “إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، فيقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك”.
الغاية من السجن:
لم يشرع الحبس في الإسلام لإهانة السجين أو تعذيبه أو الإنتقام منه أو إهماله، وإنما شرع لاستصلاحه وتعديل سلوكه وتأهيله للخروج إلى المجتمع بنفس جديدة، ونظرة جديدة إلى الحياة، فيها معاني الاستقامة والصدق والجدية والعطاء. وهذا ما عبر عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سجن رجلاً في جريمة وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة. (6) والتوبة هنا تعني: تعديل السلوك وتصحيح الأخطاء، والتوجه نحو الاستقامة والخير والحق والصلاح..
أماكن سجن العسكرين في العهد النبوي:
كانت الحياة بسيطة في العهد النبوي، فلم يتخذ بنيان خاص للحبس، ولم يكن هناك سجن معد لذلك، بل كان السجناء ـ ومنهم الذين يطلق عليهم اليوم: السجناء العسكريون ـ يحبسون فيما تيسر من الأماكن.
ولايخلو السجين العسكري أن يكون أسيراً من أفراد العدو، أو جندياً مسلماً أخل بنظام الجندية.
ومن هذه الأماكن التي حبس فيها العسكريون الأسرى أو الجند المسلمون ما يلي:
1 – الخيام: وكان يتم فيها حبس الأسرى عقب الحروب، وقد تستغرق مدته ثلاثة أيام أو أكثر، لأن الخيام وقتئذ هي المكن الوحيدلحفظ الأسرى السجناء في ساحات المعارك حتى يتم الفصل في شأنهم ، (7) وغالباً ماتوفر الخيام للسجين قدراً جيداً من التهوية والضوء ورؤية الناس، وهذه من جملة أسباب صحة السجين النفسية والجسمية.
ومن حوادث حبس الأسرى في الخيام ماروي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس الأسرى في بدر ثلاثة أيام، ثم اتجه بهم صوب المدينة . (8) ومن ذلك حبس العباس بن عبدالمطلب في خيمته ليلة فتح مكة أبا سفيان بن حرب بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم حتى الصباح… (9) ومن ذلك حبس أسارى المريسيع وأسارى الجعرانة. (10)
2 – البيوت: كان بعض الأسرى يحبسون في البيوت التي بناها المسلمون لأنفسهم ـ فأعطتهم نسبة عالية من أسباب الصحة النفسية والجسمية ـ وكانت البيوت تتصف بالاتساع والإضاءة الطبيعية والتهوية والنظافة وتوفر المرافق الأخرى، التي تستلزمها طبيعة الحياة ومبادئ الشريعة الإسلامية.
ومن حوادث حبس الأسرى في البيوت: ماروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس سهيل بن عمرو في حجرة من حجرات بيته بعد غزوة بدر . (11) وحبس مجموعة من يهود بني قريظة في دار نسيبة بنت الحارث من بني النجار، ويبدو أنها كانت داراً واسعة كثيرة الحجرات لأن عدد من حبس فيها يزيد على المائتين (12) وروي أيضاً أنه حبس ابن شفاف الحنفي وابن النواحة مبعوثي مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانا قدر ارتدا عن الإسلام، حبسهما في بيوت بعض أصحابه ثم أطلق سراحها . (13)
3 – المسجد النبوي: كان المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مبنياً من اللبن، وكان سقفه من أغصان النخيل، وأعمدته من جذوعها، وكان طول المسجد حوالي ستين متراً وعرضه حوالي خمسة وأربعين متراً. (14) وقد تميز المسجد النبوي بأنه مجمع الناس وملتقاهم، فيه يقدم الغذاء الفكري والروحي والتوجيه الاجتماعي، وفيه تؤدى العبادات وتغرس الفضائل.
في هذا المسجد، وفي بعض أطرافه حبس النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال الحنفي ثلاثة أيام وكان المسلمون قد أمسكوه أسيراً.
ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بحبس ثمامة في المسجد أن يجعله فيما يسمى في عصرنا بدار الاصلاح والتقويم، ويعرفه على نظام المسلمين العام وعباداتهم وأخلاقهم الاجتماعية، وبخاصة أن ثمامة زعيم في قومه، ففي إسلامه كسب كبير للمسلمين، وقد كان ذلك بعد ثلاث ليال، حيث تحول ثمامة إلى الإسلام وأعلن ولاءه لله ولرسوله.
روى الشيخـان وغيرهما: أن خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسكت برجل من نجـد، فأتي به إلى المسجد وربط في سارية من سواريه، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ورآه، قال لأصحابه: أعرفتم من هذا؟ إنه ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، أحسنوا إساره، فكان يقدم له الطعام ويؤتى له بناقة رسـول الله صلى الله عليه وسلم ليشـرب من لبنها، وظـل كذلك ثلاثة أيام، والنبي صلى الله عليه وسلم يمـر به ويكلمه ويحاوره، ثم أطلق سراحه، فعمـد ثمامة إلى حديقة قـرب المسجد فاغتسل ثم أعـلن إسلامه . (15)
وفي المسجد النبوي أيضاً حبس أبو لبابة رفاعة بن عبدالمنذر وكان جندياً من جنود المسلمين، لكنه ارتكب مخالفة مسلكية نظامية، حينما أفشى سر المسلمين.
روى عبدالرزاق وابن هشام وابن كثير وغيرهم أن أبا لبابة رفاعة بن عبدالمنذر كان حليف يهود بني قريظة، فطلبوه لاستشارته عقب غدرهم بالمسلمين في معركة الأحزاب، فأرسله النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه القوم قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، لمحاصرة النبي لهم، فرق لهم، فاستشاروه: أينزلون على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار إلى حلقة، إنه الذبح. ثم عرف أنه خان الله ورسوله، فانطلق حتى ربط نفسه في المسجد إلى عمود من عمده قائلاً: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت، فأقام مرتبطاً عشرين ليلة، ولم يقبل رسول الله أن يطـلقه حتى يكون الله هو الذي يعذره، ثم نزلت الآية {وآخرون اعترفـوا بذنوبهم خلطـوا عملا صالحا وآخـر سيئا عـسـى الله أن يتوب عليهـم إن الله غفور رحـيم}(التوبة-102). فـحـلّه النبي صلى الله عليه وسلم عـند خروجـه لصلاة الفجـر. (16)
وهكذا كانت هذه الحادثة أول ـ مايمكن أن يطلق عليه ـ حبس عسكري لجندي مسلم بسبب مخالفة مسلكية لنظام الجيش وإفشاء أسراره.
هذا، وقد تكررت حوادث الحبس العسكري بسبب مخالفات مسلكية وتنظيمية وقعت من جنود مسلمين، كتخلف بعضهم عن فريضة الجهاد في غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم وربطهم أنفسهم بأعمدة المسجد النبوي. (17)
أماكن حبس العسكريين بعد العهد النبوي:
من الثابت أنه لما كثر الناس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكثرت الجرائم والمخالفات واشتد بعض الناس على بعض في المعاملة، وحدثت الحاجة إلى سجن دائم، ابتاع عمر داراً بمكة ليحبس فيها، وقد اشتراها له عامله على مكة صفوان بن أمية، وكان موقعها خلف دار الندوة، وكانت هذه الدار أول مكان يخصص للسجن في التاريخ الإسلامي. (18)
ثم اتخذت أماكن أخرى خصصت للسجن في بلاد العراق والشام ومن ذلك بناء علي رضي الله عنه سجناً في الكوفة، ثم في البصرة. (19) ويغلب على الظن أنه كان يفرق فيها بين السجناء المدنيين والعسكريين.
ومن الحبس العسكري ماروي أن أبا محجن الثقفي كان جندياً في جيش القادسية، فشرب الخمر وامتدحها بين عسكر سعد بن أبي وقاص، فحبسه أمير الجيش سعد في سجن ملحق بقصره. (20)
تبعية السجون العسكرية:
إن المتتبع لكتب القضاء والسياسة الشرعية يتضح له أن هناك ثلاثة أنواع من السجون من حيث التبعية.
النوع الأول: سجون المتهمين، وكانت تتبع الوالي أو الأمير، وهو ما يطلق عليه اليوم: السلطة التنفيذية (وزارة الداخلية).
النوع الثاني: سجون المحكومين، وكانت تتبع القاضي أو السلطة القضائية، وهومايطلق عليه اليوم: السلطة القضائية (وزارة العدل).
النوع الثاني: سجون العسكريين، وكانت تتبع أمير الجهاد حسب التعبير الفقهي، وهو مايطلق عليه اليوم: السلطة العسكرية (وزارة الدفاع) . (21)
وكان من المعروف في التاريخ الإسلامي أن يندب أمير الجهاد قاضياً يسمى: قاضي العسكر، ليفصل الخصومات ويصدر الأحكام ويشرف على تنفيذها بين العسكريين، سواء كانوا أسرى أو كانوا أفراداً من الجنود المسلمين، وظل العمل بهذا في العهود الإسلامية حتى عصور متأخرة… (22)
معاملة السجناء العسكريين:
حظي السجناء الأسرى ـ ومن باب أولى الجنود المسلمين السجناء ـ بمعاملة فاضلة ورعاية كريمة بشهادة الله تعالى: {ويطعمون الطعام عل حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}(الإنسان- 8).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بالأسرى خيراً عقب معركة بدر وغيرها، فكان يقدم لهم الطعام والشراب واللبن (23) وأمر يوم بدر بإعطاء أسير قميصاً ليكسو جسمه (24) وقال في أسرى يهود بني قريظة: أبعدوهم عن حر الشمس واسقوهم وأحسنوا إسارهم، وأمر بأن تحمل لهم أكياس التمر ليأكلوا منها. (25)
وبالإضافة في ذلك فقد نال السجناء العسكريون ـ كغيرهم من السجناء ـ رعاية صحية وثقافية واجتماعية، لأن الهدف من الحبس الإصلاح والتهذيب والدعوة إلى القيم الإسلامية… (26)
خاتمة:
وهكذا يمكن القول: بأن للإسلام نظرة خاصة مستقلة للهدف من إنشاء السجون، وأنه سبق غيره في الفصل بين أنواع السجناء المدنيين والعسكريين، ودعا إلى معاملتهم بالحسنى والمعروف، ومارس ذلك في الواقع العملي، من أجل الوصول إلى الهدف المنشود في إصلاح السجين وتعديل سلوكه ودلالته عل الطريق الصحيح.
(1) – فتاوى ابن تيمية 25-398.
(2) – بدائع الصنائع للكاساني 7-174.
(3) – نيل الأمطار للشوكاني 8-316 وتبصرة الحكام لابن فرحون 2-301 و317.
(4) – التشريع الجنائي لعبدالقادر عودة 1-695 والخراج لأبي يوسف ص163.
(5) – أحكام القرآن للجصاص 2-106.
(6) – تفسير القرطبي 6-152.
(7) – البداية والنهاية لابن كثير 3-303، 305 والتراتيب الإدارية للكتاني 1-312.
(8) – المرجعان السابقان.
(9) – المصنف لعبدالرزاق 5-206 والكامل لابن الأثير 2-89.
(10) – التراتيب الإدارية للكتاني 3121 ـ 313.
(11) – سيرة ابن هشام 2992.
(12) – الخراج لأبي يوسف ص 218 والبداية والنهاية لابن كثير 4-126 وسيرة ابن هشام 3-251.
(13) – نيل الأوطار للشوكاني 8-32.
(14) – إعلام الساجد للزركشي ص 223 والمساجد للدكتور حسين مؤنس ص57 ـ 63.
(15) – فتح الباري لابن حجر 8-87 والبداية والنهاية لابن كثير 5-49.
(16) – المصنف لعبدالرزاق 5-406 وسيرة ابن هشام 2483 والتراتيب الإدارية 1-302.
(17) – المراجع المسابقة وتفسير الطبري 11-13.
(18) – فتح الباري لابن حجر 5-76 والطرق الحكمية لابن القيم ص 102 ـ 103.
(19) – جواهر الأخبار للصعدي 1385 والتراتيب الإدارية 2991.
(20) – الإصابة لابن حجر 4-174 والخراج ص33.
(21) – الأحكام السلطانية للماوردي ص37، 48، 219 والطرق الحكمية لابن القيم ص 102 ـ 103.
(22) – حاشية القليوني 3-188 و4-218 وصبح الأعشى للقلقشندي 11-96 وتاريخ التمدن الإسلامي لجورجي زيدان 1-247.
(23) – فتح الباري 8-88 وسيرة ابن هشام 2-330 و 4-287.
(24) – فتح الباري 6-144.
(25) – السير الكبير للشيباني 2-591 وإمتاع الأسماع للمقريزي 1-248.
(26) – طبقات ابن سعد 5-356 والإسلام في حضارته للرفاعي ص 152 و 609 والأغاني للأصفهاني 4-30 ومعيد النعم للسبكي ص 142 وعيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ص 295 والبداية والنهاية لابن كثير 14-48.