يعتبر السؤال ( ما الأدب ؟ ) من أعمق الأسئلة التي طرحت للنقاش منذ أقدم العصور، فقد دعا أرسطو في كتابه “فن الشعر” إلى ضرورة الاهتمام بهذا الفن اللغوي، وناقش أفلاطون الشعر، معبرا عن وجهة نظره تجاهه في محاورته “الجمهورية”.
والواقع أن الحديث عن ماهية الأدب يعتبر من الإشكاليات التي تعددت حولها الآراء واختلفت اختلافا وصل في أحيان كثيرة حد التعارض(1)، فهناك من يعرف “الأدب” بأنه “كل شيء قيد الطبع“، وهناك من يرى أن “الأدب هو كل ما له علاقة بتاريخ الحضارة“، وهناك من التعريفات ما يقتصر على الكتب الخالدة، فيحدد الأدب بأنه”مجموعة من الأعمال التي استطاعت أن تتجاوز حدود التاريخ“.
ويجمع منظرو الأدب ودارسوه ومنهم رينيه ويلك وأوستين وارين، أن اللغة هي ما يميز الأدب عن غيره من الفنون إذ “اللغة مادة الأدب مثلما أن الحجر والبرونز مادة النحت، والألوان مادة الرسم، والأصوات مادة الموسيقى“(2)، غير أن ذلك لا يعني أن الأدب هو اللغة، “فالحجر مادة التمثال لكن التمثال ليس مجرد حجر، ومن العبث أن نعرف التمثال بأنه جسد حجري… إن اللغة ليست فارغة من أي محتوى، بحيث إنها تحتوي على ركام تراثي وثقافي خاصين بالنسق الاجتماعي للمجموعة المتكلمة بهذه اللغة أو تلك، لأن استعمال لغة هو تحديد رؤية للعالم كما يقول ميخائيل باختين، إنها مسكن حضاري.”(3)
وإذا كان سؤال (ما الأدب؟) قد طرح إشكالا جوهريا، فإن هذا الإشكال يزداد حدة وعمقا عندما يطرح السؤال على الشكل الآتي: (ما الأدب الإسلامي؟) إذ لا يقتصر الأمر على مجرد اختلاف وجهات النظر، كما هو الشأن بالنسبة للسؤال الأول، بل يتعدى الأمر ذلك إلى إنكار حتى مشروعية طرح هذا السؤال، على أساس أن الجمع بين الموصوف:”الأدب”، والصفة: “الإسلامي” يعتبر جمعا غير مشروع، وغير منطقي، وغير مقبول إطلاقا.
انطلاقا من ذلك نطرح التساؤلات الآتية، راجين أن نوفق في الإجابة عنها في ثنايا هذه الورقة المتواضعة: ما المقصود بـ”الأدب الإسلامي”؟ ما هي الخصوصيات المميزة له عن باقي الآداب؟ ما هي حدوده ومقوماته؟ ما هي ضوابطه ومقاييسه؟ ما المسوغات التي تعطي مشروعية طرحه للنقاش في اللحظة الحضارية الآنية بالذات؟ ما هي آفاقه ورؤاه المستقبلية؟
1 _ الفن والدين: أية علاقة ؟
العلاقة بين الفن والدين أصيلة ووثيقة وعميقة إلى درجة يصعب معها الفصل بين الأمرين، فقد اتخذت بعض الأشكال الفنية شكل طقوس دينية مفروضة، وهذا ما سمح لبعض الباحثين باستنتاج مفاده أن “الظاهرة الجمالية قد نشأت أول ما نشأت في أحضان المعبد“(4)،ولما “كانت العبادة تستلزم بالضرورة إقامة الاحتفالات الدينية فقد ظهرت على التعاقب فنون الرقص “المقدس” والموسيقى…والشعر الغنائي، وهكذا نشأت معظم الفنون الجميلة في أحضان المعبد.”([5] )
لقد اهتم الإنسان منذ القدم بالفن من أجل غاية أسمى تمثلت في تعميق الشعور الديني، وتوثيق العلاقة بالمعبود، إذ لابد للإنسان الضعيف، الخائف، المقهور… من معبود قوي، يشعره كلما تقرب منه بالأمن، والاستقرار، والطمأنينة، يقول علي زيعور: “لقد لجأ الإنسان منذ القديم إلى الرقص والطبول والموسيقى لإثارة وعيه الديني، أو للتعبير عن عواطفه ورغباته إزاء القوى المعبودة، وأتمت بالتالي حلقات الذكر صورة أخرى للنمط التعبدي المتمثل في ربط الدين بالموسيقى.”([6] )
وإذا التفتنا إلى المجتمع العربي الجاهلي، تأكدت لنا مقولة ارتباط الفن بالدين أكثر وأكثر، فقد كان العرب يتقربون إلى أصنامهم بشتى أنواع الفنون: كالغناء، والرقص، والتراتيل… ويخبرنا القرآن الكريم أن صلاتهم عند البيت كانت مكاء وتصدية، ﴿وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية﴾ (الأنفال: الآية 35). وكانوا ينظمون تراتيل وتلبيات يرددونها وهم يدورون حول الأصنام، ومما يثبت ذلك في الشعر الجاهلي قول امرئ القيس:
فعنّ لنا سرب كأن نعاجـــــــــــه | عذارى “دوار” في ملاء مذيـــــــــل |
و”دوار”: صنم كانوا يدورون حوله.
الفن إذا ابن شرعي للدين، غير أن هذه الشرعية تبقى محط تساؤل مفعم بالشك والإنكار عندما يتعلق الأمر بـ “الأدب الإسلامي”، إذ ترتفع أصوات المنكرين المعارضين، مستغربة أن يرتبط الأدب بالإسلام، ناسية أو متناسية أن الأدب في نهاية المطاف فن من الفنون، وأن الإسلام دين من الأديان، بل هو أكملها، وأصحها، وأشملها. وما يثير الغرابة فعلا أن المستشرقين كانوا أول المستعملين “لهذا المصطلح، ولمصطلح الأدب العربي أيضا، فنقلنا الثاني وتركنا الأول تمشيا مع وقائع الأمور، لأن هذا يعكس ذلك الصراع الذي كان دائرا في المجتمع العربي بين الجامعة العربية والجامعة الإسلامية، فلما تغلب الاتجاه القومي رسخت قدم مصطلح “الأدب العربي”على حساب “الأدب الإسلامي” إلى يومنا هذا.“([7]) وهذا يعني أن بعث مصطلح “الأدب الإسلامي” يعتبر في حقيقة الأمر استجابة موضوعية لليقظة الإسلامية التي أفرزتها التغيرات الحضارية التي عرفها العالم الإسلامي المعاصر.
ويبقى التساؤل مطروحا، انطلاقا من كل ذلك: ما مفهوم “الأدب الإسلامي”؟
2 _ مفهوم “الأدب الإسلامي”؟
“الأدب الإسلامي” كما ارتضته رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وكما جاء في نشرة التعريف بالرابطة، هو”التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون في حدود التصور الإسلامي لها…“، وهو تعريف لا يضيق حرية الأديب، ولا يضيق مجال التجربة، ولا يحد آفاقها التي تبدأ من الإنسان وحياته لتنتهي بالكون كله، كما جاء في التعريف ذاته.([8] )
وتتردد المعايير نفسها في التعريف الذي قدمه محمد قطب، فهو يذهب إلى أن “الأدب الإسلامي” هو “التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان، أو هو الذي يرسم الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود…“([9])، ويدعو الدكتور حامد أبو أحمد إلى ضرورة تجاوز هذه الحدود، وإلى وجوب توسيع مدى هذه الرؤية، على اعتبار أنه “لا أحد يستطيع أن يدعي أن هذا التصور أو ذاك هو الذي تصح نسبته إلى الإسلام، أي أن تحديد التصور الإسلامي في حد ذاته أمر نسبي، وليس حقيقة مطلقة لأنه خاضع للتفسير والتأويل البشري”.([10])
ويذهب الأستاذ أحمد حظور إلى أن “الأدب الإسلامي” “يطلق ويراد به، كل ما صدر من قول فني عن أديب مسلم أو ينتمي إلى الإسلام أو تمثل مبادئ الإسلام في أدبه حين إنشائه، مادام ملتقيا في الجميع مع تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان، فالصدق الفني الواقعي هو المحك في دراسة الآداب…“([11]).
وبعد نقاش هادئ ورصين، يجمل الأستاذ نجيب الكيلاني مفهوم “الأدب الإسلامي” قائلا: “ذلك هو مفهومنا الشامل للأدب الإسلامي:
_ تعبير فني جميل مؤثر.
_ نابع من ذات مؤمنة.
_ مترجم عن الحياة والإنسان والكون.
_ وفق الأسس العقائدية للمسلم.
_ وباعث للمتعة والمنفعة.
_ ومحرك للوجدان والفكر.
_ ومحفز لاتخاذ موقف، والقيام بنشاط ما. “([12]).
وخلاصة القول إن تسمية “الأدب الإسلامي” تبقى مشروعة بكل المقاييس، رغم أنها تثير حنق الحاقدين الماكرين، الذين لم ينتبهوا إلى أن هذا المصطلح، لا يختلف في شيء عن مصطلحات كثيرة متداولة وشائعة كمصطلحات: التاريخ الإسلامي، والفتوحات الإسلامية، والحكم الإسلامي، والفقه الإسلامي، والاقتصاد الإسلامي… إلخ، فالإسلام هو الأصل والمنبع الذي روى هذه “الأغصان ” من مياهه العذبة الرقراقة، فخول لها الحق في الحياة والنمو والانتعاش، وتسربت روحه النفاذة الزكية إلى أعماق الوجدان الحضاري والتاريخي للأمة، فوسم بميسمه الرباني / النبوي المتكامل كل مقتضيات الحياة الإسلامية فكرا وسلوكا وتصورا، واقترح المنهج المنير والضابط لهذه الجوانب وغيرها. ودفعا لكل الالتباسات التي قد تطرح في هذا الشأن، نؤكد أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل الدين والعقيدة عن الفكر والأدب، والنماذج المؤكدة لهذه الحقيقة أكبر من أن تحصى، فقد أسس الأدب الإغريقي على عقيدة الإغريق الوثنية المبنية على تعدد الآلهة والصراع بين الإنسان وبين الآلهة، وبين الإنسان والكون، وقام المذهب الكلاسيكي على مبادئ وقواعد الأدب الإغريقي، كما بنيت الرومانسية على المسيحية، فقد انتقد شاتوبريان الكلاسيكية القائمة على تعدد الآلهة، “وأعلن في كتابه العبقرية المسيحية أن الأدب ينبغي أن يطبع بالطابع المسيحي، ومنذ ذلك الحين طبع الأدب الغربي بالطابع المسيحي، بدلا من الطابع الوثني الإغريقي.” ([13])، وعلى غرار الأدب الرومانسي القائم على المسيحية، ظهر الأدب الماركسي المنبثق من الماركسية، والأدب الوجودي المستمد من الفلسفة الوجودية… وهذا يعني أن كل الظواهر الأدبية والفنية عموما، إنما تعتبر في حقيقة الأمر إفرازا حضاريا لخلفية فكرية عقدية، أو لأرضية فلسفية…
وقد كان من نتائج النكسة الحضارية التي مني بها المسلمون، على إثر هزائمهم المتوالية، أن تكرست تبعيتنا الفكرية والحضارية للغرب، الذي مازال العديد من المتغربين المشبعين بثقافته وقيمه يرى فيه مرهما لجراحنا الزانفة، فكانت النتيجة أن استحال أدبنا العربي إلى مزيج رهيب من التيارات والمذاهب والمدارس الفلسفية الغربية الحديثة، من كلاسيكية، ورومانسية، ورمزية، وفرويدية، ووجودية، وسريالية، وبرناسية، وبنيوية، وواقعية… مما يعني أننا نعيش فوضى عقلانية وفكرية عارمة جدا، وخطيرة جدا…
3 _ الأدب الإسلامي: المقومات، والخصوصيات المميزة
يسعى الدارسون والباحثون المهتمون بالأدب الإسلامي إلى توضيح وتحديد مقوماته، وخصوصياته المميزة، بقدر ما يسعون للدفاع عن مشروعيته وهويته، والواقع أنه يصعب الفصل بين الهدفين، ففي الحديث عن الهوية والمشروعية، يطرح سؤال الخصوصيات بإلحاح شديد، وهذا ما يمكن إجماله في ما يلي:
– الأدب الإسلامي أدب رباني بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني الارتباط بالله عز وجل، باعتباره خالق هذا الكون الممتد، وخالق الإنسان المكلف بالأمانة العظمى دون غيره من الكائنات، إنها أمانة عبادة الله وحده. فالأديب المسلم ملزم بالارتباط بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ملزم بجعله قدوة تنير له سبيل الإبداع، ملزم باستمداد روح الوحي قلبا وقالبا، من الشريعة المحمدية التي كانت إيذانا صريحا بدخول الإنسانية مرحلة الرشد كما يقول محمد إقبال، يقول تعالى: ﴿ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ﴾ (العنكبوت: 46 ). غير أن هذا الارتباط لا يعني انتفاء عناصر الخيال، والتجريب، والابتكار، والإبداع في العمل الأدبي الإسلامي، بل تبقى هذه حاضرة باعتبارها شروطا لازمة، غير أن منطلقاتها، ومساراتها، وأهدافها، وغاياتها… تسبح كلها في آفاق الربانية الخالدة.
– الأدب الإسلامي أدب إنساني، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كان ربانيا بامتياز، ويشمل مفهوم الإنسانية جوانب متعددة تدخل في تكوين الإنسان: عقله، وجدانه وعاطفته، جسده، روحه ونفسيته… فهي كينونة تتعدد صورها، تتكامل دون أن تتصارع، إذ لا ينبغي أن يطغى جانب على حساب جانب آخر…
فالأديب الإسلامي ملزم يتناول كل هذه الجوانب إما في صورة المثال والقدوة التي ينبغي احتداؤها والاقتداء بها، كما هو شأن شخصيات الأنبياء والرسل والصحابة وأبطال التاريخ الإسلامي… وإما بالنزول إلى أرض الواقع المعيش بالتقاط النماذج التي لم تفلح في تحقيق التوازن المطلوب، ففشلت فشلا ذريعا في فرض الذات، وفي الاندماج، وفي التغلب على مصاعب الحياة ومشاكلها… إذ كل نواحي الضعف والتردد والانحراف الإنساني يجب تسليط الأضواء عليها من أجل فهمها واقتراح أساليب ووسائل لعلاجها، “لا لمجرد تبريرها، أو التماس الأعذار لها، وتصور الأدب الإسلامي للإنسان نابع من وصف الخالق للمخلوق ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾ ( الملك: 14)، وهو أمر يجب أن يحفل به الأديب الإسلامي، بعد أن قدمت الآداب الغربية – بل والشرقية أيضا – نماذج شوهاء للإنسان، وجعلت من التشوه بطولة وحرية، وصنعت من التمرد الفاسد تحقيقا للذات، وإعلاء لشأن المخلوق.”([14])
– واهم من يعتقد بأن الأدب الإسلامي مجرد وعظ مباشر، فلابد من التأكيد بأنه “أدب” أولا، و”إسلامي” ثانيا، وهذا يتماشى مع التعريف المقدم سلفا، والذي يؤكد بأنه تعبير جميل يمتلك رؤية فنية عن الإنسان والكون والحياة وفق مقتضيات التصور الإسلامي، فيجب من ثمة أن ننظر إلى “الأدب الإسلامي” باعتباره مذهبا أدبيا يلتقي مع الفن في جماله ومع التصور الإسلامي في جلاله، كما يجب أن نسمو به من أن يكون مجرد منهج ديني فحسب، وأن ننتبه إلى أنه لا يشمل كل النتاج الأدبي الذي أنتج داخل الحدود الزمانية والمكانية لدين الإسلام، أو وافق مبادئه وأسسه دون قصد أونية مسبقة.
– لعل أهم ما يميز التصور الإسلامي: الشمولية والتوزان، فشمولية الإسلام تتمثل في كونه لم يدع جانبا من جوانب الحياة البشرية إلا أطره وبين حكم الشرع فيه، فكانت النتيجة أن أخضع الوجود كله بمادياته وروحانياته وكل كائناته لسلطان تصوره الذي “لا يجعل الحس بمعزل عن الحياة المنبثقة في أعماق الكون، بل يطلق الحس ليملأ الحياة في كل شيء من هذا الكون، فلا يجعله مادة جامدة، وإنما يجعله يتحرك ويحس ويتعاطف ويلتقي على شتى المشاعر والانفعالات”([15])، أما خصوصية التوازن في التصور الإسلامي فتتمثل في دعوته الواضحة لإحداث التوازن بين الروح والمادة، وبين الدنيا والآخرة…
وتتمثل شمولية الأدب الإسلامي في كونه “لا يعالج قضية دون قضية، ولا يقف عند حدث دون حدث، ولا يقتصر على تناول الخير دون الشر، ولا يحرض على التعرض للفضيلة دون الرذيلة، فكل القضايا والأحداث والمواقف يمكن أن تكون موضوعا للأدب الإسلامي،كما يمكن أن تكون موضوعا للأدب غير الإسلامي، لأن الفرق ليس في الموضوعات، ولكن الفرق في كيفية تناول الموضوعات، وما تقوم عليه من إظهار الرضا عن سلوك بعينه، وتجليته، والتبشير به أو العكس…“([16]) أما خصوصية التوزان في الأدب الإسلامي فتتمثل في قدرته على إحداث التوازن الرائع بين الشكل والمضمون، بين اللفظ والمعنى… إذ الجمال في الأدب الإسلامي يكمن في المستويين معا، بحيث لا ينبغي الاهتمام باللفظ وحده، ولا بالمعنى وحده، كما لا يجب أن ترجح كفة المعنى على حساب اللفظ، وهذا ما يسمح بتحقيق التوازن بين الأخلاقية والجمالية من أجل غاية أسمى هي السمو بالإنسان بالدفاع عن إنسانيته، لأننا “بحاجة إلى “أنسنة” الإنسان لا إلى تأليهه على طريقة نيتشه، ولا إلى سحقه ومسخه بأسلوب كافكا، وأنسنة الإنسان تقتضي التوزان داخل المتلقي، ولكن تتطلب أولا توافر التوازن داخل الفعل الثقافي نفسه…“([17])، فتحقيق هذه الغاية رهين بإحداث توازن جذاب بين القيم الجمالية والقيم الفكرية في العمل الأدبي… وهذا يعني أن “الفائدة” و”المتعة” تنصهران معا في بوثقة واحدة كما تجسد ذلك آيات كثيرات من القرآن الكريم، ونصوص عديدة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، كما قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام.
– الأدب الإسلامي أدب ملتزم، وصفة الالتزام هذه لا تعني تكبيل حرية الأديب، ووضع حد لإرادته الطليقة، الالتزام كما يقول أنور الجندي “ليس تقييدا لحرية الأديب، وإنما هو توجيه لمشاعره وأحاسيسه، وأدبه وفنه، كي يكون إنتاجه إسهاما في بناء الأمة لا هدمها، والأديب المسلم الذي يلتزم بعقيدة الإسلام ويعيش حياة إسلامية، يستطيع أن يعبر عن كل الأحاسيس والمشاعر بصدق ورفق، وأن يكون عطاؤه من أعلى المستويات محافظة على قيمه الإسلامية.”([18])، وهذا يعني أن الحرية التي يجب أن تعطى للكاتب يجب أن تكون مشروطة بضرورة احترام القيم والمبادئ التي يقوم عليها المجتمع الذي سوف يستقبل إنتاج هذا الأديب، وسوف يتفاعل معه، ويتأثر به… إنها حرية موسومة بطابع المسؤولية المستمدة من إحساس دفين ينبض في أعماق العبد المؤمن، يربطه بالحقيقة الكبرى، وهي أن الله عز وجل مالك الملك، له ما في السماوات وما في الأرض، ﴿لله ما في السماوات وما في الأرض، وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير.﴾ (البقرة: 284 )، كما يقول عز من قائل. فالأديب الإسلامي يستشعر بقوة مسؤوليته تجاه نفسه أولا، وتجاه غيره، لذلك فإنه لا يطلق الكلام على عواهنه، إذ يردد باستمرار قول العلي القدير: ﴿ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد﴾ (ق: 18 ).
– الأدب الإسلامي هو أدب الوضوح بامتياز، الوضوح الذي لا يعني العقم، والضحالة، والسطحية، والتفاهة… الوضوح الذي لا يتنافى وقيم التركيز، والتحليل، والتأويل… الوضوح في المنطلقات، وفي الوسائل، وفي الأهداف… وضوح يحقق تواصلا حميميا مع متلق، يجد في كل ما يقرأ متعة فنية، لا تخدش حياء، لا تمس مقدسات، ولا تشكك في ثوابت… وضوح يفتح الأبواب مشرعة أمام آليات التفكير، والتساؤل، والاتفاق، والاختلاف… مما يؤكد أن رسالة الأديب لم تعطل، بل وصلت، وحققت التفاعل المرجو، بل والتغيير المنشود في سلوك المتلقي، وفي تفكيره، وفي نظرته للكون وخالقه أولا، وللآخرين ثانيا، ولنفسه ثالثا وأخيرا… يقول الأستاذ نجيب الكيلاني: “الأدب الإسلامي أدب الوضوح، لا يجنح إلى إبهام مضلل، أو سوداوية محيرة قاتلة، أو يأس مدمر، فالوضوح هو شاطئ الأمان الذي يأوي إليه الحائرون والتائهون في بيداء الحياة المحرقة المخيفة.“([19])
– الأدب الإسلامي أدب محرر متحرر، وتكمن خاصية التحرر في سعيه لتحقيق الذات الغائبة، “وتجذيرها في الواقع للارتقاء بالإنسان من الارتكاس، والارتقاء به إلى معارج التكريم الإلهي.”([20])
وطبيعي جدا أنه لن يؤدي وظيفة التحرير هذه إلا إذا تحرر أولا من سلطة التراث، فيعمد إلى محاورته من أجل غربلته، وتصفيته، للتمييز فيه بين الغث والسمين، ولانتقاء العناصر الإيجابية الصالحة منه، لبعثها من جديد، وجعلها مواكبة للعصر الراهن بكل تناقضاته وأزماته… وهذا أمر مطلوب باستمرار، ومشروع أيضا، مادام القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، مقدسان، منزهان، لا يندرجان ضمن هذا “التراث”. وهذا الولوج المشروع، الواعي لأعماق التراث، كفيل بجعل الأديب المسلم يكتسب ثقة متميزة في النفس، تجعله يقف شامخا، لا منبهرا، ولا مستسلما، ولا فاغرا فاه، أمام الحضارة الغربية التي تفاجئ العالم في كل آن بالعجيب والغريب والمثير… ولن يتورع عن انتقادها، ومحاورتها، والاستفادة منها بأخذ ما يراه موافقا لثوابت الأمة ومقدساتها ومبادئها… لأن الأمر بكل بساطة يتعلق بحكمة إلهية تقضي بأن كل حضارة تولد، وتتقوى، ثم تموت… وما عرفته الحضارات البابلية، والآشورية، والرومانية، والفارسية، والإسلامية… شاهد قوي وواضح يؤكد هذا المعطى… ولأننا أصحاب حضارة عريقة، وأصيلة، فإننا -جيل الصحوة الإسلامية- مدعوون لاستعادة أمجادنا العظيمة الممتدة عبر الزمان والمكان من بغداد ودمشق والقدس، إلى قرطبة وإشبيلية ومراكش…
إن الأدب الإسلامي لن ينجح في تحرير الأمة من قيود الماضي، ومن أوهام الحاضر، إن لم يتحرر هو أولا من ذلك، ولن يتأتى له ذلك إلا إذا ارتشف رحيق الإيمان واليقين من ينابيع القرآن الكريم، ومن أزهار السنة النبوية الطاهرة، مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض.)([21]) وعموما فإن “الأدب الإسلامي” لا يعدو أن يكون مرآة صقيلة، تعكس نفسية مؤمنة، مشبعة باليقين، مرتوية بالقرآن الكريم، وبسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، باعتبارها المنطلق، والوسيلة، والهدف، والغاية، والمنهج في الحياة…
د. خالد نصر الدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 _ ( من النقد المعياري إلى التحليل اللساني: الشعرية البنيوية نموذجا ) _ خالد سليكى / مجلة ( عالم الفكر ) 367.
3 _ ( المرجع نفسه ) 368.
4– ( مشكلة الفن ) 118، نقلا عن: ( الشعر المغربي في العصر المريني )ص 57.
[5] -( مشكلة الفن ) 149، نقلا عن: ( الشعر المغربي في العصر المريني )ص 57.
[6] ( الكرامة الصوفية ) 64، نقلا عن: ( الشعر المغربي في العصر المريني ) ص 57.
[7] ( مفهوم التناص وخصوصية توظيفه في الشعر الإسلامي المعاصر ) _ المختار حسني / مجلة ( المشكاة ) العدد: 38 / ص 157.
[8] ( الأدب في خدمة الدعوة… الحدود والآفاق ) _ د حامد أبو أحمد / مجلة ” الأدب الإسلامي ” / م8 / ع 29 / ص 35.
[9] ( منهج الفن الإسلامي ) ص 6.
[10] ( الأدب في خدمة الدعوة ) / مجلة ” الأدب الإسلامي ” 31.
[11] ( نحو أدب إسلامي مقارن ) / مجلة ” الأدب الإسلامي ” / م 8 / ع 31 / ص: 5.
[12] ( مدخل إلى الأدب الإسلامي ) 36.
[13] (الأدب الإسلامي يمثل هويتنا الإسلامية ) _ سهيلة زين العابدين حماد / مجلة: ” الأدب الإسلامي ” / المجلد: 8 / العدد: 31 / ص: 26.
[14] ( مدخل إلى الأدب الإسلامي ) 34 _ 35.
[15] ( الأدب الإسلامي يمثل هويتنا الإسلامية ) / مجلة ” الأدب الإسلامي ” العدد: 31 / ص: 28.
[16] ( مدخل إسلامي لدراسة الأدب العربي المعاصر ) 96.
[17] ( نحو ثقافة بانية: الخصائص ) _ حسن الأمراني / مجلة ” المشكاة ” العددان: 5 و 6 / ص: 9
[18] ( العودة إلى المنبع ) 286، نقلا عن: ( الأدب الإسلامي ونقده عند أنور الجندي ) / مجلة ” الأدب الإسلامي ” العدد: 33 / ص: 43.
[19] ( مدخل إلى الأدب الإسلامي ) 36.
[20] ( نحو ثقافة بانية: الخصائص ) / مجلة ” المشكاة “: العددان: 5 و 6 / ص: 5