تعالوا نكتب شعراً مفهوماً -بقلم: إسماعيل احمد
جلست في مقاعد المتفرجين في احد قصور الثقافة وقد شدني الإعلان عن لقاء أدبي بين شعراء الصعيد في محافظتين متجاورتين وأنا امني النفس بشعر يؤجج العاطفة ويمتع الروح ويثرى الفكر, لكني سمعت أحاجي وألغاز مرت في فهمها ولم تجد النفس فيها أثارة من متعة ورغم إحباطي لم أستسلم بل ذهبت أزاحم بمنكبي الجموع الخارجة حتى بلغت موضعا يحلق فيه عشرات الشباب حول شاعر كبير فهتفت محتجاً: يا سيدي.. أنا لم افهم مما قيل اليوم شيئاً؟, فابتسم في اعتزاز كأنما أسعده أن يسمع ذلك مني وقال: للشعر فائدتان: التنفيس عن الشاعر ونقل التجربة الشعورية والإمتاع للمتلقي ولكن الشعراء اليوم يكتفون بالتنفيس عن أنفسهم.. صحت في احتجاج: إذا فلا يهمكم أن نفهم.. وضاع جوابي بين الضجيج وانسحبت محتجاً وفي ذهني مئات السنين التي حملت شعراً حياً مفهوماً خلد فصاحة العرب وحمل مشاعر فياضة لأجيال فنت وبقى عطرها وعبثا حاولت أن أجد شبها بينها وبين ما سمعت اليوم ولم افهم له معنى:
ليمون المدن.. طائر الكركرن, الليلك, تسرسب تحت الأرض صقيعا, ويسقط من يدي نزف الأصابع.. البكاء المتقوقع.. ورحت أتفحص مدلول كل كلمة: القرى ليمون بخلاف المدن وهل طائر الليلك والكركرن معروف في بلادنا بأسماء أخرى؟, وما هو نزف الأصابع؟, وكيف يسقط؟, إنها مفردات لا تنقل لي وجد أنا ترسب في نفس الشاعر ولا تحمل ما كان يعانيه وليست الصعوبة في المفردات لكنها في إيحاءات اللفظ ورحت استرجع قصة الشعر عبر القرون.
– الشعر عبر القرون –
قد كان الشعر ديوان العرب وفن العربية الأعظم حتى لتفخر القبيلة كلها بشاعر من أبنائها وفي الجاهلية كان الشاعر بمثل تجسيد الإعلام والدعاية لكل آمال قبيلته وآلامها وفي صدر الإسلام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع للشعراء ويحثهم على الزور عن دينهم في وجه الدعاية المضادة للشعراء المشركين وفي عصور الأمويين والعباسيين تنوعت أغراض الشعر وتناقل الناس هجاء الفرزدق وجرير كما تناقلوا نسيب عمر بن أبي ربيعة ومجون أبي نواس ولا يزالون إلى اليوم يتمتعون بروعته, وجاء شعر الأندلس بأول تجديد للقصيدة العربية ومن شعراء الأندلس من يجد إلى اليوم صداه في نفوس عشاق الأدب وغلب الضعف كما في سائر أنشطة العقول طيلة العصر المملوكي ومن بعده العثماني حتى عادت للشعر يقظته على يد البارودي وشوقي وحافظ ومحرم وغيرهم وبدأ التأثر بمدارس الغرب واتجاهات آدابهم في الرومانسية والواقعية والحداثة لتنفصم عرى الفهم بين الشاعر والمتلقي رويدا.. رويدا ويغيب الخط الرابط بين الشعر وجمهوره.
وبدأت احلل المشكلة – مشكلة التلقي – وقد تجلت في زماننا المعاصر دون غيره من العصور, ورحت استكشف المواضع التي تعرضت فيها جسور المتعة للقصف المتعمد.. أهي لغة الشعر بمعانيه ومفرداته وأوزانه وموستيعاه؟!, أهي التجربة الشعورية وتعقيدات النفس في زماننا؟!, أم هي ثقافة الجمهور وغياب النقد عن ساحة الإبداع؟.
– لغة الشعر –
الكلمة المفردة للبنات أو قوالب مجردة يصوغها الشاعر بنسق معين لينقل بها شعوره وفكرته فمثلا حين يقول الحصري القيرواني:
يا ليل الصب متى غده .. أقيام الساعة موعده؟
يفهم كل متكلم بالعربية أن مراد الشاعر استعجال موعد اللقاء الذي بدا له كأنه يوم القيامة ولا يمكن لمثقف بحال أن يختلط عليه معنى البيت فيتوهم أن الساعة مثلا هي ساعة اليد أو ساعة الحائط ولا يمكن أن ينخدع فيتوهم أن الصب هو صب الشاي أو مواد البناء لان مدلول الكلمة, وتشكيلها لروح الشاعر وانفعالاته واضح هنا وفق مفرداته.. وربما يصوغ الشاعر مفرداته بعكس إيحاءاتها المألوفة لخصوصية تجربته فالنور والصبح والفجر مفردات مبهجة وتحمل انطباعا مبشراً وعكسها مفردات الليل: الظلام, الدموع تحمل انطباعا حزينا لكن الشعراء ينجحون كثيراً في تغيير هذا الانطباع إذا ادخلوها في بناء مغاير بمفردات مساعده ولنتأمل معاً هذا البيت لإبراهيم ناجي:
وإذا النور نذير طالع .. وإذا الفجر مطل كالحريق
فالنور وجه البشر ورمز الأفراح, يتحول في تجربة شعورية إلى نذير والفجر الذي يتنفس رفيقا رقيقا انتشر كالحريق, يريد الشاعر انه لم يسر لطلوع نور الصباح لأنه انذره بالفراق وانه لم يشعر بالفجر الذي فاجأه كالحريق وتشبيهه بالحريق يعنى أنه مثل الحريق بدأ صغيرا في غفلة الناس فلما كبر شعر به كما كان هو غافلا في متعه قبل أن يفاجئه الفجر وقد استعجل وانتشر فالمفردات هنا توظف في سياق يريده الشاعر ليخرج القارئ منها بانطباع ما, فماذا تعني بالله عليك (نزف الأصابع), و(ليمون المدن), وكيف أسوق الليمون في إدراكات المدن أنها خصوصية مفرطة في وعي الشاعر تغيب عن المتلقي في مقدماتها ونتائجها.
ومدلولات اللفظ في كل عصور الشعر كانت واضحة حتى الشعر الجاهلي تجد معانيه إذا طالعت معجماً وان غابت عنا اليوم مدلولاته لكنه كان مفهوما في زمانه فإذا قال الشاعر الجاهلي:
كليني لهم يا أميمة ناصب .. وليل أقاسيه بطيء الكواكب
أو الذي قال:
هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها .. ويملأ منها كل حجل ودملج
لفهمنا أن الأول أصابه الهم والضجر وطال ليله حتى أمر الحبيبة أن تتركه لهمه والآخر يتغزل في خصر حبيبته وساقها, وان غاب عنا لفظ فهو في أهله مفهوم ويرجو عنا إلى المعجم نتفهمه, لكن أين يذهب القارئ ليفهم بعض مفردات الشعراء اليوم – كمفردة لفظيه – مثل: لا الفرح يخرج من براءته ليثمر شارعين من العسل.. يتسابقان على العروق لينتشي قلبه فتجد أن كل مفردات الشاعر مفهوم جليه لكن الخيط اللاضم لحباتها مختف تماما ولو طرقت أبواب الشعراء اليوم لقالوا لك استعرض الإيحاءات التاريخية أو النفسية للألفاظ لكنك تلاحظ ولا ريب أن أيا من هذه الألفاظ لا يمثل خصوصية تاريخية أو علميه أو نفسيه أو اجتماعيه يمكنك الالتجاء إليها وعبث تحاول أن تكتشف مفتاح القصيدة فهي كأنواع الشفرة المتعارف عليها في المغامرات والألغاز يجب أن تبحث فيها عن مفتاح.
قديما كان لنقد الشعر اعتبار ذاتي حتى نضج النقد وصارت له عناصر موضوعيه يتفق الناس على اعتبار توافرها أو اختفاء ملامحها في العمل الأدبي لكن!! ما الذي يمكن أن نرجع إليه لتقييم هذه السطور الشعرية وليعلم القارئ أنني اخترت هذين الطرين من أول صفحة انفتحت لأول ديوان وقع بيدي من إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة دون انتقاء يغيب.. إذا مدلول اللفظة التي عايشناها سنينا وقرونا بين الشعراء في الجاهلية والإسلام في الشعر التقليدي والخيالي في الشعر التفعيلة, إنما الشعر المعاصر ربما هو المعنى بالشعر الحداثي يفاجئك بتعبير غامض لا يفهمه غير الشاعر وربما أصدقاءه المقربون وعليك أخي القارئ أن تفك شفرة القصيدة بافتراض ما تبنى عليه نظريه الاحتمالات.
ومنذ الأزل كان عمود الشعر هو الأساس في موسيقى القصائد وهو تصميم بنيانها المعتمد وحتى إذا تغير شكل القصيدة نوعاً ما في الأندلس لكنه تغير محدود محسوب, فلما عادت نهضة الشعر المعاصرة, عادت القصيدة بأبحرها وقوافيها المأثورة حتى اهتزت المعاني في بعض القصائد واهتزت إيقاعات العروض وقوافيه في أيدي شعراء آخرين, فتحرروا أولا من وحدة القافية في القصيدة, ثم جمعوا أكثر من بحر في قصيدة واحده وربما جمعوا التام إلى المجزوء أو المشطور في نظم واحد وكل هذا كان لتحقيق التوازن المرضى بين ثلاثة اعتبارات: تراث الشعر وأصوله, قيمة المعنى في القصيدة والمستوى الثقافي للشعراء فلابد أن يكون للشعر جمالة وسموه في أفكاره وانفعالاته, ولا بد أن تكون له قواعده وأصوله وقيوده ليتميز الرديء من الجيد, والقادر من العاجز.. لكننا نرى عجز الشعراء عن انتهاج سير الأولين في إبداعهم وتألفهم, وفي سبيل المعنى الراقي قد نترخص في وحدة القافية أو وحده عمود القصيدة وقد ننتهي إلى وحدة التفعيلة كبديل عن وحدة البيت لكننا لا يمكن أن نسمي ما دون ذلك شعرا – إذا تحلل من ضبط التفعيلة – كما أننا لا نسمي شعراً ذلك الرص الحريص على القافية والوزن وان تجرد من المعنى والشعور حتى يمكننا أن نحذف نص القصيدة دون أن يهتز المعنى.
– التجربة الشعورية وإيحاءات اللفظ –
الحس الرقيق في قلب الشاعر يلتقط التجربة الشعورية فيترجمها بحساسيته إلى معان وصور وتعبيرات تحمل انطباعا ذاتيا جليا أو خفيا لتفاعل الشاعر بالحدث وللشعراء مهاراتهم في التعبير حتى – بوقع حرف القافية – إن كان سينا أو هاءً أو نونا.. فتحمل مدلول الوحدة أو الألم وقد تكون التجربة الشعرية خاصة وقد تكون عامة وربما عايش الشاعر تجربه في الخيال أو في قصص التاريخ واصيا بشعره شخوصه وأبطاله واستعراضاً لقوة التأثر النفسي للتجربة الشعورية في أبيات بعض الشعراء نطرح أمثلة منها:
السحب تركض في القضاء الرحب ركض الخائفين
والشمــس تبدو خلفـــها صـــفراء عاصبـة الجبيـن
إيليا أبو ماضي
لأرعـــى الله مساءً قاسيـا .. قد أراني كــل أحلامي ســدى
وأراني قلب مـــن اعشقه .. ساخراً من مدمعي سخر العدا
قد رأيت الكون ثبــرا ضيـقا .. خيم اليــأس عليـه والســكوت
ورأت عيني أكاذيب الهوى .. واهيـــات كخيــوط العنـكبـــوت
إبراهيم ناجي
يا أيها الصغار.. عيونكم تحرقني بنار.. تسألني أعماقها عن مطلع النهار.. عن عودة إلى الديار
صلاح عبد الصبور
وكل هذه الأمثلة تفيض بما في نفس الشاعر من أحاسيس حتى لتنتقل إلى المتلقي في وضوح ويسر وان لم تشاركه رأيه ومشاعره لكنك تتشرب من مفرداته تجاربه وانفعالاته فتشعر بالحزن عند ناجي وأبي ماضي وتشعر بالقهر عن صلاح عبد الصبور وهو يرنو إلى أطفال غزه وكأنه يتحدث اليوم فأطفال غزه كما هم يتطلعون إلى عيون المشاهدين ويسألون فتحرقنا عيونهم وأسئلتهم لكننا في هذا الزمان لا نعرف ماذا أصاب الشعراء؟, أو ماذا أصابنا؟, ربما تحمل كلمات الشاعر فاروق شوشة تبريرا معقولا.
يهــــرب المعـــــنى ويســــــتوحش
بحثــــــا عــــــن كـــــلام يـــــدعيــه
وزمـــــــان راحــــــل مــا عاد يغشاه
وقد كان هو المأوى الذي يسكن فيه
ودثاراً مــن حـــــروف كل آن يرتديــه
يهرب المعنى فما ثم كلام يحتويــته
ما الذي تملكه الآن جذوع يابســــــة
وبـــــــــــــلاد مـــــــــــن رمــــــــــاد
وفصــــــول عابســـــــــــــــــــــــــة
عــــريت مــن زهــوة القول المراوغ
والتبــــــاســـات مـــــجاز لا تعــــيه
نعم يبدو أن المعاني هاجرت وارتحلت بعيداً كالوحوش إذ تخلت الكلمة عن مجازاتها لذا انقطع الوصل بين الشاعر والمتلقي ما يزال الحديث طويلا متوجعا عن هموم الشعر ولا نزال نبحث عن شعر نفهمه نستمع به, لكنه صار هو الآخر ترفاً وذكرى لزمان راحل وبلاد من رماد ضاعت بين حروفها زهوة المعنى المعبر..
الوسومالشعر . النقذ . الأدبي. العربية . الشعر العربي
شاهد أيضاً
الأدب المقارن: المفهوم والتطبيق! المؤلف: أ.د. حلمي محمد القاعود الناشر : دار النشر الدولي – …