حقوق الزوجة على زوجها :
1ــ المهر
أوجب الشرع الإسلامي على الرجل أن يبذل الصداق للمرأة إذا أراد أن يتزوجها ، وذلك في قوله تعالى : (( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ..)) النساء ( 4) ، وفي قوله تعالى : (( فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف .. )) النساء (24)
وعن أنس رضي الله عنه أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تزوجت امرأة )) فقال : (( ما أصدقتها ؟ )) قال : (( وزن نواة من ذهب )) فقال : (( بارك الله لك ، أولم ولو بشاة )) رواه البخاري وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية رضي الله عنها وجعل عتقها صداقها )) متفق عليه.
ويستحب ألا يُعرى النكاح عن تسمية الصداق ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج أحداً من نسائه رضي الله عنهن ، ولا زوَّج أحداً من بناته رضي الله عنهن إلا بصداق سماه في العقد .
وفي حديث الواهبة : ( فقام رجل فقال : زوجنيها يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : ما تصدقها ؟ قال : إزاري ، قال : إن تصدقها إزارك جلست ولا أزار لك ، التمس ولو خاتما من حديد ، فالتمس ولم يجد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أمعك شيء من القرآن ؟ قال : نعم ، سورة كذا وسورة كذا . فقال صلى الله عليه وسلم : زوجتكها بما معك من القرآن ) متفق عليه .
قال العلماء : وليس ذكر الصداق شرطاً ، فإن عقد النكاح بغير صداق انعقد النكاح .
ويستحب دفع الصداق قبل البناء . قال تعالى : (( لا جناح عليكم أن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة )) فأثبت الطلاق من غير فرض ، والطلاق لا يقع إلا بنكاح صحيح ، ودليل هذا من السنة :
ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : (( أترضى أن أزوجك فلانة ؟ قال ( نعم ) وقال للمرأة : (( أترضين أن أزوجك فلاناً ؟ )) قالت : ( نعم ) فزوج أحدهما صاحبه ولم يفرض لها صداقاً ولم يعطها شيئاً ، وكان ممن شهد الحديبية ، وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر ، فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أعطها صداقاً ، ولم أعطها شيئاً ،وإني أشهدكم أني أعطيتها صداقاً سهمي بخيبر )) فأخذت السهم فباعته بمائة ألف .
قال :وقال صلى الله عليه وسلم : (( خير الصداق أيسره )) رواه أبو داود وابن حبان . ويجوز أن يكون الصداق معجلاً ومؤجلاً ، وبعضه معجلاً، وبعضه مؤجلاً . والمهر عطية محضة فرضها الله للمرأة ليست مقابل شيء يجب عليها بذله إلا الوفاء بحقوق الزوجية ، كما أنها لا تقبل الإسقاط ــ ولو رضيت المرأة ــ إلا بعد العقد .
قوله تعالى : (( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً )) والآية.. قيل في قوله تعالى (( نحلة)) :فريضة ،أي أعطوهن مهورهن حال كونها فريضة من الله تعالى لهن، وقيل:هبة وعطية.
قال ابن الأنباري رحمه الله:(( كانت العرب في الجاهلية تعطي النساء شيئاً من مهورهن ،فلما فرض الله لهن المهر كان نحلة من الله ،أن هبة للنساء ،فرضاً على الرجال)).
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله :((وقيل :إنما سمي المهر نحلة لان الزوج لا يملك بدله شيئاً ،ولأن البضع بعد النكاح في ملك المرأة ،ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج ،وإنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة لا الملك)) أ.هـ
قال الألوسي رحمه الله:((فإن قلت إن النحلة أخذت في مفهومها أيضاً عدم العوض ،فكيف يكون المهر بلا عوض وهو في مقابلة البضع والتمتع به؟ . أجيب بأنه لما كان للزوجة في الجماع مثل ما للزوج أو أزيد ،وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة كان المهر مجاناً لمقابلة التمتع بأكثر منه )) أ . هــ
وقيل : النحلة : العطية بطيب نفس . أي لا تعطونهن مهورهن وأنتم كارهون وقيل : النحلة : الديانة ، أي
آتوهن صدقاتهن ديانة .
والحاصل أن المهر حق مفروض للمرأة ، فرضته الشريعة ليكون تعبيراً عن رغبة الرجل فيها، ورمزاً لتكريمها وإعزازها ، وقد صرح الفقهاء بقولهم : (المهر فرض شرعاً لإظهار خطر المحل ) .
ولقد حرست الشريعة هذا الحق للمرأة ، فحرمت على أي إنسان أكله أو التصرف فيه بغير إذنها الكامل ورضاها الحقيقي ، قال تعالى : ( فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفساً ) أي من غير إكراه ولا إلجاء بسبب سوء العشرة ولا إخجال بالخلابة والخديعة . ( فكلوه هنيئاً مريئاً ) أي سائغاً لا غصص فيه ولا تنغيص . فإذا طلب منها شيئاً فحملها الخجل أو الخوف على إعطائه ما طلب فلا يحل له ،وعلامات الرضا وطيب النفس لا تخفى.
أخرج ابن جرير عن حضرمي أن ناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما أعطى امرأته فنزلت هذه الآية ، وفيها دليل على ضيق المسلك في ذلك ، ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس ، وقلما يتحقق ، ولهذا كتب عمر رضي الله عنه إلى قضاته : إن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أرادت أن ترجع فلها ذلك .
ليس من الإسلام :
ليس من الإسلام ما نراه اليوم من استبداد بعض الآباء بمهور بناتهم أو استيلاء بعض الأشقاء على مهور أخواتهم. وليس من الإسلام أيضاً ما يرتكب في بعض البيئات الجاهلية حيث يعمد بعض الناس إلى المقايضة بين النساء في سبيل توفير المهر ،وهو المسمى : ( نكاح الشغار ) .. حيث يزوج الرجل ابنته أو أخته مقابل أن يزوجه ذلك الشخص ابنته أو أخته ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار .
المغالاة في المهور :
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( ألا لا تُغالوا صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئاً من نسائه ولا أنكح شيئاً من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية )) .
وعن أبي سلمة رضي الله عنه قال : سألت عائشة رضي الله عنها : ( كم كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ) . قالت 🙁 كان صداقه لأزواجه ثنتى عشرة أوقية ونشٌ) . قالت : ( أتدري ما النش ؟ ) قلت : ( لا) قالت : ( نصف أوقية ، فتلك خمسمائة درهم ) .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله : ( والقصد في المهر أحب إلينا ، وأستحب ألا يزيد في المهر على ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وبناته، وذلك خمسمائة درهم ) أ. هـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة ، وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة ، فهو جاهل أحمق ، وكذلك صداق أمهات المؤمنين ، وهذا مع القدرة واليسار ، فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة)
. فليس من الإسلام إذن تلك النظرة التجارية التي تسيطر على أفكار طائفة من الناس ، فيغالون في المهور ، حتى أنه لا يكاد يخرج بعضهم من عقد زواج إلا وهم يتحدثون عن المهر وكم بلغ من الأرقام القياسية !.
وكما أنه ليس من الإسلام الدعوة إلى إلغاء المهور ، حيث أنه لا يجوز التفريط فيما شرع الله من تكريم المرأة وإعزازها ، كذلك نرفض تلك الاعتبارات التجارية التي تسيطر على أفكار طائفة من الناس ، إذ يؤدي ذلك إلى التغالي في المهور الذي يئن منه الشباب هذه الأيام .
إن المهر هدية تعطى للمرأة ، فهل يعقل أن المهدى إليه يشارط فيها ، ويكلف صاحبه من أمره شططاً .
2ــ النفقة:
ومن حقوق الزوجة وجوب أن ينفق عليها زوجها ، وهي تشمل الطعام والشراب والملبس وما تحتاج إليه الزوجة لقوام بدنها وينبغي أن يطعمها وأولادها حلالاً لا إثم فيه ولا شبهة ، وقد دل على وجوب هذه النفقة الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب :
فقد قال تعالى : ((لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ، سيجعل الله بعد عسر يسراً )) .
وقال تعالى : ((.. وبما أنفقوا من أموالهم )) .
وقال سبحانه : (( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف )) .
أي بما يناسب حالها ويليق بمثيلاتها من مستوى المعيشة ، وتقدير ذلك راجع إلى العرف .
جاء في تفسير قوله تعالى : (( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو )) أن العفو : أي الزائد على قدر الحاجة التي لابد منها على أصح التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور.
وأما السنة :
فعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : (( أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تقبح الوجه ، ولا تضرب )) . وفي رواية للإمام أحمد بزيادة : (( ولا تهجر إلا في البيت ، كيف وقد أفضى بعضكم إلى بعض، إلا بما حل عليهن )) .
قال البغوي رحمه الله : قال أبو سليمان الخطابي : (( في هذا إيجاب النفقة والكسوة لها ، وهو على قدر وسع الزوج ، وإذ جعله النبي صلى الله عليه وسلم حقاً لها فهو لازم حضر أو غاب ، فإن لم يجد في وقته كان ديناً عليه كسائر الحقوق الواجبة ، سواء فرض لها القاضي عليه أيام غيبته أو لم يفرض )) أ . هــ
وقال صلى الله عليه وسلم:((ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن )).
وقال صلى الله عليه وسلم :(( كفى بالمرء إثماً أن يضيَّع من يقوت )) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( أن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه ، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته)).
وعن قيس بن حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( والله لئن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيبيعه ويستغني به ويتصدق منه ، خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله ، يؤتيه أو يمنعه ، وذلك أن اليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول )) وفي رواية : فقيل : (( من أعول يا رسول الله ؟ قال : (( امرأتك ممن تعول ، تقول : أطعمني وإلا فارقني ، وجاريتك تقول : أطعمني واستعملني ، وولدك يقول : إلى من تتركني ؟ )) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : إن هنداً بنت عتبة قالت : (( يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم )) فقال : (( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف )) .
قال ابن قدامة رحمه الله : (( وفيه دلالة على وجوب النفقة لها على زوجها ، وأن ذلك مقدر بكفايتها ، وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إذا لم يعطيها إياه )) أ . هـ
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا أعطى الله أحدكم خيراً فليبدأ بنفسه وأهل بيته )) .
وأما الإجماع :
قال ابن قدامة رحمه الله : (( وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن . ذكره ابن المنذر وغيره . وفيه ضرب من العبرة : وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب ، فلابد أن ينفق عليها ، كالعبد مع سيده )).
وقد ثبت في فضل النفقة على الأهل أحاديث كثيرة منها :
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة )) .
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فرأى أصحابه من جَلَدِه ونشاطه ما أعجبهم ، فقلوا : (( يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله ؟ )) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن كان خرج يسعى على أولاده صغاراً فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج على نفسه يعفها فهو في سبيل الله ،وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان )) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ما أنفق الرجل على أهله فهو صدقة ، وإن الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إلى في امرأته )) .
وقال ابن المبارك رحمه الله وهو مع إخوانه في الغزو: (( تعلمون عملاً أفضل مما نحن فيه ؟ )) قالوا: (( ما نعلم ذلك )) قال : (( أنا أعلم )) قالوا : (( فما هو )) قال: (( رجل متعفف ذو عائلة قام من الليل فنظر إلى صبيانه نياماً متكشفين فسترهم غطاهم بثوبه ، فعمله أفضل مما نحن فيه )
ومعلوم أن المرأة لا تكلف بشيء من الإنفاق ، أماً كانت أو أختاً .. بنتاً كانت أو زوجة ، قادرة على العمل أو كانت عاجزة عنه .. غنية كانت أو فقيرة ، كان زوجها قادراً على العمل أو عاجزاً عنه .. غنياً كان أو فقيراً ، الرجل هو المسئول عن النفقة البيتية ، وليس من حقه أن يلزمها بها إلا إذا تبرعت مساهمة في تحمل بعض العبء.
والمرأة قبل البلوغ تحت وصاية أوليائها ، وليست ولاية رعاية وتأديب وعناية بشأنها ، وتنمية لأموالها ، وليست ولاية تملك واستبداد ، ثم هي بعد البلوغ كاملة الأهلية للالتزامات المالية سواءً بسواء.
3ــ المسكن :
ويجب لها مسكن بدليل قوله سبحانه وتعالى : (( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم )) فإذا وجبت السكنى للمطلقة فاللتي في صلب النكاح أولى ، قال تعالى :(( وعاشروهن بالمعروف )) ، ومن المعروف أن يسكنها في مسكن ، ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون ، وفي التصرف والاستمتاع وحفظ المتاع ، ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما لقول الله تعالى (( من وُجدكم)) ، ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام فجرى مجرى النفقة والكسوة.
4ــ وقايتها من النار بتعليمها وتأديبها:
وذلك بأن يعلمها أصول دينها : كيف تؤمن بالله تعالى الإيمان الحق ،وتوحده التوحيد الخالص ، وتؤمن بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق بجلاله سبحانه وتعالى . ويعلمها ما يجب لله تعالى ، وما يجوز له سبحانه ، وما يستحيل عليه تبارك وتعالى ، وما جاء من عند الله تعالى من أركان الإيمان وسائر أحكام الإسلام الواجبة عليها ، وأصول الحلال والحرام .
وأن يعلمها أحكام العبادات ، ويحضها على القيام بها ، خاصة الصلاة في أول الوقت ، وشروطها وأركانها ومفسداتها ومكروهاتها ن وسائر العبادات ، وحقوق الله تعالى عليها ، وحقوق الزوجية ، وأن يعلمها مكارم الأخلاق من وقاية القلب من أمراض الحسد والبغضاء ، ووقاية اللسان من الغيبة والنميمة والسب والكذب .
ويراقبها في ذلك كله ما استطاع ..
قال الله تعالى : (( يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)) التحريم ( 6) .
قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى : ( قوا أنفسكم وأهليكم ناراً)) : (( أدبوهم ، وعلموهم).
وقال قتادة : (( تأمرهم بطاعة الله تعالى ، وتنهاهم عن معصيته ، وتقوم عليهم بأمر الله تعالى ، وتأمرهم به وتساعدهم عليه ، فإذا رأيت معصية منعتهم وزجرتهم )) .
قال الألوسي رحمه الله : (( واستدل به على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض ، وتعليمه لهؤلاء ، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس ، لأن الولد بعض من أبيه )) روح المعاني ( 28/156)
وقال صلى الله عليه وسلم : (( الرجل راعٍ في أهله ، ومسؤل عن رعيته)) متفق عليه.
وعن أبي سليمان مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال : (( أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شبيبة متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين ليلة ، فظن أنا اشتهينا أهلينا ، فسألنا عمن تركنا في أهلينا ، فأخبرناه ، وكان رفيقاً رحيماً ، فقال :(( ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم ، وصلوا كما رأيتموني أصلي ))رواه البخاري .
وقد بلغ من اعتناء السلف بهذه التربية أنهم كانوا يحزنون إذا غابوا عن الأولاد فترة لسبب من الأسباب ، لخوفهم على أولادهم أن لا يؤدبوا على ما يريدون ويشتهون .
وذكر الراغب الأصفهاني أن المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية يقول لهم : (( ما أشد ما مر بكم في هذا الحبس ؟ )) فقالوا : (( ما فقدنا من تربية أولادنا )) .
وقد أثنى الله على نبيه إسماعيل عليه السلام فيما أثنى بقوله : ( وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً )) مريم ( 55).
وقال تعالى : (( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها )) طه (132).
وأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم ، ويصطبر عليها ويلازمها ، والظاهر أن المراد بالصلاة الصلوات المفروضة ، ويدخل في عموم هذا الأمر جميع أمته صلى الله عليه وسلم وأهل بيته على التخصيص .
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية كان يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما فيقول : (( الصلاة )) .
ويروى أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئاً من أخبار السلاطين وأحوالهم ، بادر إلى منزله فدخله ، وهو يقرأ :(( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى )) . ثم ينادي بالصلاة : (( الصلاة يرحمكم الله)) ، ويصلي .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي ، حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة , ويقول لهم ((الصلاة الصلاة ))ويتلو هذه الآية : (( وأمر أهلك )
وعن القاسم بن راشد الشيباني قال : كان زمعة نازلاً عندنا بالمحصب ، وكان له أهل و بنات ، وكان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً ، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته : (( أيها الركب المعرسون ، أكل هذا الليل ترقدون ؟!..أفلا تقومون فترحلون ؟ )) فيتواثبون ، فيسمع من هناك باك ، ومن هاهنا داعٍ ، ومن هاهنا قارئ، ومن هاهنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته : (( عند الصباح يحمد القوم السرى )) .
وفي قوله تعالى : (( لا نسألك رزقاً نحن نرزقك )) فيه دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش ، فكأنه قيل : داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها ، إذ لا نكلفكم رزق أنفسكم ، نحن نرزقكم ، وتقديم المسند إليه للاختصاص أو لإفادة التقوى ،وقد قال تعالى : (( وما خلقت الأنس والجن إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ، إن الله هو الرزاق )) الذاريات (56ـ 58) ، ومعلوم أن ترك الاكتساب للصلاة المفروضة فرض ، وليس المراد بالمداومة عليها إلا أداؤها في أوقاتها المعينة لا استغراق الليل والنهار بها ، ويستشعر من الآية أن الصلاة مطلقاً تكون سبباً لإدرار الرزق ، وكشف الهم .
عن عبد الله بن سلام قال :(( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة ، وتلا : (( وأمر أهلك بالصلاة )) .
وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن ثابت : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة : صلوا صلوا ، قال ثابت : وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة )) أفاده الألوسي.
والرجل قدوة أهل بيته ، والقدوة من أخطر وسائل التربية :
عن فضيل بن عياض قال : ( رأى مالك بن دينار رجلاً يسيء صلاته ، فقال: (( ما ارحمني بعياله ؟ ) فقيل له: ” يا أبا يحيى يسيء هذا صلاته ، وترحم عياله ! ” قال : ” إنه كبيرهم ، ومنه يتعلمون “) .
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله ضمن آداب الزواج : (( أن يتعلم المتزوج من علم الحيض وأحكامه ما يحترز به الاحتراز الواجب ، ويُعلِّم زوجته أحكام الصلاة، وما يُقضى منها في الحيض ، وما لا يقضى ، فإنه أمر بأن يقيها النار بقوله تعالى: ( قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ) فعليه أن يلقنها اعتقاد أهل السنة ، ويزيل عن قلبها كل بدعة إن استمعت إليه ، ويخوفها في الله إن تساهلت في أمر الدين ، ويعلمها من أحكام الحيض والاستحاضة ما تحتاج إليه ، وعلم الاستحاضة يطول ، فأما الذي لابد من إرشاد النساء إليه في أمر الحيض بيان الصلوات التي تقضيها ، فإنها مهما انقطع دمها قبيل المغرب بمقدار ركعة فعليها قضاء الظهر والعصر ، وإذا انقطع قبل الصبح بمقدار ركعة فعليها قضاء المغرب والعشاء ، وهذا أقل ما يراعيه النساء .
فإن كان الرجل قائماً بتعليمها ، فليس لها الخروج لسؤال العلماء ، وإن قصر علم الرجل ، ولكن ناب عنها في السؤال ، فأخبرها بجواب المفتي ، فإن لم يكن ذلك ، فلها الخروج للسؤال ، بل عليها ذلك ويعصي الرجل بمنعها ، ومهما تعلمت ما هو من الفرائض عليها ، فليس لها أن تخرج إلى مجلس الذكر ، ولا إلى تعلم فضل إلا برضاه ، ومهما أهملت المرأة حكماً من أحكام الحيض والاستحاضة ، ولم يعلمه الرجل ، خرج الرجل معها ، وشاركها في الإثم .
5ــ أن يغار عليها ويصونها :
إن من حب لرجل لزوجته أن يغار عليها ، ويحفظها من كل ما يلم بها من أذى في نظرة أو كلمة ،والزوجة أعظم ما يكتنزه المرء ، فلا يليق به أن يجعلها مضغة في الأفواه تلوكها الألسنة ، وتتقحمها الأعين ، وتجرحها الأفكار والخواطر .
كلا ، إن الغيرة أخص صفات الرجل الشهم الكريم ،وإن تمكنها منه يدل على رسوخه في مقام الرجولة الحقة الشريفة ، ومن هنا كان كرام الرجال وأفذاذ الشجعان يمتدحون بالغيرة على نسائهم ، والمحافظة عليهن ، وإن من شر صفات السوء ضعف الغيرة وموت النخوة ،ولا يركن إلى ذلك إلا الأرذلون .
وليست الغيرة تعني سوء الظن بالمرأة ، والتفتيش عنها وراء كل جريمة دون ريبة ، ومتى ما تحين الرجل الفرص ليأخذ امرأته على غرة، التماساً لعثرة منها دون أي ريبة ،كانت هذه غيرة مذمومة ؛عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إن من الغيرة غيرة يبغضها الله ،وهي غيرة الرجل على أله من غير ريبة)).
إن الرجل هو صاحب القوامة ،والمسؤول الأول في الأسرة ،والمحافظ على أفرادها ،وهو أبعد أهله نظراًً وتبصراً في العواقب، فمن حقها عليه أن يغار عليها ، وقد نظم الإسلام هذا الأمر فيما نجمله بما يلي:
أولاً: أن لا تأذن لأحد بدخول بيته من رجل قريب أو امرأة قريبة أو أجنبية إلا بإذنه ،فهو أدرى بمصلحة الأسرة لأنه القيّم عليها ،فقد يكون في دخول أبيها أو أخيها أو أمها مفسدة عليه في أسرته.
أما الأجنبي فلا تأذن له بدخوله عليها ،ولو أذن لذلك الزوج ،لأنه إثم ،ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ثانياً: أن لا يدخل عليها من لا يخاف الله تعالى، فقد يخون بنظرة أو كلمة، ويشعل في البيت شرارة فتنة، قال صلى الله عليه وسلم:((إياكم والدخول على النساء))،قالوا :(( يا رسول الله أرأيت الحمو؟))،قال:(( الحمو الموت)).
وقال صلى الله عليه وسلم :((ثلاث لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، والعق، والديوث، الذي يقر الخبث في أهلة ولا يبالي من دخل على أهله)).
وقال صلى الله عليه وسلم :(( لاتصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)).
ثالثاً: أن لا تخرج من بيته إلى الأسواق ومجتمعات الرجال، فتخالطهم في الأسواق ووسائل المواصلات والمحلات التجارية. عن علي رضي الله عنه قال:((بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق، ألا تستحيون ؟..ألا تغارون ؟.. يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال!)).
رابعاً: أن لا يعرضها للعنت فيطيل غيابه عنها، ولا يدفعها إلى الفسوق بمطالعة القصص الفاجرة والمجلات الخليعة، ولا يصطحبها إلى دور الملاهي والخيالة،ولا يسمعها أغاني الفحش والخنا،ولايودع بيته جهز(التلفاز)أو ما يسمى (الفيديو) فإنهما من أعظم أسباب الفساد وتحطيم الأخلاق في هذا العصر،والناس عنهما في غفلة،بل هم فيهما على رغبة،ولا حول وقوة إلا بالله .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(عن رجل له زوجة أسكنها بين ناس مناجيس،وهو يخرج بها إلى الفرج ،وإلى أماكن الفساد ،ويعاشر المفسدين،فإذا قيل له:((انتقل من هذا المسكن السوء))،فيقول :(أنا زوجها ،ولي الحكم في أمرأتي،ولي السكن،فهل له ذلك؟)).
فأجاب الحمد لله رب العالمين ، ليس له أن يسكنها حيث شاء ، ولا يخرجها إلى حيث شاء ؛ بل يسكن بها في مسكن يصلح لمثلها ، ولا يخرج بها عند أهل الفجور ، بل ليس له أن يعاشر الفجار على فجورهم ، ومتى فعل ذلك وجب أن يعاقب عقوبتين : عقوبة على فجوره ، بحسب ما فعل ، وعقوبة على ترك صيانة زوجته وإخراجها إلى أماكن الفجور ، فيعاقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن ذلك ، والله أعلم )).
6ــ أن لا يتخوَّنها ،ولا يلتمس عثراتها:
وذلك بأن يترك التعرض لما يوجب سوء الظن بها ، وقد دل على ذلك أحاديث : منها :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً ))
وعنه رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً ))
وعن أنس رضي الله عنه : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلاً ، وكان يأتيهم غدوة أو عشية )) .
وعن جابر رضي الله عنه قال: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم ، أو يطلب عثراتهم )) .
وعنه أيضاً بلفظ : (( لا تلجوا على المغيبات ، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : (( قوله في طريق عاصم عن الشعبي عن جابر : (( إذا أطال أحدكم الغيبة ، فلا يطرق أهله ليلاً ))، التقييد فيه بطول الغيبة ، يشير إلى أن علة النهي إنما توجه حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلاً نهاراً ، ويرجع ليلاً ، لا يتأتى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة ، كأن طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم ، فيقع للذي يهجم بعد طول الغيبة غالباً ما يكره : إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظيف و التزين المطلوب من المرأة ، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما ، وقد أشار إلى ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لجابر حين قدم معه من سفر : (( إذا دخلت ليلاً فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة ، وتمتشط الشعثة )) ، ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة ، لئلا يطلع منها على ما يكون سبباً لنفرته منها ، وإما أن يجدها على حالة غير مرضية ، والشرع محرض على الستر ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : (( أن يتخونهم ، ويتطلب عثراتهم )) .
فعلى هذا من علم أهله بوصوله ، وأنه يقدم في وقت كذا مثلاً ، لا يتناوله هذا النهي ، وقد صرح بذلك ابن خزيمة في صحيحه ، ثم ساق حديث ابن عمر قال : (( قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة ، فقال: ( لا تطرقوا النساء ) .وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون ، قال ابن أبي جمرة رحمه الله : (( فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غرة من غير تقديم إعلان منه لهم بقدومه ، والسبب في ذلك ما وقعت إليه الإشارة في الحديث ، قال :وقد خالف بعضهم فرأى عند أهله رجلاً ، فعوقب بذلك على مخالفته )) أ.هـ
وأشار بذلك إلى حديث أخرجه ابن خزيمة عن ابن عمر قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطرق النساء ليلاً ، فطرق رجلان ، كلاهما وجد مع امرأته ما يكره )) ، وأخرجه من حديث ابن عباس نحوه ، وقال فيه: (( فكلاهما وجد مع امرأته رجلاً )) ووقع في حديث محارب عن جابر : أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلاً ، وعندها امرأة تمشطها ، فظنها رجلاً ، فأشار إليها بالسيف ، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً )) أخرجه أبوعوانة في صحيحه.
وفي الحديث الحث على التواد والتحاب خصوصاً بين الزوجين ،لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين مع إطلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره ، حتى إن كل واحد منهما لا يخفي عنه من عيوب الآخر شيء في الغالب ،ومع ذلك نهى عن الطروق لئلا يطلع على ما تنفر نفسه عنه ، فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين بطريق الأولى )) فتح الباري ( 9/ 340ـ 341)
7ــ المعاشرة بالمعروف:
(( إني أحرج عليكم حق الضعيفين : اليتيم والمرأة)) . حديث شريف
توارد القول الكريم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في حسن معاشرة الزوجات ما يفيض رفقاً ورحمة ورعاية وعناية ، وحسبك أن الله عز وجل جعل المرأة من آياته ، وجعل المودة والرحمة والألفة عقدة الصلة بينهما ، فذلك حيث يقول تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)).
ولقد كفى الله بهذه الآية وشفى في الأمر بحسن المعاشرة ، ومن ذا الذي يسمع قوله تعالى :(( وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراً كثيراً )) ثم يجفوا امرأته أو يتسخطها بعد ذلك ؟ .. وإذا قلب المسلم بين أعطاف هذه الآية بصره ، وملأ منها يده ، وروى من معينها قلبه ، لا شك أن ما يكرهه من امرأته سيزول من وجدانه ، ولن يقر في عاطفته ؛ إذ ما ظن المسلم في أمر يكرهه ثم يظل على لجاجته فيه بعد أن منّاه الله بالخير الكثير من ورائه ؟ ..وأين ذلك من حصن الثقة وتمام الإيمان بالله؟..
قال بعض المفسرين : والخطاب للذين يسيئون العشرة مع أزواجهم .
وقوله تعالى : (( وعاشروهن بالمعروف )) . قال السدي رحمه الله : خالطوهن ، وقال ابن جرير رحمه الله : صحّفه بعض الرواة، وإنما هو : خالقوهن .(( بالمعروف)) وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة . والمراد هنا النصفة في القسم والنفقة ، والإجمال في القول والفعل ،وقيل : المعروف هو ألا يضربها ولا يسيء الكلام معها ، ويكون منبسط الوجه معها ، وقيل : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له ، وقد استدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كن ممن لا يخدمن أنفسهن .
قال ابن كثير رحمه الله : (( وعاشروهن بالمعروف ) أي إن كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك . فعسى أن تكرهوا شيئا))كالصحبة والإمساك (( ويجعل الله فيه خيراً كثيراً )) كالولد والألفة التي تكون بعد الكراهة .
والمعنى: فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن،ولا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها، فلعل لكم فيما تكرهونه ((خيراً)) ،(( كثيراً )) مبالغة في الحمل على ترك المفارقة ، وتعميماً للإرشاد ، ولذا استدل بالآية على أن الطلاق مكروه .
وعن ابن إسماعيل في قوله تعالى : (( ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)) قال : الخير الكثير أن يعطف عليها فيرزق الرجل ولدها ، ويجعل الله في ولدها خيراً .
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال : (( فإن وقع بين الرجل وبين امرأته كلام فلا يعجل بطلاقها وليتأن بها وليصبر ، فلعل الله سَيُرِيَه منها ما يحب )) .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال : (( عسى أن يمسكها وهو لها كاره فيجعل الله فيها خيراً كثيراً)) .وقال ابن الجوزي رحمه الله : (( وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها ، ونبهت على معنيين : أحدهما : أن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح ، فرب مكروه عاد محموداً ، ومحمود عاد مذموماً ، والثاني: أن الإنسان لا يكاد يجد محبوباً ليس فيه ما يكره، فيصبر على ما يكره لما يحب. وأنشدوا في هذا المعنى :
ومن لم يغمض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهداً كـل عثـــــرةٍ يجدها ولا يسلم له الدهر صاحــــب
ومما يرمي إلى ذلك الغرض الجليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر )) أو قال : (( غيره )) . والفرك : هو بعض أحد الزوجين الآخر ، والفارك : هو المبغض لزوجته.
ومن هذا المعنى قول الرضي :
رمت المعالي فامتنعن ولم يزل أبــداً يمانع عاشقاً معشــوق
فصبرت حتى نلتهن ولم أقــل ضجراً دواء الفارك التطليق
فلا ينبغي للرجل أن يبغضها إذا رأى منها ما يكره، لأنه إن كره منها خلقاً رضي منها آخر، فيقابل هذا بذاك.
وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال لرجل طلق امرأته : (( لم طلقتها ؟ ))قال : (( لا أحبها )) فقال :
(( أو كل البيوت بني على الحب ؟ ، فأين الرعاية والتذمم ؟)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن المرأة لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها )) .
وعنه صلى الله عليه وسلم بلفظ : (( واستوصوا بالنساء ، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، إن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، استوصوا بالنساء خيراً )) .
ومعنى (( خلقت )) أي أخرجت كما تخرج النخلة من النواة .(( من ضلع )) واحد الأضلاع ، فالمراد أن أول النساء خلق من ضلع ، أو المراد التمثيل ، قال القاضي : (( استعير الضلع للمعوج صورة ومعنى ، فيكون المراد : أنها مثل الضلع ، ويشهد لها قوله : (( لن تستقيم لك على طريقة )) .
والعوج : بفتح العين في الأجسام ، وبكسرها في المعاني . قوله : (( إن ذهبت تقيمها كسرتها )) أي إن أردت منها تسوية اعوجاجها أدى إلى فراقها ، فهو ضرب مثل للطلاق ، قوله : (( وإن تركته )) أي لم تقمه (( لم يزل أعوج )) فلا تطمع في استقامتهن ، ، قوله : (( وإن أعوج ما في الضلع أعلاه )) ذكر تأكيداً لمعنى الكسر ، وإشارة إلى أنها خلقت من أعوج آخر الضلع ، مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن ، أو ضربه مثلاً لأعلى المرأة ، لأن أعلاها رأسها ، وفيه لسانها ، وهو الذي يحصل به الأذى ، وقوله : (( استوصوا بالنساء خيراً )) الاستيصاء قبول الوصية ، فالمعنى: أوصيكم فيهن خيراً ، فاقبلوا وصيتي فيهن ، فإنهن خلقن من ضلع أعوج ، فلا يتأتى الانتفاع بهن إلا بأن يداريها ويلاطفها ويوفيها حقوقها ، أو تكون السين للطلب مبالغة ، أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن ، أو اطلبوا الوصية والنصيحة من غيركم بهن .
وقد نظم بعضهم معنى هذا الحديث فقال :
هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
تجمع ضعفاً واقتداراً على الفتى أليس عجبـاً ضعفها واقـتدارها
ومن المعاشرة بالمعروف :
أن يتحبب إليها ،ويناديها بأحب الأسماء ،وأن يكرمها بما يرضيها ، ومن ذلك أن يكرمها في أهلها عن طريق الثناء عليهم أمام زوجته ، ومبادلتهم الزيارات ، ودعوتهم في المناسبات .
ومنها أن يستمع إلى حديثها ، ويحترم رأيها ، ويأخذ بشوراها إذا أشارت عليه برأي صواب ، فقد أخذ صلى الله عليه وسلم برأي أم سلمة رضي الله عنها يوم الحديبية فكان في ذلك سلامة المسلمين من الإثم ونجاحهم من عاقبة المخالفة .
وبالجملة فكل أمر يتصور في الدين والعرف أنه حسن فهو من المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها .
قال صلى الله عليه وسلم : (( خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي )) .وفيما يلي نعرض لقبس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حسن المعاشرة ليكون نبراساً لمن أراد أن يتمثل قوله تعالى : (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراًً)) .
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ليس من اللهو إلا ثلاث : تأديب الرجل فرسه ، ورميه بقوسه ، ومداعبة أهله)) وفي رواية : (( كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا تأديبه فرسه ورميه عن قوسه ومداعبة أهله )) .قال ابن كثير رحمه الله : ( وكان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة ، دائم البِشْر ، يداعب أهله ويتلطف بهم ، ويوسعهم نفقته ، ويضاحك نساءه حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، يتودد إليها بذلك ، قالت : (( سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته ، وذلك قبل أن أحمل اللحم ، ثم سبقته بعدما حملت اللحم فسبقني ، فقال : هذه بتلك ))
وكان صلى الله عليه وسلم يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي ينام عندها فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ، صم تنصرف كل واحدة إلى منزلها ، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار ،وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام ، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى : (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )) أ.هـ
وقال الغزالي رحمه الله في ” الإحياء ” : باب : آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح : ( الأدب الثاني : حسن الخلق معهن ، واحتمال الأذى منهن ترحماً عليهن لقصور عقولهن ، قال الله تعالى : (( وعاشروهن
بالمعروف )) وقال في تعظيم حقهن : (( وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً )) وقال تعالى : (( والصاحب بالجنب )) قيل هي المرأة ..)
ثم قال : ( واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها ، والحلم عند طيشها وغضبها ، إقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم .لقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام ، وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل ، وراجعت امرأة عمر رضي الله عنه فقال : (( أتراجعيني ؟ ) فقالت :(( إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه وهو خير منك)).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة رضي الله عنها : (( إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليَّ غضبى )) قالت : فقلت :(( من أين تعرف ذلك ؟ )) فقال : (( أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين : لا ورب محمد ، وإذا كنت غضبى قلت :لا ورب إبراهيم )) قالت : (( أجل ،والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك ))..
ثم قال الغزالي رحمه الله : (( الثالث : أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة، فهي التي تطلب قلوب النساء ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال ))أ.هـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت : دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد في يوم عيد ، فقال لي : (( يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم ؟ )) فقلت : (( نعم )) فأقامني وراءه فطأطأ لي منكبيه لأنظر إليهم ، فوضعت ذقني على عاتقه ، وأسندت وجهي إلى خده ، فنظرت من فوق منكبيه ـ وفي رواية : منه بين أذنه وعاتقه ــ وهو يقول : (( دونكم يا بني أرفدة )) فجعل يقول يا عائشة ما شبعت )) فأقول :(( لا)) لأنظر منزلتي عنده حتى شبعت ، قالت : ومن قولهم يومئذ : (( أبا القاسم طيباً )) وفي رواية : حتى إذا مللت ، قال :(( حسبك )) قلت : (( نعم )) قال : (( فاذهبي )) ،و في أخرى قلت : (( لا تعجل )) ولقد رأيته يراوح بين قدميه ، قالت : (( وما بي حب النظر إليهم ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه ، وأنا جارية ، فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن الحريصة على اللهو )) وقالت : (( فاطلع عمر فتفرق الناس عنها والصبيان )) فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( رأيت الشيطان والإنس والجن فروا من عمر )) ، قالت عائشة رضي الله عنها : قال صلى الله عليه وسلم يومئذ : (( لتعلم يهود أن في ديننا فسحة )) .
وعنها رضي الله عنها قالت : (( إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤتى بالإناء فأشرب منه وأنا حائض ، ثم يأخذه فيضع فاه على موضع في )) .
وقال عمر رضي الله عنه: (( ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وُجد رجلاً))
وقال لقمان رحمه الله : ((ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبي ،وإذا كان في القوم وُجد رجلاً ))ويستحب للرجل إذا وجد فراغاً ووقتاً أن يشارك المرأة في خدمة البيت ، فإن هذا من حسن المعاشرة المأمور بها .
قالت عائشة رضي الله عنها وقد سُئلت عنه صلى الله عليه وسلم : ما يعمل في بيته ؟ ـ قالت : (( كان يكون في مهنة أهله ، يقم ــ أي يكنس ــ بيته ،ويرفو ثوبه ، ويخصف نعله ويحلب شاته)).
وعنها رضي الله عنها : (( كان صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله ــ يعني في خدمة أهله ــ فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة )) .
وعنها رضي الله عنها قالت : كان بشراً من البشر: يفلي ثوبه ،ويحلب شاته ، ويخدم نفسه)) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يبغض كل جعظري جواظ )) قيل : هو الشديد على أهله ، المتكبر في نفسه ،وهو أحد ما قيل في معنى قوله تعالى : ((عتل )) قيل العتل : هو الفظ اللسان ، الغليظ القلب على أهله .
وقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه حين تزوج ثيباً : (( هلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك )).
ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت : (( والله لقد كان ضحوكاً إذا ولج ، سكوتاً إذا خرج ، آكلاً ما وجد ، غير سائل عما فقد )).
وقال الشافعي رحمه الله : (( وجماع المعروف بين الزوجين كف ))
قال بعض الشافعية : (( كف المكروه هو ألا يؤذي أحدهما الآخر بقول أو فعل ، ولا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ما يؤذي الأخر )) أ.هـ
إن كنت أماً
رأى ابن عمر رضي الله عنه رجلاً حاملاً أمه على رقبته ، فقال الرجل : (( يا ابن عمر أترى أني جزيتها ؟ قال : (( لا ،ولا بطلقة واحدة ،ولكنك أحسنت ، والله يثيبك على القليل))
((عن أبي مرة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يستخلفه مروان ، وكان يكون بذي الحليفة ، فكانت أمه في بيت وهو في آخر ، قال : فإذا أراد أن يخرج ، وقف على بابها فقال : (( السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته )) ، فتقول ((وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته )) فيقول (( رحمك الله كما ربيتني صغيراً )) فتقول : (( ورحمك الله كما بررتني كبيرة )) . ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثله ، ولازم أبو هريرة رضي الله عنه أمه ولم يحج حتى ماتت لصحبها.
..لك أختاه أن تطاولي الجوزاء فخراً وتيهاً، وتذوبي حمداً وشكراً أن جعلك الله أماً مسلمة،كيف لا وقد ورد في الحديث الذي رواه المقداد بن معدي كرب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الله يوصيكم بأمهاتكم،ثم يوصيكم بأمهاتكم،ثم يوصيكم بأمهاتكم،ثم الأقرب فالأقرب )).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟قال:(أمك)،قال:(ثم من ؟)،قال:(أمك)،قال:(ثم من؟)،قال:(أمك)،قال:(ثم من؟)،قال:(أبوك)).
وعن أبي رمثة رضي الله عنه قال:(انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول:( أمك وأباك،ثم أختك وأخاك،ثم أدناك أدناك).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أعظم حقاً على المرأة ؟ قال:(زوجها)، قلت :(فعلى الرجل ؟)قال:( أمــه ).
وعن عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال:إني خطبت امرأة ،فأبت أن تنكحني وخطبها غيري فأحبّت أن تنكحه،فغرت عليها ،فقتلتها، فهل لي من توبة ؟ قال:أمك حية؟ قال:لا، عملاً أقرب إلى الله عز وجل من برِّ الوالدة)) .
وعد النبي صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين من أكبر الكبائر وخص الأمهات بالذكر، فقال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات ، ومنعاً وهات ، ووأد البنات ،وكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال)).
وهل أتاك أختاه نبأ سلفنا الصالح رضوان الله عليهم في بر أمهاتهم ؟ هذا أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وهو المسمى زين العابدين ، كان من سادات التابعين ،وكان كثير البر بأمه ، حتى قيل له : إنك من أبر الناس بأمك ، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة ، فقال : ( أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها ، فأكون قد عققتها )
وعن بعض آل سيرين قال : ( ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع) .
وعن ابن عون قال : دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه ، فقال : ( ما شأن محمد أيشتكي شيئاً ؟) قالوا 🙁 لا ، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه ).
وهذا عبد الله بن عون نادته أمه فأجابها ، فعلى صوته صوتها ، فأعتق رقبتين .
ولله در القائل :
لأمـــــك حــق لـو علـمـت كــبـير كـــثـيرك يا هذا لــديه يســــــير
فـكم ليـــلة بــاتت بثـقلك تشـــتكي لهـا مــن جــواها أنــّة وزفـــــير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفــؤاد يطـير
وكــم غسـلت عنـك الأذى بيمينها ومــا حجــرها إلا لــديك ســـرير
وتفـديـك مما تشـتكيه بنـفـســــــها ومـن ثـديها شــرب لـديـك نمــيـر
وكـم مــرة جاءت وأعطتك قوتها حنـــواً وإشــفاقــاً وأنـت صـغيـر
فآهاً لـذي عـقـل ويـتبع الـــهوى وآه لأعمــى القلـب وهو بصـيـر
فـدونك فـارغب فـي عميم دعائها فأنـت لما تدعــو إليـه فـقــــــيـر
وإذ قد علمت أختاه عظم شأنك في الإسلام ، فلا شك أن ذلك لعظم دورك المناط بك ؛ ذلك الدور الذي وعاه الجيل الأول من النساء فأخرجن ــ بتوفيق الله ــ ذلك الجيل الذي قاد نهضة الإسلام الأولى ، فكانت الأم من الأمة بمثابة القلب من الجسد ..
ولله درُّ القائل :
خلفت جيلاً من الأبطال سـيرتـه تضوع بين الورى روحاً وريحانا
كـانت فتــوحهمُ بـراً ومرحمــة كـانت سـياسـتهم عــدلاً وإحســانا
لم يعرفوا الدين أوراداً ومسبحة بل أشبعوا الدين محـراباً وميــدانا
ولك أختاه أن تتصوري أنه لا يكاد المرء يقف على عظيم ممن رادوا شمس الدهر وذلت لهم نواصي الحادثات إلا وكان لأمه نصيب من ذلك :
فهذا على بن أبي طالب رضي الله عنه ، تنقل في تربيته بين صدرين من أملأ صدور العالمين حكمة وأحفلها بجلال الخلال ، فكان مغداه على أمه فاطمة بنت أسد ، ومراحة على خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم .وهذا عبد الله بن جعفر رضي الله عنه سيد أجواد العرب وأنبل فتيانهم ، تركه أبوه صغيراً ، فتعاهدته أمه أسماء بنت عميس رضي الله عنها ، ولها من الفضل والنبل ما لها .
وهذا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، أريب العرب وألمعيُّها ، ورث عن هند بنت عتبة ما لم يرث عن أبي سفيان ،وهي القائلة ــ وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها : (( إن عاش معاوية ساد قومه )) : قالت : (( ثكلته إن لم يسد إلا قومه )) ولما نعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين : (( إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه )) ، فقالت : (( أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد ؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمى به فيها لخرج من أيها شاء )) .
وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع الفخر بالمقدرة وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمه فصدع أسماع خصمه بقوله : (( أنا ابن هند )).
وهذا عبد الملك بن مروان ، أمه عائشة بنت المغيرة بن أبي العاص بن أمية ، وكان لها من مضاء العزم ، وذكاء القلب ، ونفاذ الرأي ما لم يكن مروان في شيء منه ،وهي التي يعنيها ابن قيس الرقيات في قوله لعبد الملك : أنت ابن عائشة التي فضلت أُرُوم نسـائـها
لـم تـلـتـفت لِلـِدائـها ومشــت على غُلوائها
ولدت أغر مباركــاً كالشمس وسط سمائها
وهذا أبو حفص عمر بن عبد العزيز ، أورع الملوك وأعدلهم وأجلهم ، أمه هي أم عاصم بن عمر بن الخطاب . أكمل أهل دهرها كمالاً وأكرمهم خلالاً ، وأمها تلك التي اتخذها عمر لابنه عاصم وليس لها ما تعتز به من نشب ونسب إلا ما جرى على لسانها من قول الصدق في نصيحتها لأمها :
حكى الميداني أن عمر رضي الله عنه مر بسوق الليل ــ هي من أسواق المدينة ــ فرأى امرأة معها لبن تبيعه ، ومعها بنت لها شابة ،وقد همت العجوز أن تمذق لبنها ــ أي تخلطه بالماء ــ فجعلت الشابة تقول : يا أمه لا تمذقيه ولا تغشيه فوقف عليها عمر فقال : من هذه منك ؟ قالت : ابنتي ، فأمر عاصماً فتزوجها ، وهي جدة عمر بن عبد العزيز لأمه )) وهي التي نزعت به إلى خلائق جده الفاروق رضي الله عنه .
وهذا أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر الذي ولي الأندلس وكانت تميد بالفتن ،وتشرق بالدماء ، فما لبثت أن قرت له وسكنت لخشيته ، ثم خرج في طليعة جنده ، فافتتح سبعين حصناً في غزوة واحدة ، ثم أمعن بعد ذلك في قلب فرنسا ، وتغلغل في أحشاء سويسرا،وضم أطراف إيطاليا ، حتى ريض كل أولئك له ، ورجِّف لبأسه ، وبعد أن كانت قرطبة دار إمارة يذكر الخليفة العباسي على منابرها ، وتمضى باسمه أحكامها، أصبحت مقر خلافة يحكم إليها عواهل أوربة وملوكها ، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها .
أتدري مما سر هذه العظمة وما مهبط وحيها ؟ إنها المرأة وحدها ! فقد نشأ عبد الرحمن يتيماً قتل عمُّه أباه، فتفردت أمه بتربيته وإيداع سر الكمال وروح السمو في ذات نفسه ، فكان من أمره ما علمت .
وهذا سفيان الثوري ، وما أدراك ما سفيان الثوري ؟!
إنه فقيه العرب ومحدثهم ، وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة ، إنه أمير المؤمنين في الحديث الذي قال فيه زائدة : (( الثوري سيد المسلمين )) ،وقال الأوزاعي : (( لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان )) ، وما كان ذلك الإمام الجليل ، والعلم الشامخ ، إلا ثمرة أم صالحة ، حفظ التاريخ لنا مآثرها وفضائلها ومكانتها ، وإن كان ضن علينا باسمها . روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله بسنده عن وكيع قال : قالت أم سفيان لسفيان 🙁 يا بني !اطلب العلم ، وأنا أكفيك بمغزلي )) فكانت رحمها الله تعمل وتقدم له ليتفرغ للعلم ،وكانت تتخوله بالموعظة والنصيحة ، قالت له ذات مرة ــ فيما يرويه الإمام أحمد أيضاَ ــ : (( يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك ، فإذا لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ، ولا تنفعك )).
هذا الأوزاعي رحمه الله.. ذلك الحبر البحر ، كان أيضاً ثمرة أم عظيمة :
قال الذهبي رحمه الله : قال الوليد بن مزيد البيروتي : (( ولد الأوزاعي ببعلبك ، وربي يتيماً فقيراً في حجر أمه ، تعجز الملوك أن تؤدب أولادها أدبه في نفسه ، ما سمعت منه كلمة فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكاً يقهقه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول : ترى في المجلس قلب لم يبك)).
وهذه أم (( ربيعة الرأي )) شيخ الإمام مالك ، قد أنفقت على تعليم ولدها ثلاثين ألف دينار خلفها زوجها عندها ، وخرج إلى الغزو، ولم يعد لها إلا بعد أن استكمل ولده الرجولة والمشيخة ، وكانت أمه قد اشترتهما له بمال الرجل ، فحمد الرجل صنيعها ، وأربح تجارتها.
ثم إذا نشرنا صفحة العهد العباسي ، بل صفحة العهد الإسلامي لا نجد في تضاعيفها أمراً دنت له قطوف العلم والحكمة ،ودانت له نواصي البلاغة والفصاحة كمحمد بن إدريس الشافعي ، فهو الشهاب الثاقب الذي انتظم حواشي الأرض فملأ أقطارها علماً وفقهاً ذلك أيضاً ثمرة الأم العظيمة :
فقد مات أبوه وهو جنين أو رضيع ، فتولته أمه بعنايتها ، وأشرفت عليه بحكمتها ، وكانت امرأة من فضليات عقائل الأزد ، وهي التي تنقلت به من (( غزة )) مهبطه إلى (( مكة )) مستقر أخواله ، فربته بينهم هناك .
وكان جعفر بن يحيى وزير الرشيد أرفق الناس برياضة القول ،وأعرفهم بفنون الكلام ، وكان إذا عقب رسالة ، أو وقع تحت كتاب فإليه مباءة البلاغة ، ونهاية الإيجاز ، حتى لقد يتدافع الكتاب على بابه فيشترون من حاجبه كل توقيع بدينار ,كل ذلك ورثة جعفر عن أمه لا عن أبيه .
ولا شك أن تربية الأم لأولادها وإقامتها على النشئ واستخلافها ورعايتها لصنائع الله وأشباله إنما هي أمانة وأي أمانة على بناة ملك الإسلام وحماة حق الله ورعاية خلقه في الكون ، فرغم أن الإسلام لم يحمد من المرأة كراهيتها للزواج بعد زوجها ولم يعتد ذلك وفاءاً منها إلا أن الإسلام شكر ذلك لها إن احتسبت ذلك وفاءاً لأبنائها ورعياً لهم وضناً بهم أن يضيعوا عند غير أبيهم .. فهذه أم هانئ فاختة بنت أبي طالب رضي الله عنها أخت أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وبنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وراوية حديث الإسراء، فرق الإسلام بينها وبين زوجها هبيرة وكانت قد انكشفت منه عن أربعة بنين فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت أم هانئ :((يا رسول الله ، لانت أحب إلي من سمعي ومن بصري ، وحق الزوج عظيم ، فأخشى إن أقبلت على زوجي ـــ تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ أن أضيع بعض شأني وولدي ، وأن أقبلت على ولدي أن أضيع حق زوجي )) ، وهنا امتدحها النبي صلى الله عليه وسلم ، وشكر لها ذلك فقال : (( إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش ، أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه على بعل ــ أي زوج ــ في ذات يده )) .
وانصرفت أم هانئ رضي الله عنها إلى الاهتمام بأمور أبنائها وتربيتهم تربية صالحة، فنشئوا عالمين عاملين،
وروي بعضهم عنها ما حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث أمثال ابن ابنها جعدة المخزوم ، وابن ابنها يحيى بن جعفر، وابن ابنها هارون، وعاشت حتى خلافة أخيها على رضي الله عنه .
وكان ذلك بعض عذر أم سلمة حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت تقول له: (إني مُصْبِية )) ــ أي ذات صبيةــ فأرسل إليها :((أما ما ذكرت من أيتامك فعلى الله وعلى رسوله ))
فقالت عند ذلك : (( مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم )).
وتلك أم سليم رضي الله عنها، إحدى السابقات إلى الإسلام، أسلمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وبايعته حين مقدمه إلى المدينة، وكان إسلامها مراغمة لزوجها مالك بن النضر، وكان ولدها أنس بن مالك يومئذ طفلاً رضيعاً، فكانت تقول له: (( قل لا إله إلا الله، قل أشهد أن محمداً رسول الله)) فجعل ينطق بذلك أول ما ينطق ، فكان مما يثير الغضب في نفس مالك، فيقول لها: (( لا تفسدي علي ولدي)) ، ثم أيأسه أمرها فخرج عنها إلى الشام، وهناك كان مقتله، فلما بلغها قتله ـ وكانت شابة حديثة، وكثر خطابها ـ قالت :(( لا جرم، لا أفطم أنساً حتى يدع الثدي، ولا أتزوج حتى يجلس في المجالس ويأمرني )) فوفت بعهدها وبرَّت، وكان أنس رضي الله عنه يعرف لها تلك المنة، ويقول: ( جزى الله أمي عني خيراً، لقد أحسنت ولايتي).
حتى إذا شب أنس تقدم لخطبتها أبو طلحة زيد ـ وكان مشركاً ـ فأبت، ثم قالت له يوماً فيما تقول : (أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبة تأتي بها النجار فينجرها لك هل يضرك ؟ ..هل ينفعك؟ ) وأكثرت من أشباه ذلك الكلام، فوقع في قلبه الذي قالت، فأتاها فقال: ( لقد وقع في قلبي الذي قلت) وآمن بين يديها، قالت:( فإني أتزوجك ، ولا أريد منك صداقاً غير الإسلام ).
وقالت امرأة من نساء اليمامة تدعى ( أم أثال ) ـ وكانت كأحسن النساء وجهاًـ فلما مات زوجها ، تدافع الخطاب على بابها ، فردت كل خاطب ، وفاءً لابنها أثال وأنشدت :
اعـمــــــــر أثــال لا أفــدي بعــيشـه وإن كان في بعض المعاش جفاء
وإذا استجمعت أم الفتى عض طرفه وشــاعـره دون الدثــار بــــــلاء
كان ذلك أختاه بعض حديث المرأة المسلمة في الوفاء لخير ما خلقت له، ووكلت به.
الأمومة والتضحية :
تنتقل الأم بعد ذلك إلى طور آخر تبلغ به غاية ما أعدت له من كمال النفس ، وشرف العاطفة .. ذلك طور التضحية ، فهناك تنزل المرأة عن حقها من الوجد لمن فصل عن لحمها ودمها .. تسهر لينام ، وتظمأ ليروى ، وتحتمل الألم الممض ــ راضية مغتبطة ـ لتذيقه طعم الدعة ، وتُنْشِيِهُ نسيم النعيم .
تلك هي التضحية بالنفس بلغت بها الأمومة غايتها والجود بالنفس أقصى غاية الجود .
إن من آيات التضحية في المرأة ما يقف دونه الرجل عاني الوجه ، نادي الجبين ، ومن أمثال ما أنا سائقه إليك ، وقاصه عليك :
في أحد أيام الصيف كانت إحدى بواخر النيل تحمل العابرين غادية رائحة بين كفر الزيات ودسوق ، وفي ذات مرة أحرج الرُّبان صدرها بمن احتملهم ، فقذفها بضعفي ما تحتمل ، سارت الباحرة متعثرة مترنحة ، تتحامل على نفسها ، وتضطرب في خطاها فما كادت تنكشف إلى عرض النيل قليلاً حتى آذاها حملها ، فانْبتَّ عِقْدهُا ، وانحلت عقدتها ، ومالت على نفسها ، وتدفق الماء من منافذها ، هنالك خرج الناس عن عقولهم ، وتملكهم الفزع الأكبر ، وظنوا أنهم أحيط بهم ، فأخذوا يتدافعون على صدر النيل علهم يلقون يداً تدفعهم أو ترفعهم ، بين هذا الحفل المتماوج المتدافع المتواقع تقطعت الأنساب، فلا أب ولا أم ولا زوج ولا ولد ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ،وفي ذلك الموطن الذي دارت عليه كؤوس الموت متْرعة ، ظهرت امرأة لا تتلمس الشاطئ كما يتلمسون ، ولا تلوح بيدها كما يلوحون ، بل كان شغلها والموج يرفعها ويخفضها ، والموت يقبضها ويبسطها ، أن نزعت خمارها ، وأدرجت فيه ولدها ، ثم لوحت به إلى زوجها ، وقذفته على صفحة الماء مترفقة إليه، وصاحت به متهدجة قائلة : ( خذ يا فلان فذلك وصيتي إليك ).قالت ذلك ثم غاصت بين طيات الماء بعد أن أسلمت وديعتها ، وأبرأت إلى الله نفسها).
إلى تلك المنزلة السامية رفع الله المرأة ليكل إليها أشرف منازل الحياة ، منزلة التربية والتعليم ، منزلة الأستاذ الذي لا يمحو علمه ، ولا ينسخ آيته أستاذ سواه ، بل كل سائر على سنته ، ومستتبع طريقه..)*
* نقلاً عن عودة الحجاب
إن كنت بنتاً
قال واثلة بن الأسقع رضي الله :(إن من يُمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر،وذلك أن الله تعالى قال:(يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور)فبدأ بالإناث )
تفسير القرطبي
..إن الإسلام لم يفرق في المعاملة والرحمة والعطف الأبوي بين رجل وامراة،وذكر وانثى،وإنما دعا إلى المساواة والعدل الشامل بينهما في هذا الباب قال الله تعالى:(إن الله يأمر بالعدل والإحسان)الآية وقال عز من قائل:(اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اعدلوا بين أبنائكم،اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم).
وقد قال صلى الله عليه وسلم ،فيمن أراد أن يفضل بعض ولده على بعض في الهبة:(أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟)قال:(لا)قال:(فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)،وفي رواية أخرى أنه لما جاء يشهده صلى الله عليه وسلم قال له:(فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً :(سووا بين أولادكم في العطية،فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء). قال الألوسي رحمه الله :(المعهود من ذوي المروءة جبر قلوب النساء لضعفهن،ولذا يندب الرجل إذا أعطى شيئاَ لولده أن يبدأ بأنثاهم).
حرمة وأد البنات وكراهيتهن:
لقد حرَّم الإسلام الوأد،وشنع على فاعليه بالخسران والسفه، قال تعالى:(قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم)الأنعام(140) ،وقال عز وجل:(وإذا الموؤدة سئلت بأيِّ ذنب قتلت)التكوير(8ـ9) .
وقال صلى الله عليه وسلم:(إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات،ومنعاً وهات،ووأد البنات).
وبيَّن الإسلام أن كراهية البنات،والتشاؤم بهن،والحزن لولادتهن جاهلية بغيضة إلى الله تعالى. قال سبحانه ناعياً على أهلها:(وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم،يتوارى من القوم من سوء ما بشر به،أيمسكه على هون أم يدسه في التراب،ألا ساء ما يحكمون).بل إن هذا من ضعف الإيمان، وزعزعة اليقين،لكونهم لم يرضوا بما قسم الله لهم من إناث فهذا أمره الغالب،ومشيئته المطلقة،وإرادته النافذة،لا معقب لحكمه،ولا راد لقضائه. قال عز وجل:(لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء،يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور،أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً،ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير).وما سماه الله تعالى (هبة)فهو بالشكر أولى،وبحسن التقبل أحرى.
وقد اقتلع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض النفوس الضعيفة الجاهلية فخص البنات بالذكر،وأمر الآباء والمربين بحسن صحبتهن،والعناية بهن،والقيام على امورهن،وحض على رحمتهن،والشفقة عليهن.
فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل الحسين،فقال الأقرع بن حابس:(لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً)،فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(من لا يرحم لا يرحم).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:(جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(أتُقبِّلون صبيانكم ؟ فما نقبلهم )،فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أوأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة ؟)متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من كانت له أنثى فلم يئدها ،ولم يُهنها،ولم يؤثر وَلَده ــ يعني الذكورــ عليها ،أدخله الله تعالى الجنة)أي:مع السابقين.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:(سألت رسول الله :(أيُّ الذنب أعظم ؟)،قال:(أن تجعل لله نداً وهو خَلَقَكَ)،قلت،(إن ذلك لعظيم،ثم أيُّ؟)قال:(أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من عل جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو)وضم أصابعه، أي:معاً.
وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن من جِدته ــ يعني ماله ــ كنَّ له حجاباً من النار).
وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات،أو بنتان أو أختان،فأحسن صحبتهن،وصبرعليهن،واتقى الله فيهن دخل الجنة).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من كفل يتيماً له ذا قرابة أو لا قرابة له،فأنا وهو في الجنة كهاتين ــ وضم إصبعيه ــ ،ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة،وكان له كأجر مجاهد في سبيل الله صائماً قائماً).
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ما من مسلم يكون له ثلاث بنات فينفق عليهن حتى يبلغن أو يمتن إلا كن له حجاباً من النار)،فقالت امرأة:(أو بنتان؟)قال:(أو بنتان).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:(دخلت عليَّ امرأة معها ابنتان تسأل،فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة،فأعطيتُها إياها،فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها،ثم قامت فخرجت،فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا،فأخبرته فقال:(من ابتلي من هذه البنات بشيء فاحسن إليهن،كنَّ له ستراً من النار).
وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت:(جاءت مسكينة تحمل ابنتين لها،فأطعمتها ثلاث تمرات،فأعطت كل واحدة تمرة،ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها،فاستطعمتها ابنتاها،فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما،فأعجبني شأنها،فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(إن الله قد أوجب لها بها الجنة،أو أعتقها بها من النار).
وروى أبو الشيخ في الثواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(رحم الله والداً أعان ولده على بره)وروى أبو داود والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال:( الراحمون يرحمهم الرحمن،ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
كان العرب في الجاهلية يأنفون أن يداعب الرجل وليدته،أو يسمح لها أن تمرح بين يديه،فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نقض تلك السنة السيئة،ولم يكن يضن بوقته الأعز أن يداعب فيه الولائد من بناته أو بنات صحابته: فقد روى البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه قال:(خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقة،فصلى،فإذا ركع وضعها ،وإذا رفع رفعها،حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها).
وحدثت أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليَّ قميص أصفر،قال رسول الله:(سَنَهْ سَنَهُ)ــ وهي بالحبشية حسنة ــ قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة،فانتهرني أبي،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أبلي وأخلقي،ثم أبلي وأخلقي ) فعُمرَتْ بعد ذلك ما شاء الله أن تُعَمَّرَ .
أما حبه صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة وشغفه بها وحنانه عليها فمما لا يحيط به وصف،ولا يناله بيان،وهي التي يقول فيها:(فاطمة بضعة مني،يريبني ما أرابها،ويؤذيني ما آذاها).
أبصر المسلمون كل ذلك،ورأوا أن الله تعالى لم يختص فاطمة رضي الله عنها بذريته صلى الله عليه وسلم إلا ليُشيد بالمرأة،وينهض بأمرها،ويرفع من شأنها،ويأخذ العرب بحبها،والابتهاج بها،فغدا مَنْ بعده يحبون بناتهم،ويكرمونهن،ويرون الخير كله معقوداً بنواصيهن.
وعن البراء قال:أتى أبو بكر رضي الله عنه ابنته عائشة رضي الله عنها وقد أصابتها الحمى،فقال:(كيف أنت يا بنية؟)وقبل خدَّها .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم بالبنت من أبيها،وإنَّ فيما حدث البخاري عن سعد بن أبي وقاص لبلاغاً لقوم يعقلون:قال سعد رضي الله عنه:مرضت بمكة مرضاً أشرفت منه على الموت،فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني،فقلت:(يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً،وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بثلثي مالي؟)قال:(لا)قلت:(الشطر؟)قال:(لا)قلت:(الثلث؟)قال:(الثلث كثير، إنك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة إلا أُجرت عليها،حتى اللقمة ترفعها إلى فيه امرأتك).
ومما يحكى عن معاوية رضي الله عنه قوله في شأن البنت:(والله ما مرَّض المرضى،ولا ندب الموتى،ولا أعان على الزمان،ولا أذهب جيش الأحزان مثْلُهُنَّ،وإنك لواجِدٌ خالاً قد نفعه بنو أخته،وأباً قد رفعه نسلُ بنته).
وفي رواية عنه:(والله ما مرَّض المرضى،ولا ندب الموتى،ولا أعان على الأحزان مِثلُهن،ورُبَّ ابن أخت قد نفع خاله).
خاتمة
.. ها نحن أولاء اختاه نصل إلى نهاية رحلتنا،تلك الرحلة التي وقفنا فيها على معالم مضيئة تستضيئين بها وأنت في طريقك إلى الآخرة،وأرسينا فيها قواعد راسيات ينبغي أن تقوم عليها قلعتك الحصينة،وأثبتنا فيها أركاناً متينة تحدد بوضوح ملامح دورك الواعد.. قد توفقنا على محطات لذلك الدور العظيم: إن كنت زوجة،حيث عرَّجنا هنالك على حدود تبين حقوق زوجك عليك،والحقوق المشتركة بينكما،ثم حقوقك أنت على زوجك،ثم إن كنت أماً،وإن كنت بنتاً..
لعلك أختاه وقد عشت تلك الرحلة بعقلك وقلبك ــ لعلك رأيت ذلك النور والضياء الذي يخطف القلوب والأبصار وهي ترنو إليه،فيجعل من يقتبس منه يضيئ في سماء الإنسانية ولو لم تمسسه نار ..
لعل روحك أختاه قد سمت ورفت وشفت إلى ذلك السموق والسمو الذي يكل الأعناق وهي تشرأب إليه ..
قد رأيت أختاه كيف أن هذه المعالم الوضيئة قد نسجت بتوفيق الله في دنيا الناس نجوماً زاهرة وكواكب نيرة..ولا عجب أختاه ؛ فهذا ديننا العظيم ..الإسلام.
وخشية الإملال والتجافي ننحي القلم جانباً سائلين الله الكريم أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهة الكريم،وأن يهدي به،ويتقبله منا وينفعنا به ، وينفع به معنا كل من ساهم في إعداد وطباعة ونشر هذه الرسالة.. إنه ولينا ومولانا، وهو حسبنا ونعم الوكيل…
وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كوبنهاغن ــ دانمارك
ربيع ثان 1414هـ ، سبتمبر 1993م