الدكتور حلمي القاعود: هل عاش ألف عام!
كان ذلك منذ أربعين عاما،كنت أجمع أبنائي حولي -كانوا أطفالا- لأحكي لهم قصصا مِن التاريخ الذي عشته أو قرأته، مستسلما لخجل وكبرياء يحذرني من الولوج في أماكن معينة،أعلم أن الجرح فيها غائر،وعصب الضرس مكشوف، وأن الألم العنيف قد يدفعني للنحيب والبكاء، مثل وفاة الرسول، أو هزائمنا، أو البطش الذي لحق بشعوبنا، خاصة من حكامنا، لذلك كنت أتجنبها، وأفلحت محاولاتي، إلا في مرة واحدة،لم يأت فيها الألم كتهاطل المطر بل كالسيل الجارف الذي لا يمكن توقعه ولا مقاومته.
كان التاريخ قصة حب دامية سواء قرأته أو رويته، أو كتبته،حيث الجمل دم، والكلمات جمر، وعلامات الترقيم بقايا عظام.
وذات مرة،كنت أروي لأطفالي تاريخ صلاح الدين،وبلغ الانفعال مني مبلغا عظيما،عندما قارنت عزنا أيامه بالإسلام، بذلنا الآن بالكفر، وقارنت موقفه حين حرم على نفسه أن يضحك والمسجد الأقصى أسير،وبين القتلة والزناة والكفار الآن وهم يتبرؤون من الأقصى تبرؤ الكافر من الإيمان، ولم أتمالك نفسي، وكنت كجل أهلي وعشيرتي أخجل من البكاء فأشرت إلى أطفالي بالانصراف، فانصرفوا في رعب، وربما تخيلوا أنني رأيت ما لم يروا،وأن شخصيات التاريخ تجسدت أمامي حية، وفوجئت بعد ساعات بابنتي الصغرى تتسلل إلىّ، بدا كما لو كانت قد اكتشفت سرا دفينا تريد أن تحتفظ به بيني وبينها، كنزا لها، وأن تكون دون إخوتها هي التي تعرفه.
فاجأتني ابنتي بالسؤال، أو بطلب الاعتراف فقالت بوجل من يوشك على اكتشاف سر رهيب:
– أبي:قل لي الحقيقة:هل قابلت صلاح الدين شخصيا؟ وهل هو يعرفك؟! هل تعيش منذ أيامه
***
-ظلت هذه الواقعة تحوم في فضاءاتي طيلة الأربعين عاما الماضية،كما لو كانت طائرا يبحث عن أرض يحط عليها بعد أن عبر البحور والمحيطات.
-وفجأة وجد الطائر أرضا يحط عليها..
-الدكتور حلمي القاعود!!
***
وجدتني أريد أن أسأل عن الدكتور حلمي القاعود، هل عاصر فترة التنزيل، هل قابل حسان بن ثابت وأسامة بن زيد؟ هل تتلمذ مباشرة على أيدي الصحابة، هل قابل أبي لهب فشارك في إلقاء الصخر على جسده النتن عندما أبى أهله أن يدفنوه، هل شارك في قتل أبي جهل؟ نعم، وددت أن أسأله إن كان قد عاصر الصحابة وسمع منهم، وأن أسأله هل كان من جند الحسين في كربلاء؟ هل كان مع ابن تيمية والعز بن عبد السلام فتعلم منهم العلم والشجاعة والإقدام وأن خير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر فراح يمارس خير الجهاد طول عمره. هل شارك في حطين وعين جالوت؟ هل عاصر محمد علي وبصق عليه كما فعل مع المجرمين؟ هل عاش هذا الزمن كله وعاصره كله وانفعل به كله؟ وإلا فكيف كانت كتاباته حية هكذا دامية هكذا رائعة هكذا.. مروعة هكذا دامية هكذا صارخة هكذا رافضة هكذا مستنكرة هكذا؟
كيف كيف كيف كيف؟!
وكيف اتسع عمره أطال الله عمره لكل هذه الأعمال؟!
إن عملا واحدا من أعماله وهي عشرات كثيرة بل مئات، عمل واحد منها كان كفيلا باستغراق عمر إنسان عادي، فكيف بهذه الأعمال جميعا؟
دراساته عن محمد عبد الحليم عبد الله على سبيل المثال، ومعايشة أعماله الأدبية ونقدها حيث النقد إبداع لا يقل عن العمل الإبداعي نفسه وقد يزيد. أو دراساته عن با كثير ورحيله إلى بلاده في أقصى بلاد العرب كي يعيش جوه وبيئته ولغته والمؤثرات في كتاباته، نعم أحب الدكتور حلمي القاعود الكاتب الكبير علي احمد باكثير (1910- 1969م) وكتب عنه الكثير أيضا كما سافر إلي بلده حضرموت ليعيش مع بعض من أهله بعض الوقت. وكان دافعه أن يضيء جوانب حياة الرجل الذي عتم كلاب الحكام والنخبة العفنة عليه انتقاما من كتاباته الإسلامية التي تسببت في نقمة الشيوعيين علي أدبه وفكره فحاصروه حتى لقي ربه.
عمل واحد من أعمال الدكتور حلمي القاعود كدراساته عن نجيب الكيلاني كفيل باستغراق العمر كله، حيث يخيل إليك من فرط الانصهار أو الذوبان أنهما كتبا نفس العمل معا، أو أنَّ القاعود هو الذي كتبه ووضع اسم الكيلاني عليه، سمة النقاد العظماء، الذين يتناولون العمل بحب وشغف وذوبان، فتختلط نبضات القلب بنبضات العمل، ومع ذلك لا يعوقه هذا عن انتقاده سلبا أو إيجابا كالأب الحنون يعامل ابنه الأعز فتكون حتى قسوته رحمة.
عمل واحد كمتابعته البديعة للأدب الإسلامي بداياته وتطوراته وأفكاره وتطبيقه، بطريقة ربما لا يكون مسبوقا فيها، ثم دراساته في النقد الأدبي الحديث، وفي تيسير علم المعاني، وكتابه البديع: محمد – صلي الله عليه وسلم – في الشعر العربي الحديث، ثم دع هذا كله وادلف معه إلى كتابه عن البلاغة القرآنية، مناقشا ومتعلما ومعلما يُحلِّق في الآفاق كما لو كان يركب بساط الريح أو عربة الزمن فيجعلك تعيش معه كل العصور وعبر الدهور، ثم دع ذلك واقفز ألف عام أو يزيد إلى الأمام لتقرأ له القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث : دراسة ونصوص.
اقرأ، واقرأ واقرأ
اقرأ وتعلم
إقرأ وتكلم
اقرأ وتألم
اقرأ وتأمل
ولكن حاذر أن يكون أطفالك إلى جوارك،فقد تجهش بالبكاء أمامهم كما فعلت أنا ذلك ذات يوم وقد يخجلك ذلك كما أخجلني.
اقرأ الدكتور حلمي القاعود..
اقرأ مسلمون لا نخجل
اقرأ حراس العقيدة
اقرأ الحرب الصليبية العاشرة
اقرأ العودة إلى الينابيع
اقرأ الصلح الأسود .. والطريق إلى القدس
اقرأ ثورة المساجد .. حجارة من سجيل
اقرأ هتلر الشرق
اقرأ جاهلية صدام وزلزال الخليج
اقرأ أهل الفن وتجارة الغرائز
اقرأ النظام العسكري في الجزائر
اقرأ حفنة سطور ..شهادة إسلامية
اقرأ واسلمي يا مصر
اقرأ التنوير .. رؤية إسلامية
اقرأ الأقصى في مواجهة أفيال أبرهة
اقرأ الإسلام في مواجهة الاستئصال
اقرأ تحرير الإسلام
اقرأ الصحافة المهاجرة
اقرأ ثقافة التبعية : المنهج ، الخصائص ، التطبيقات
اقرأ دفاعا عن الإسلام والحرية
اقرأ معركة الحجاب والصراع الحضاري
اقرأ العصا الغليظة
اقرأ انتصار الدم على السيف
اقرأ الغروب المستحيل
اقرأ رائحة الحبيب (رواية عن حرب رمضان)
اقرأ الحب يأتي مصادفة (رواية عن حرب رمضان)
اقرأ مدرسة البيان في النثر الحديث
اقرأ موسم البحث عن هوية : دراسات في القصة والرواية
اقرأ الرواية التاريخية في أدبنا الحديث
اقرأ الحداثة العربية : المصطلح والمفهوم
اقرأ الورد والهالوك : شعراء السبعينيات في مصر وهو من أهم أعمال الدكتور حلمي القاعود ويقول عنه:
– كتاب ” الورد والهالوك” من الكتب التي كتبتها بدمي إن صح التعبير، فكل جملة، بل كل كلمة، بل كل حرف، كان وراءه فكري وأعصابي ودمي، وقد واجهت تياراً هادراً يملك كل شيء الصحافة والإذاعة والتلفزة والمؤسسة الثقافية بكتبها ومجلاتها وصحفها، وندواتها ومحاضراتها وجوائزها، ونقادها ومؤتمراتها، وكان الترويج لأفراد هذا التيار لا يتم داخل الحدود وحسب، ولكنه كان يتجاوزها إلى أرجاء العالم العربي والصحف والمجلات ودور النشر في لندن وباريس وقبرص، وتاهت الحقائق، وضاع الفن، وسط الضجيج الصاخب الذي يروج لشعر يخلو من مقومات الشعر شكلاً وموضوعاً، بل تعدى إلى إهدار كل قيمة مضيئة فنياً وإنسانياً، في الوقت الذي تقوم فيه كوكبة من الشعراء على امتداد قرى مصر ومدنها الصغيرة بدور صامت في التعبير عن هموم الأمة من خلال فن جميل أصيل متجدد، دون أن يلتفت إليها أحد، أو يقدرها أحد.. وهنا كان دوري لأواجه التيار وأسبح ضده، وأنشر الحقيقة، وقلت رأيي واضحاً وصريحاً وجريئاً بفضل الله، وصح كل ما توقعته. واليوم لم يبق إلا شعراء الأصالة.. أما الهالوك فقد جف وأصبح هشيماً تذروه الرياح.
***
اقرأ الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني
اقرأ لويس عوض : الأسطورة والحقيقة
اقرأ حوار مع الرواية في مصر وسورية
اقرأ الرواية الإسلامية المعاصرة
اقرأ الوعي والغيبوبة : دراسات في الرواية المعاصرة
اقرأ إنسانية الأدب الإسلامي
اقرأ حصيرة الريف الواسعة
اقرأ أبحاثه عن شعراء المقاومة الفلسطينية
اقرأ كتاباته عن باكثير
اقرأ كتاباته عن الصحافة الطائفية
اقرأ كتاباته عن عجرفة الصغار
اقرأ كتابه الرواية التاريخية في أدبنا الحديث
واقرأ الإسلام في مواجهة الاستئصال
اقرأ أيضا كتابه: “الحداثة تعود”
بل إنه لم يكتف بتخصصه بل حلق في كل الآفاق وأبحر في كل البحار وخاض مجاهل الفلسفة واستمع إليه عندما يلخص في إيجاز معجز فلسفة الحداثة كلها فيقول:
– لقد انتهت الحداثة، وانتهى ما بعد الحداثة، وها هي العولمة تدق الأبواب من جديد لتعيد سيرة الاستعمار الصليبي العسكري الذي توارى مع منتصف القرن الماضي، ففيم يتنافسون الآن؟ اسمع: هناك بعض الناس حتى الآن لا يعرفون معنى الحداثة، ويفهمونها على أنها تعني التجديد، والتجديد مطلوب في كل زمان ومكان، لأنه التطور الطبيعي للأشياء وفق سنن الله التي فطر الناس عليها، ولكن الحداثة التي يريدون استنباتها في بلادنا العربية المسلمة تعني الانقطاع، أي ترك الدين والتاريخ والعادات والتقاليد. الخ، وبناء عالم جديد يقوم على التجربة والواقع، وعلى الحداثي أن يخط طريقاً جديداً بعيداً عن الوحي والمواريث مهما كانت مقدسة! أي لا مكان للإله ولا للعقيدة الدينية، وقد نشأت نظريات ما بعد الحداثة لتجعل الفرد هو سيد نفسه في كل شيء وخاصة إذا كان أوربياً أو أمريكياً، وها هي أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م تؤكد على نظريات جديدة تنسف ما سبق، وتعلن جهاراً نهاراً أن العالم قرية واضحة، يجب أن يخضع كل من فيها لهيمنة القوة التي تملك المال والسلاح ووسائل الاتصال، كما يجب أن تفتح أبواب الدول والعواصم لمنتجات هذه القوة دون رسوم أو جمارك أو حوائل، وإلا فالعصا الغليظة كفيلة بتأديب من يقف في مواجهتها، والذرائع ملقاة في الطريق: أسلحة الدمار الشامل، الديمقراطية، حقوق الإنسان، الاقتصاد الحر، معاداة السامية، دعم الإرهاب.. والعراق وأفغانستان من أوضح الأمثلة والنماذج التي ترفع أمام كل من تسول له نفسه أن يتجاوز حدوده
***
اقرأ حلمي القاعود وتساءل هل القاعود فرد أم جيش؟
وهل اسم القاعود مفرد أم جمع؟
اقرأ للدكتور القاعود (ومن حقك أن تنظر بريبة إلى تقديري أنه عاش ألف عام فقط)
ربيع الشعر وربيع الثورة
واقرأ الأسد والناصرية.. تحت عباءة العروبة!
واقرأ جرائم اليسار .. والحفاظ على الهوية
واقرأ: عندما ترفع الأقلية المشانق
ولو أنك قرأت لأصابك الذهول من اتساع المدى
وسوف يصيبك ذهول أكبر عندما تفاجأ بعد كل هذه الكتابات أنه لم يكف عن الكلمة المنطوقة أيضا.
واستمع إليه –على سبيل المثال- يقول: لا يستحيي أفراد “الحظيرة الثقافية” في أحاديثهم وتصريحاتهم من التطاول على الشعب المصري المسلم، حين يجاهرون علنًا وعلى رءوس الأشهاد أنهم يقفون ضد إسلامه ودينه وعقيدته
اقرأ كتاباته وخطبه ومحاوراته عن إجرام صدام حسين “
عن القرن الأفريقي”
عن البوسنة والهرسك
وعن محاولات التنصير في القارة الأفريقية
اقرأ كتابه “شعراء وقضايا” والذي يعد الوجه العربي خارج مصر للورد والهالوك لنماذج لشعراء لهم قضايا من بلدان عربية شتي.. تبدأ من العراق إلي الخليج وتنتهي عند المغرب علي المحيط
بقي أن تعرف أن “الهالوك” نبات متسلق ينبت في شمال الدلتا بمصر، لكن لا جذور له، فمن السهل اقتلاعه وتنظيف الأرض من شروره.
***
اقرأ..
اقرأ..
اقرأ؟؟
اقرأ كتابه “شعراء وقضايا”، حيث يكشف جوانب مهمة في الشعر العربي الحديث من خلال بعض شعرائه وقضاياه
اقرأ كتاباته عن عبد الحميد جودة السحار
اقرأ كتابه لويس عوض : الأسطورة والحقيقة التنوير .. وهو امتداد لجهد العلامة محمود شاكر “أباطيل وأسمار” وفي هذا الكتاب يضع لويس عوض ـ بالدليل والبُرهان ـ في حجمه الحقيقي، بعد أن يتناول جوانب الهالة الأسطورية التي أحاطته، بأسلوب علمي أكاديمي موضوعي، يعتمد على مقولات لويس عوض وكتاباته بالدرجة الأولى، وما كتبه من كتب نقدية وإبداعية، فيُظهر أن كتابات الرجل متهالكة علمية، ويسرق كتابات الآخرين (كما فعل في كتابه عن جمال الدين الأفغاني)، وكتاباته الفنية متواضعة، ولا تصنع منه مبدعاً كبيراً.
اقرأ
اقرأ الأقصى في مواجهة أفيال أبرهة
***
نعم ..سيخيل إليك أنَّ القاعود عاش ألف عام أو يزيد
لكنك ستكتشف أن لظي الجمر الذي يضعك عليه ما زال حيا حديثا يتأجج فهو قد عاش منذ أكثر من ألف عام إذن لكنه يظل حيا بيننا
حتى الآن..
واقرأه يتحدث عن بدر شاكر السياب وانقلابه على الشيوعية ليتجاهله النقاد النصابون فينصره الدكتور القاعود نصرا مؤزرا
***
لم يكتف حلمي القاعود بكل هذا،وكأنما لديه فضل وقت يكتب فيه عن الخارج أيضا
عن بابا الفاتيكان.. وتأجيج المشاعر ضد المسلمين
ويكتب عن الحرب في بنجلاديش:
فهي ضد الإسلام والمسلمين؛ لفرض التغريب ونزع الهوية عن شعب يبلغ سكانه 150 مليونًا، 99٪ منهم مسلمون، أغلبهم من أهل السنة والجماعة.
ويكتب عن مسلمي بورما.. وأمريكا آخر من يعلم!
***
ثم إن حلمي القاعود حزب قائم بذاته، لذلك لم يكن أي حزب يتسع له.
***
إنه يتقدم فارسا مغوارا يسدد الضربات الهائلة في كل اتجاه حتى لو كان وحده..
اقرأ وسل نفسك هل عاش حلمي القاعود ألف عام؟
اقرأ واسأل كيف تسنى له أن يكتب هذه الكتابات كلها وأن يبدع هذا الإبداع كله؟
كيف؟
ومتى؟
اقرأ له في الأدب والنقد والرواية والقصة والتاريخ
اقرأ، وكلما استغرقك عمل ستتخيل أن هذا العمل بانفعالاته وأفكاره والتنظير له قد استغرق عمره كله.
وسيظل هذا الشعور يكتنفك في كل عمل للدكتور القاعود.
***
هل هو مهم بعد أن حلقنا فوق الجبال الفريدة والأنهار المديدة أن نذكر معلومات من نوع :ولد الدكتور حلمي محمد القاعود في 5 إبريل عام 1946م، ويعمل بوظيفة أستاذ النقد والبلاغة والأدب المُقارن ورئيس قسم اللغة والعربية السابق بكلية الآداب، وقد حصل – رغم التجاهل والتعتيم- على العديد من الجوائز. وهو واحد من أبرز نقاد الأدب في العالم العربي.
هل هو مجدٍ أن نترك الطوفان الهادر إلى عين ماء سلسبيل هي في النهاية بعض من الكل.
لقد وصفه الأديب الكبير” وديع فلسطين” في مجلة الثقافة التي كانت تصدر في السبعينيات من القرن الماضي بأنه أفضل النقاد الشبان.
***
***
بقيت نقطتان
في مؤتمر علمي بدولة عربية كنت مع الدكتور حلمي القاعود ، فيما يتعلق بالدكتور حلمي القاعود أمرين:
-أولهما أنه في إحدى الندوات كان هناك أستاذ جامعي فلسطيني أمريكي شديد الاعتداد بنفسه حتى الغرور والزهو، وقد ألقى محاضرة في قضية فلسفية فكرية تربوية عميقة ومتخصصة.وبعد انتهائه فوجئنا بالدكتور حلمي القاعود يطلب التعقيب، وارتجفت خوفا مما يمكن أن يناله من الطرف الآخر في موضوع لم يعد له وهو غير متخصص فيه. كنت واثقا من أنه وضع نفسه في غير موضعها، وأنه لن يخرج من المناظرة إلا مهزوما، وبدأ الحديث وكل الحاضرين ضده، وشيئا فشيئا بدأ التحول، واكتست القسمات المسترخية بملامح اهتمام فدهشة فذهول، ولم ينته الدكتور القاعود إلا وقد أجهز تماما على غريمه، وفي غير تخصصه، وانطلقت موجة من التصفيق الحاد، معجونة بقهر طال يبحث عن سم خياط ينفذ منه كي يعبر عن بعض من استرداد الثقة بالنفس. لم يكن معظم الحاضرين يعرف الدكتور القاعود معرفة شخصية، لكن كل واحد منهم اعتبر انتصاره في الحوار نصرا شخصيا له. كان تصفيقا نابعا من القلب باعثا على رغبة حادة في البكاء. كجرعة ماء لمن تشقق بالعطش حلقه.جرعة ماء طال انتظارها.
-الموقف الثاني حدث في الفندق حين نزلنا في الصباح لتناول الإفطار، وفوجئت بموظف الاستقبال في الفندق يقول لي:
— لقد أوصاني الدكتور حلمي القاعود ألا أخبر أحدا، لكن يجب أن أقول لك،فالله وحده يعلم إلام تصير الأمور، لقد أصيب بنزيف شديد من الأنف وذهب إلى المستشفى. وسألته في انزعاج شديد :أي مستشفى. ولم يكن الرجل يعرف، لكنني أنا كنت أعرف كطبيب أن مثل هذا النزيف خاصة في عمرنا قد يكون خطيرا، وفي وسط دوامة انزعاجي واتصالات كي نعرف إلى أي مستشفى ذهب كي نهرع إليه، فوجئنا به قادما، وكأنما أشفق علينا من دقيقة أخرى من الانزعاج حتى يصل إلينا فرسم ابتسامة عريضة على فمه كأنها تقول: اطمئنوا: أنا بخير.
بعد أن اطمأننت عليه رحت أعاتبه عتابا مرا لأنه لم يخبرني، على الأقل لأكون معه في المستشفى. وبابتسامة حانية خجلانة راح يهون من الأمر كله ثم قال في رجاء أقرب إلى التوسل:
— أرجوكم لا تخبروا محمود كي لا يقلق.
-كان محمود صحافيا شابا شديد التميز، وكان الصحافي الذي غطى تلك الرحلة وكان ابن الدكتور حلمي القاعود.
وتحامل الرجل على نفسه،وأبي أن يرضخ لنصائح بالراحة، كي لا يصيب القلق ابنه.
رحت أراقب الرجل بمشاعر جياشة،فإذا به يعامل الجميع كما يعامل ابنه محمود، وأنه ظل عمره كله يتحامل على نفسه ويخفي آلامه وأحزانه إزاء ما تمر بها الأمة.
-***
-هل سيضيف للقارئ كثيرا أن نقول أنه كان يحرر مجلة الاعتصام ومنها تولدت كل مظاهر حرية الصحافة بعد ذلك في مصر، وأنه كانت من شروط كامب ديفيد إغلاقها.
وهل سيضيف للقارئ كثيرا أن يعلم أنه يشكل الامتداد العضوي للرافعي العظيم.
لقد حافظ الدكتور القاعود على شرف وكرامة النقد في مصر بعد أن شاعت مقولة بين النقاد أن النقد مقابل النقد: الأولى عن النقد الأدبي والثانية أنه أصبح لا يتم إلا مقابل المال.
***
لقد واجه الدكتور حلمي القاعود الفوضى المنظمة والمقصودة بمنهج كان كفيلا بتعريتها وهدمها لولا التعتيم عليه وحصاره، وقد كانت خطورته أنه ميز ما بين الورد والهالوك، والغث والسمين، والزبد الذي يذهب جفاء وما يمكث في الأرض، لقد كان هدف الفوضى المنظمة إكمال هدم البناء لتشييد بناء آخر، وكان الهدم يشمل أول ما يشمل: هدم اللغة واستئصال الدين ومحق الهوية وهو ما تصدى له الدكتور القاعود وما يزال.
***
أتساءل مرة أخرى: هل عاش الدكتور حلمي القاعود ألف عام أو يزيد
أو لعله استنسخ نفسه فأرسل في كل جبهة من جبهات القتال المعنوية “حلمي قاعود” مختلفا عن حلمي القاعود الآخر
إن الدكتور حلمي القاعود ليس مجرد ناقد، ولا حتى مجرد أعظم النقاد المعاصرين في مصر بل هو واحد من الأعمدة الرئيسية للتيار المتكامل من النقد الأدبي ليكمل ما بدأه الرافعي من اعتبار الدين محور الوجود الإنساني وغائيته التي ترفض كل وسيلة غير شريفة أو أدب لا يخدم في النهاية رفعة ونبل الوجود الإنساني.
يلخص الدكتور حلمي القاعود الأمر كله في مقدمته عن لويس عوض فيقول:
كان قدري أن أسبح ضد التيار في معظم ما أكتب إن لم يكن فيه كله، مع ما في هذه السباحة من متاعب ومصاعب، وأن أدخل إلى مناطق ملغومة، مليئة بالأشواك التي تُدمي وتجرح. وكان هدفي في النهاية هو كشف الحقيقة وتقديمها للناس دون من ولا أذى محتسباً ما ألقى عند الله.
ولقد واجه الدكتور حلمي القاعود قطعان النخب المتوحشة الغادرة بدأب الفلاح المصري الفصيح الذي عاش آلاف السنين. إنه ذلك الفلاح الماهر الذي يستطيع أن يقتلع الهالوك من الحقل حتى لا يغطي علي الورد فيضعفه ويقضي عليه.
***
يذكرني الدكتور حلمي القاعود بفيلم سينمائي فرنسي عن المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، دعنا الآن من أن فرنسا لا تقل إجراما ووحشية عن النازية، بل المؤكد أنها تزيد. كان جيش هتلر المكتسح يطوي فرنسا، وقد ذاب خط ماجينو كقطعة زبد على صفيح ساخن، وولى الناس فرارا بعد أن ملئوا رعبا، وفي مدينة صغيرة فر أهلها عن بكرة أبيهم، وبقي فيها عجوز واحد، أصر على عدم الانسحاب وعلى أن يقاوم، كان يتصرف كما لو كان الرجل الوحيد الباقي في العالم وأنه مسئول بمقاومته عن استمرار الوجود الإنساني، واضطر الألمان إزاء تصاعد خسائرهم لوقف الهجوم مؤقتا. وراحوا يقدرون حجم الجيش الذي لم ينسحب داخل المدينة، فقدره البعض بالمئات والبعض بالآلاف، وإزاء خسائر لا يمكن احتمالها استدعوا الطيران لينفذ سياسة الأرض المحروقة فحول المدينة كلها إلى كومة رماد، ودخل النازيون يبحثون عن الجيش الذي دوخهم، ليفاجئوا وهم في ذهول لا يوصف بجثمان رجل واحد ممزق تحت الأنقاض.
أقول لنفسي:-المؤكد أن البطل الذي واجه وقاوم جحافل جيوشهم وحده: كان هو الدكتور حلمي القاعود.