Home / المنبر الحر / المنهج بين الفكر والأخلاق

المنهج بين الفكر والأخلاق

 

المنهج بين الفكر والأخلاق

 

بقلم الشيخ أبي عبد الحق الأنصاري

 

فمن حكمة الله جل وعلا أن جعل هذا الدين خير الأديان وجعله ديناً كاملاً متكاملاً ، تاماً متناسباً متناسقاً وأمرنا أن نأخذه كله بقوة وأمانة تعبداً وتألهاً لله رب العالمين ، ولا يسع المسلم إلا هذا ولا يصلح حاله في نفسه ومع الناس إلا ذلك .

 

(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة

 

فيجب على المسلم أن يدخل في شرائع الإسلام كلها بمجموع حياته وكافة تصرفاته لا يشذ عن ذلك بقوله أو فعل ولا يخرج عنه بمنطقه أو سلوك

 

فالعقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك والمشاعر والعواطف كل ذلك محكوم بالإسلام ولا تصح العبودية بها إلا بهدى الإسلام

 

وإن قضية الأخلاق والدعوة إليها والتحلي بها وسلوك الحياة على هديها هدف أسمى من أهداف الإسلام وغرض أجل من أغراضه

 

(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين

 

وإنه لم يتطرق الخلل إلى حياة المسلمين إلا حينما فسدت التصورات وانحرفت المفاهيم وأُخِذ بجانب من الدين وتُرك جانب والتُزِمت ناحية وأُهمِلت أخرى

 

وكما نعلم فإنه لن يقوم بهذا الدين إلا من أحاط به والتزمه كله على قدر استطاعته وفي هذا المقال أحاول أن أتعرض لهذه القضية من جانب الأخلاق ، مبيناً التلازم بينها وبين المنهج كله وأهميتها وضرورتها للمسلم عامة وللعاملين في الحقل الإسلامي خاصة دفعني إلى ذلك الحرص على صفاء المنهج ونقائه من تشويش بعض الناس ممن لحظوا عدم استقامة بعض المنتسبين إلى الحق على مقتضاه ، فلم يردوا الأمر إلى نصابه بدعوة هؤلاء الناكصين إلى الاستقامة بل عمدوا إلى المنهج ينتقصونه ويتهمونه بالقصور فراعني ذلك فكانت هذه السطور

 

التلازم بين الفكر والأخلاق

 

إن أي منهج يراد له السيادة ، ويسعى أهله للتمكين ، لابد له من فكرة تمثل الأساس الذي يقوم عليه والركيزة الأولى التي يعلو عليها البناء ويزدان ، واللبنة الأم التي تحمل البناء الثقيل الذي سيزداد عبؤه مع طول الطريق ، ولابد له كذلك من قاعدة أخلاقية يستند عليها بها يصير البناء متيناً قوياً متحامياً من آفاته الذاتية مستعصياً على معاول الهدم الخارجية ، فيكتسب حصانة تؤهله للبقاء وتمده بروح الحياة

 

فيرتفع بهدوء وسلام ، ويعلو في ثقة وثبات

 

إن الأساس الفكري يمثل معرفة الطريق ، والقاعدة الأخلاقية هي التي تحفظ المسير على هذا الطريق وليست معرفة الطريق بكافية لسلوكه وبلوغ المقصد ، كما أن سلوكه على غير معرفة ضرب في عماية وتغرير بقاصديه ونقض لأصل السلوك

 

وإنه من اليسير على المرء أن يدرك علاقة التلازم بين الفكرة والأخلاق ، وإن هذه الوشيجة بينهما هي سر الجمال وينبوع التأثير الذي ما إن تنفك عروتها إلا وعاد ذلك بالضرر على المنهج إنه يمكننا تشبيه العمل الإسلامي عندما يخلو من القاعدة الأخلاقية اكتفاءً بالأساس الفكري ببيت أراد صاحبه أن يوطد دعائمه ويعلي جدرانه ويحسن بنيانه فشرع في ذلك فحفر محل الأساس في الأرض ووضع حجارته وأقبل يهيئ لها ورتب أوضاعها وألف بينها بمادة اسمنتية قوية ثم توقف عند هذا الحد واكتفى بهذا القدر فماذا تكون النتيجة

 

وما هو مآل هذا الأساس

 

إنك تمر عليه بعد فترة من الزمن وقد بدأت حجارته تتآكل بفعل عوامل كثيرة فحجر قد سقط من هنا وحجر قد نشز من هناك ، والمادة الاسمنتية التي تربط هذه الحجارة لم تسلم من التآكل والتفتت كذلك ، وصار منظر هذا الأساس موحشاً منفراً بل صار قذى في العين بعدما كان يروقها فإذا مر عليه زمان أطول من ذلك قد يتمنى المرء زواله رثاء وشفقة على صاحبه وعلى الناس ، بل حرصاً عن أن يفتتن بعض الناس ممن يتسرعون في إصدار الأحكام فيسارعون بدمغ أصل الفكرة والاستهجان بقواعد المنهج ، وقد يصل الحال ببعضهم حينما يرى هذه الحالة المنفرة في صورة التشبيه الذي ضربناه فيتصور عدم الحاجة إلى أساس في بنائه فيروح يبني بيته في الهواء ويتعب نفسه في تحسينه وتزيينه وليس الأمر كما يظن هذان الفريقان ، فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه

 

(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً

 

فالتعويل دوماً على الأفكار دون حفظها بالأخلاق الحميدة وسقيها بماء العبودية ورعايتها بجميل السلوك وإحاطتها برائق الشمائل وإمدادها بنقاء القدوة وروعتها الأخاذة

 

لاشك أنه هذا التعويل ضرب من الحماقة إذ أنه إضرار بنفس الفكرة لوكان صاحبها يغار عليها حقاً ثم إنه تنفير للناس عنها وهي فتنة للجهال وتضليل للأغرار ، وثغرة ينفذ منها مرضى القلوب وأصحاب الأغراض للتشكيك في ذات المنهج وأصله ، وكذلك فإنها فرصة أتيحت مجاناً للأعداء لتشويه صورة المنهج الجميلة

 

وفي المقابل فإن التهوين من شأن الأفكار لهو ضرب من العبث ونوع من التهاون ولو بدا لصاحبه بادي الرأي أن الأمر هين بسيط إذ سرعان ما يتجرع مرارة تهاونه ولا يلبث أن يتهاوى بنيانه وكلا الصورتين خطر جسيم وانحراف عن الجادة وتوغل في الخطأ لا يمكن بحال أن يقر عليها صاحب ولا أن يُسكت عليه اعتباراً وانطلاقاً من المفهوم الصحيح لهذا الدين

 

وهنا يحسن بنا أن نوجه الأنظار إلى صنيع علماء السلف رضي الله عنهم أجمعين في إدراجهم لجملة الأخلاق المرعية وذكرهم لأهم مسائل السلوك ضمن مصنفاتهم في موضوع العقيدة والإيمان وعلى سبيل المثال ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في آخر الواسطية حيث قال مبينا صفات أهل السنة والجماعة [ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة ويرون إقامة الحج والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا ، ويحافظون على الجماعات ، ويدينون بالنصيحة للأمة ، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه) وقوله صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء

 

ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ، يأمرون ببر الوالدين ، وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك ، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق .. ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها ، وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة] أ.هـ

 

وينظر كذلك ما ذكره الشيخ أبو إسماعيل الصابوني – رحمه الله – في رسالته اعتقاد السلف أصحاب الحديث ولم ننقله خشية الإطالة وغير ذلك مما دونه علماؤنا الكرام في هذا الباب ، فإذا علمنا هذا دل ذلك دلالة قاطعة على أن التفرقة بين العقيدة والسلوك وبين التوحيد والأخلاق إنما هي تفرقة جائرة ناشزة حدثت على أيدي بعض المتخلفين عن منهج السلف السوي المستقيم

 

أهل المنهج هم أهل الأخلاق

 

إن أصحاب الدعوة وأهلها المتصدرين لها هم أصحاب الأخلاق الفاضلة والسجايا الرائقة والشمائل الزكية وهم الداعون إلى ذلك بقولهم وفعالهم ولنعتبر بحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (وإنك لعلى خلق عظيم) .

 

(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين

 

(وابعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) “البقرة

 

“فكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لهداية الناس من الشرك إلى التوحيد ودعوتهم إلى الجنة ورضا الله وتحذيرهم من النار وسخط الله وبيان الحق لهم ونفي الشبه والشكوك ونشر الطمأنينة في النفوس وتزكيتها” . راجع تفسير ابن كثير 2/381 ، 2/904

 

والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذا الأمر بأنصع بيان وأجلى عبارة فيقول عليه السلام :”إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق” رواه البخاري عن أبي هريرة ، وفي لفظ “مكارم الأخلاق” . رواه أحمد ومالك بلاغاً والبزار قال في المجمع: رجاله رجال الصحيح وقال ابن عبد البر: وهو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره

 

وإذا ذهبنا نتتبع ما ورد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الخلق الحسن ومزية صاحبه وعلو منزلته والتحذير من الخلق السيئ والتنفير من سوء حال صاحبه لطال بنا المقام ، ولعله من المناسب أن تذكر طرفاً من الوصايا النبوية والتوجيهات الرسالية على أن طلب المزيد ليس بالأمر العسير وليس مرادنا التقصي والإحاطة ومن السهل اليسير الوقوف عليه في مظانه ، فمن ذلك

 

عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن” .رواه الترمذي وقال حديث حسن

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :”أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً” رواه أحمد وأبو داود والحاكم وابن حبان

 

“قالوا يا رسول الله ما أفضل ما أعطي المرء المسلم ؟ قال : الخلق الحسن ” . رواه أحمد وأبو داود من حديث أسامة بن شريك

 

“إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم القائم ” .رواه أحمد وأبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم

 

“ما من شيء يوضع في ميزان العبد أثقل من حسن الخلق ، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة” . رواه الترمذي من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم

 

“ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال : أحسنكم خلقاً” .رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم

 

“أكثر ما يدخل الحنة تقوى الله وحسن الخلق” . رواه أحمد وابن ماجة والترمذي من حديث أبي هريرة

 

“إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره” . رواه البخاري و مسلم في الصحيحين كتاب الأدب و مالك في الموطأ كتاب حسن الخلق

 

كان من صحيح دعائه صلى الله عليه وسلم “اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشرك ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت” . رواه مسلم

 

“اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء” . رواه الترمذي والطبراني في الكبير والحاكم عن عم زياد بن علاقة مرفوعا

 

“اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي وحرم وجهي على النار” . رواه أحمد عن ابن مسعود مرفوعا

 

“اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم والقسوة والغفلة والعيلة والذلة والمسكنة وأعوذ بك من الفقر والكفر والفسوق والشقاق والنفاق والسمعة والرياء وأعوذ بك من الصمم والبكم والجنون والجذام والبرص وسيئ الأسقام” . أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدعاء عن أنس مرفوعاً

 

الأخلاق وأثرها في العمل الإسلامي

 

يستطيع أصحاب الدعوات والمناهج أن يتلمسوا مدى استقامتهم عليها ، وأن يتعرضوا على مسافة القرب من أهدافهم بمدى شيوع الأخلاق الفاضلة بينهم وإلى أي حد تهب نسائمها على رباهم فعلى قدر مكانة القاعدة الأخلاقية تكون متانة البناء وقرب وصوله إلى التمام إن لم يكن ثَمَّ عامل هدم من جانب آخر

 

ويمكننا أن ندرك بعض الآثار التي تترتب على التزام الخلق الحسن في أوساط العمل الإسلامي وخصوصاً المجاهدين في سبيل الله عز وجل من خلال تلخيصها في النقاط التالية

 

أولاً

 

إن حسن الخلق هو البرهان على صدق صاحب الدعوة في نظر جمهور الناس ، والعكس كذلك فسوء خلق صاحب الدعوة يجعل الناس يقولون لو كان على حق لما فعل كيت وكيت من أفعال وسلوكيات تتنافى مع الخلق القويم والسلوك المستقيم .

 

وقصة هرقل ملك الروم مع أبي سفيان وحديثهما عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل هرقل أبا سفيان عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه بأنه يأمر بالبر والصلة وأنه مشهور بالصدق وهذه القصة معلومة ومشهورة وهي بتمامها في صحيح البخاري

 

قال ابن كثير رحمه الله بعد أن أشار إلى هذه القصة [استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به) ابن كثير 2/233

 

ثانياً

 

حسن الخلق هو القدوة الحسنة التي تدفع الناس لقبول الحق

 

يقول تعالى حاكياً عن نبيه الكريم شعيب عليه السلام [وما أريد أن أخالفكم لما أنهاكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلى الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب] هود

 

فعلينا أصحاب الدعوة وحملة منهج الحق أن نتبع العمل العلم ونردف الفعل القول ، ولا يصح بحال أن ندعو الناس إلى مناهجنا بأقوالنا ونصدهم عنها بأفعالنا ، فإن هذا من الظلم والحيف الذي لا يليق بمؤمن حيث يجعل سوء خلقه وعدم قيامه مقام القدوة الحسنة سبباً في نفرة الناس عن الحق

 

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد مرفوعاً “إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم عنه” . قال ابن كثير اسناده صحيح

 

ثم قال “ومعناه والله أعلم مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم عنه” تفسير ابن كثير 2/600

 

ثالثاً

 

التحلي بصالح الأخلاق وجميل السجايا مظنة التوفيق والسداد وسبب الهداية والتوفيق من الله تعالى ، فإن الخلق الحسن من خصال التقوى وهذا يترتب عليه ما هو معلوم من تنزل النصر وتيسير الأمور ودفع كيد الأعداء وتخفيف البلاء ودفعه وجلب الرزق وتكثير البركة مما يؤيده الشرع والواقع

 

[ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً] .الطلاق

 

[فاصبر إن العاقبة للمتقين] . هود

 

[وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً] . آل عمران

 

[ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً] . النساء

 

ولقد كان الناس في الجاهلية يربطون بين حسن خلق المرء وبين قربه من الخير وأن ذلك أدعى إلى تأييده ومظنة تسديده من الله تعالى

 

فهذه السيدة خديجة – رضي الله عنها – لما جاءها النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً من غار حراء حين نزل عليه الوحي أول مرة وهو يقول : “زملوني زملون فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة :لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضعيف وتعين على نوائب الحق” وفي رواية “وتصدق الحديث” رواه البخاري

 

وبنفس المعيار وعلى ذات الطريقة من الاستدلال استدل ابن الدَّغِنَة لما لقي أبا بكر خارجاً مهاجراً إلى الحبشة بعدما ضاقت عليه مكة فقال له : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي . قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج ، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار ارجع واعبد ربك ببلدك فرجع

 

رابعاً

 

الخلق الحسن ثمرته صلاح ذات البين في أوساط الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل وهذا فيه ما فيه من الخير والفلاح وقوة شوكة المجاهدين وتماسك صفهم ولم شعثهم

 

وهذا أمر يحبه الله ويثيب عليه في الدنيا والآخرة [إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص] . الصف

 

وحذر الله من خلافه [ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم] . الأنفال

 

فإن حدوث النزاع وطروء الخلاف وسوء الخلق أمر طبيعي قد يعتري الدعاة والمجاهدين لكن لا ينبغي أن يكون إلا استثناءً سرعان ما يزول ويتلاشى غباره ولقد وقع من هذا شيء بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم

 

روى الإمام أحمد بسنده عن أبي أمامة قال : سألت عبادة عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فأنتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء يقول على سواء

 

وفي ذلك نزل قول الله تعالى : [يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين] . الأنفال

 

وفي الحديث المشهور “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة” . رواه أحمد وأبو داود والترمذي صحيح الجامع 2595

 

خامساً

 

إن الخلق الحسن أدعى إلى الدوام في طريق الدعوة والجهاد والثبات عليه وتفسير ذلك واضح فإنك تتعامل مع بشر يخطئون ويصيبون فيهم الخير والفضل والصلاح والبر والإحسان ، وفيهم كذلك الأخطاء والزلات والعثرات والهنات ، فمن وطن نفسه على الأخلاق الحسنة من الصبر والصفح وكف الأذى وتحمله وكظم الغيظ وإسداء المعروف وعدم التطلع إليه واجتنب الأخلاق السيئة من الغيبة والنميمة والهمز واللمز والسب والطعن والتجسس والمقاطعة والمدابرة وغير ذلك ذُلِّل له الطريق وسُهِّل عليه الاستمرار ويُسِّر له الدوام على هذا الخير فلعل المرء بذلك يدخل في غمار قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلَّ” .متفق عليه من حديث عائشة

 

ويجنب نفسه وعمله ما ورد في الحديث الآخر “وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل” رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير صحيح الجامع 179

 

وختاما نقول

 

إن التحلي بالأخلاق الحسنة والتزين بالشمائل الكريمة أمر لازم لأهل العقيدة الصحيحة والفكر السوي بل إنه من صميم معنى [الإيمان قول وعمل] ، ولا تقوم للدين قائمة بأحدهما إذا جردت عن الأخرى ، وإن سلامة المعتقد واستقامة الفكر لن تؤتى ثمارها إلا بالتزام القاعدة الأخلاقية وتثبيت العمل بها

 

ولنعتبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم [إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم] رواه أحمد ومسلم والترمذي ولمسلم وحده زيادة [في جزيرة العرب

 

نسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يسدد أقوالنا وأفعالنا إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير والله الهادي إلى سواء السبيل

About المحرر

Check Also

عندما سُئِل أهل مدينة القصير في سوريا؟؟

عندما سُئِل أهل مدينة القصير في سوريا؟؟ أنس الدغيم   السؤال والإجابة كيف استطاع جنود …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *