من الصعب القول إن المناخ العام يمنح الثقافة الإسلامية والتعبير عنها حرية الحركة الطبيعية والتواصل التلقائي والحوار مع الآخرين، فهي ثقافة متهمة حتى تثبت العكس. كل انتماء إسلامي متهم، بدليل ومن غير دليل، أنه ضد الحياة والأحياء! هكذا يقول الاستئصاليون ومثقفو الحكومات ووسائل دعايتها. ليست أمام المثقفين المسلمين مندوحة من القبول بالعمل في إطار هامشي يتجنب جوهر الأمور، وأساسياتها وقضاياها المؤثرة في معظم الأحيان، وهو ما انعكس على حركتهم ونشاطهم الفكري والعلمي في المجال العام وداخل أروقة الجامعات والمراكز البحثية، بل إن الحركات الإسلامية تأثرت بذلك حين نحّت جانبا أو أهملت أهم العناصر الثقافية وفي مقدمتها الآداب والفنون، واكتفت بالجانب الخطابيّ المباشر.
بعض السلفيين لا يؤمنون بشيء اسمه الأدب أو الفن. أحدهم حين تولي صحيفة تصدرها جماعته أصدر أول قراراته بحذف صفحة الثقافة وصفحة الأدب لأنه لا يؤمن بهما ويرى فيهما نقيضا للإسلام (؟!) مع أن المعادين للإسلام وخصومه يستغلون الآداب والفنون بعامة لنشر أفكارهم وتصوراتهم وتوصيلها إلى جمهور عريض بطريقة ناعمة. هم يعلمون جيدا أن الكلمة الفنية غير المباشرة لها تأثير يفوق ما يبذلونه على مستويات أخرى مباشرة!
سلوك بعض الإسلاميين في القطيعة مع الفنون والآداب، يمنح الاستئصاليين المعادين للإسلام، المهيمنين على الحياة الثقافية، فرصة الزعم أن الإسلام يحارب الأدب والثقافة، وأنه لا يوجد أدباء مسلمون ولا مثقفون إسلاميون أو غير معادين للإسلام، وفي سبيل دعم هذا الزعم يحرصون على حذف الأدباء أو المثقفين المتعاطفين مع التصور الإسلامي من قائمة الأخبار والدراسات والأبحاث الأدبية والعلمية، فلا تبرز مثلا أسماء مصطفي صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات ومحمود محمد شاكر ومحمود تيمور ومحمد محمد حسين وعبد الحميد جودة السحار ومحمد عبد الحليم عبدالله ومحمد سعيد العريان وأحمد محرم ومحمود حسن إسماعيل وعلى أحمد باكثير وسيد قطب وأنور الجندي، ونجيب الكيلاني وعبده بدوي ومحمد رجب البيومي…. وأمثالهم.
إن الفريق الاستئصالي المهيمن على الحياة الثقافية، ينظر إلى هؤلاء وأمثالهم بازدراء، ويراهم ظلاميين ورجعيين ومتخلفين، ولا يمثلون تطورا ولا تجديدا (أو حداثة بمفهومهم)، ويتجاهل أن هؤلاء وأمثالهم أقرب إلى روح الأمة، وأكثر قراءة وانتشارا بين القراء، في الوقت الذي لا يبقى له بحكم عدائه للدين والأخلاق قاعدة ذات حضور سواء من ناحية القراءة أو التأثير.
إن الكلمة الفنية محايدة، والذكي الماهر هو الذي يغذيها بتصوراته وأفكاره، وما أروع تصورات الإسلام وقيمه ومثله لو وجدت الكاتب أو الفنان الذي يمنحها الحياة المؤثرة. هل قرأتم ما كتبه محمد إقبال وشاهدتم مسلسل أرطغرل على سبيل المثال؟
لقد أشاع الفريق الاستئصالي المهيمن مناخ التربّص والوشاية تجاه الثقافة الإسلامية في كثير من وسائط التعبير ومراكز البحث ودور النشر. رأينا مثلا في بعض البلاد العربية من يتهم أساتذة الجامعات بالإرهاب لأنهم تعرضوا لدراسة بعض الحركات الإسلامية أو المفكرين الإسلاميين، وسمعنا من يوقف رسائل علمية، أو يرفضها بعد مناقشتها والتوصية بمنحها، لأنها تعرضت لقضايا أو أشخاص لا تريد السلطة أن يتطرق إليها أحد، مما أكد ما يسمى “رهاب الإسلام” أو فوبيا الإسلام، في داخل الأمة الإسلامية، وليس خارجها! كان المأمول أن يكون العالم الإسلامي أكثر ترحيبا وحفاوة بالثقافة الإسلامية بوصفها تعبيرا عن هويته وقيمه، ولكنه للأسف تحول إلى طارد للثقافة الإسلامية، ومعاد لها في بعض الأماكن بسبب هيمنة الاستئصاليين على الحياة الثقافية..
يجب أن نعترف أن هؤلاء الاستئصاليين، في المجال الثقافي والمعرفي، أكثر تنظيما وأفضل دعاية وترويجا من الإسلاميين، فقد استطاعوا عن طريق نشاطهم الذي لا يفتر، وإيمانهم بقضيتهم الباطلة، وعدم التورّع عن استخدام منهج “الغاية تبرر الوسيلة” أن يتسلقوا ويصعدوا ويتحكموا، فقد كسبوا ثقة الأنظمة المعادية للإسلام أو التي لا يعنيها أمره. لقد هيمنوا على مقدرات الثقافة، ولم يضيعوا وقتا في تمكين أتباعهم وأنصارهم من كل أمورها ومفاصلها، مع أن الشعوب المسلمة هي التي تنفق عليها، من عرق جبينها وعصارة كدحها وجهدها. والمفارقة أنهم لا يجدون غضاضة في الحديث عن ديمقراطية الثقافة! كيف تستقيم الديمقراطية مع الاستئصال؟
تراهم مقدمين في كل المجالات: الشعر والقصة والرواية والمسرح والبحث الأدبي والدرس النقدي، وظاهرين في مواضع السيطرة على وسائط التعبير والنشر والصحافة والطباعة والسينما والندوات والمحاضرات والجوائز والمهرجانات والمؤتمرات التي يرعاها الأمن (في عام 1968 انعقد بمدينة الزقازيق أول مؤتمر لأدباء الأقاليم تحت رعاية وزير الداخلية حينئذ، وكان المشاركون في أكثريتهم الساحقة من الماركسيين وأشباههم الذين يزعمون دائما أنهم ضد السلطة، وأنهم ينحازون إلى الشعب والفقراء ملح الأرض!).
قارن ذلك بفترة قصيرة تمكن فيها الإسلاميون بعد ثورة يناير من الوصول إلى سدة الحكم والتشريع، حيث تركوا الأمور الثقافية وغيرها لهؤلاء الاستئصاليين عملا بالتسامح والطيبة الزائدة عن الحد. وكانت القيادات التي عينت في الصحافة والإعلام والثقافة مرتعشة الأيدي وهي توافق على نشر مقال أو كتاب أو عقد مؤتمر خوفا من هؤلاء الاستئصاليين، لدرجة أن من حضروا لقاء الرئيس مرسي رحمه الله مع المثقفين، لم يكن بينهم مثقف إسلامي واحد، فالذين جهزوا للقاء وأعدوا الأسماء لم يكن بينهم وبين الإسلام (عمار!)، كانوا للأسف من الاستئصاليين!، والمفارقة أن بعض من شاركوا في اللقاء من الشيوعيين والمرتزقة خرجوا بعده ينتقدونه ويزعمون بطولة لم تحدث حول مواجهة الرئيس الطيب المتسامح! ناهيك أن وزيرا للثقافة عينه الإسلاميون لم يستطع أن يصل إلى مكتبه الرسمي، وراح يمارس عمله المحاصر من جانب الاستئصاليين في مكان آخر!!
إن عملية الفرز الفكري التي اخترعها الاستئصاليون حرمت الأكثرية الإسلامية من حق المشاركة عبر الوسائط المملوكة للشعب المسلم، بل امتد الأمر إلى الوسائط التجارية ودور النشر الخاصة، حيث وضع هؤلاء الاستئصاليون أقدامهم في هيئات التحرير أو الفحص أو القراءة لإجازة الأعمال المسموح بنشرها أو المرفوضة.
لم يتبق في الساحة الثقافية من وسائط غير ما يسمى الصحف أو المجلات الخاصة ودور النشر الإسلامية، وهذه للأسف تواجه بعض المصاعب والمواقف السلبية التي تعود إلى أصحابها أكثر مما تعود إلى غيرهم. وسوف أذكر طرفاً من هذه المواقف والمصاعب، مع استثناء نفر قليل يفهم المعنى الرسالي لإذاعة الفكرة الإسلامية، ويملك المنهج الخلقي في التعامل مع أطرافها.
فالمفترض أن من يحمل صفة (إسلامي) يحمل رسالة، وله غاية وهدف، وكلها تتمثل في نشر الثقافة الإسلامية ومحتواها الإنساني، وزيادة الوعي بها من خلال فهم الماضي والحاضر على ضوء الإسلام، وجذب الأنصار والأتباع، ولكن الواقع شيء آخر..
أولا- كل عمل تجاري يتغيّا الربح والكسب، وهذا أمر طبعي، فالعمل عادة يكون من أجل مقابل يتعيش به صاحبه، مالم يكن صاحبه موسرا وينفق في سبيل الله. والأمر بالنسبة لبعض الناشرين والعاملين تحت اللافتة الإسلامية يُفترض أنه ربح ورسالة، جانبٌ للدنيا وآخر للآخرة، ولكن أكثرهم جعلوه خالصا للتجارة والكسب والغبن والهضم، بنوعيّة ما ينشرون أو بأكل حقوق المؤلفين والعاملين، أو مخالفة العقود والالتزامات، وفي الوقت نفسه يتخلقون بأخلاق لا تليق بمسلم فضلا عن ناشر رسالي، مثل: الكذب، وعدم الوفاء بالوعد، والتدليس، والنفاق، والنرجسية، والاستهانة بأقدار المؤلفين والكتاب.. وفي جعبتي الكثير، مما لا أصرّح به ولكن أشير إليه ليعلم الناس أن هزائم الإسلاميين تأتي من داخلهم في أحيان كثيرة. لقد أحصى بعضهم الجماعات الإسلامية فوجد عددها في مصر مثلا يصل إلى 72جماعة! مع أن النبي- صلى الله عليه وسلم- حين هاجر إلى المدينة وحّد المهاجرين والأنصار والسادة والعبيد في بوتقة واحدة ليعملوا معا.
ثانيا- افتقاد العمل الإسلامي للتنظيم الذي يحرك تجارة النشر نحو الأفضل. في دور النشر الأجنبية التي لا تدين بالإسلام، يتعاملون وفقا لخطط مستقبلية، ولغة محددة، وفلسفة واضحة. يعرفون جيدا ماذا ينشرون، ومتى، وكيف؟ إذا تقدم كاتب إليهم بكتاب أو طلبوا من آخر كتابا، فإنهم في وقت قصير محدد؛ يتخذون القرار بنشره أو طلب تعديله أو رفضه في وضوح، وإلى جانب ذلك يوقّعون عقد النشر موضحا فيه حقوق الكاتب: المستحقات التي تسدد قبل البدء في الطبع، ومواعيد تسديد الدفعات الأخرى، والنسخ المهداة للمؤلف، والأخرى المخصصة للدعاية والإعلام. على الجانب الإسلامي تمضي الأمور عشوائيا. لا يعرف المؤلف رأسه من رجليه، يسمع لغة غامضة، إذا حرروا عقدا فهو إجبار من الناشر وإذعان من المؤلف، يمنحهم حق القوامة عليه! لا يحصل المسكين على عائد في معظم الأحوال أمام الشكوى الكاذبة الدائمة من عدم التوزيع، و”وقف الحال”، في الوقت الذي ينتقل فيه الناشرون الشاكون (الإسلاميون) من القاع إلى القمة المادية، فيركبون سيارات فاخرة يجددونها كل عام بنوع (أفخر)، ومن السكن الشعبي إلى السكن البرجوازي، أو يقيمون عمائر فارهة! لقد وصل الأمر ببعضهم إلى حرمان المؤلف من نسخ الهدايا القليلة، ويتم ذلك في ظل كلمات وأدعية وعبارات إسلامية محفوظة لا تتسق مع السلوك والفكر على أرض الواقع. لقد تناسوا منهج الإسلام الواضح “الدين المعاملة”، بينما يتذكره الأجانب غير المسلمين!
ثالثا- افتقاد روح العمل الجماعي، ولعل أبسط مثال على ذلك عملية “التوزيع”، فالناشرون يعتمدون الآن على المعارض المحلية والخارجية بالدرجة الأولى، ومن خلالها يحققون أرباحهم، في حين أن غاية الناشر (الإسلامي) تحقيق الربح وخدمة الرسالة على المستوى المحلي أساسا، ولكنه يظل قابعا بكتبه داخل مخازنه، أو مكتبة معزولة عن الجمهور القارئ العريض في الأقاليم والمدن الرئيسية. لا يفكرون في تأسيس شركة توزيع تجوب البلاد بسياراتها، وتوزع على المكنيات ونقاط بيع الصحف، أو يستغلون السكة الحديد وتكاليفها أرخص ماديا في عمليات التوزيع. كانت هناك بعض المحاولات المحدودة، ولكنها لم تحقق المراد في عملية التوزيع. صحيح توجد شركات تابعة للمؤسسات الصحفية الكبرى، ولكنها تتقاضى مقابلا باهظا، فضلا عن أن بعضها يهمل توزيع الكتب التي لا تصدر عن المؤسسة التابعة لها.
رابعا- هناك مؤسسات ثقافية إسلامية في بعض البلاد العربية تسهم في عملية النشر، وتنمية الثقافة الإسلامية في جانب الآداب والفنون، ولكنها للأسف تعتمد على وجود أفراد بأعيانهم، فإذا تعرضوا لعائق ما، فإن المؤسسة تتوقف عن العمل أو تكاد، وهو ما يعني أن تربية العناصر النشطة في هذا المجال ضرورة لتنهض بدورها عندما يطلب منها، وأظن ذلك يتطلب روحا تطوعية تؤمن بالبذل والعطاء احتسابا لله.
وأخيراً:
لعل بعض الناس يغضب من كلماتي، وأنا أقدر ذلك، وهو ما جعلني أستثني من الصورة العامة بعض المخلصين، ولكن علينا أن ننقي الصفحة الإسلامية من البقع الملوثة، والقصور المرفوض، واللغة الغامضة التي لا تتسق مع منهج الإسلام. وقبل ذلك وبعده نواجه الاستئصال الشرس الذي لا يرقب في المسلمين إلاّ ولا ذمة، والله من وراء القصد.