هذه القوانين كادت تصبغ النفوس كلها بصبغة غير إسلامية، وقد دخلت قواعدها على النفوس فأُشربتها، حتى كادت تفتنها عن دينها، وصارت القواعد الإسلامية في كثير من الأمور منكرة مستنكرة، وحتى صار الداعي إلى وضع التشريع على الأساس الإسلامي يجبن ويضعف، أو يخجل فينكمش، مما يلاقي من هزء وسخرية!! ذلك أنه يدعوهم -في نظرهم- إلى الرجوع القهقري ثلاثة عشر قرناً، إلى تشريع يزعمون أنه وضع لأمة بادية جاهلة!!
لا تظنوا -أيها السادة- أني أذهب فيما أصف مذهب الغلو أو الإسراف في القول، فإني جعلت هذه الدعوة هجيراي وديدني، وجادلت وحاججت، ورأيت وسمعت. ولو شئت أن أسمي لسميت لكم أسماء ممن نجل ونحترم، ونعرف لهم فضلا وذكاء وعلماً.
ألا تعجبون إن ذكرتكم بأن مصر كلها فرحت حين أمكن مندوبيها في مؤتمر من مؤتمرات أوربة، منذ بضع سنين، أن يقنعوا المؤتمرين ليصدروا قراراً بأن (الشريعة الإسلامية تصلح أن تكون مصدراً من مصادر القوانين) وظنت أنها أوتيت فتحاً مبيناً! نعم هو فتح مبين هناك، ولكنه في بلادنا ضعف وهوان، لأن شريعتنا يجب أن تكون وحدها هي مصدر القوانين في البلاد الإسلامية.
إني أرى أن هذه القوانين الأجنبية إليها يرجع أكثر ما نشكو من علل، في أخلاقنا، في معاملتنا، في ديننا، في ثقافتنا، في رجولتنا، إلى غير ذلك. وسأقص عليكم بعض المثل من آثارها مما أرى:
كان لها أثر بيّن بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين، أو جعلتهم معسكرين: فالذين علموا تعليما مدنياً، وربوا تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها ولما وضعت من نظم ومبادئ وقواعد، ويرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم. وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصاً محكما قطعيا في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة. ويزدري الفريق الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسما اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسموهم (رجال الدين) وليس في الإسلام شيء يسمى (رجال الدين) بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا. ثم عزلوهم عن كل أعمال الحياة وأعمال الدولة، واحتكروا لأنفسهم مناصبها، زعماً منهم أن (رجال الدين) لا يصلحون لشيء من أعمال الدنيا، أيا كان مبلغهم من العلم والثقافة والمعرفة، وحصروا الألوف من العلماء المثقفين فيما سموه المناصب الدينية، حتى لا متنفس لهم، فإن ضجوا أو تذمروا حجوهم بأنهم رجال الدين، زعموهم رهباناً، ولا رهبانية في الإسلام.
وابتدعوا شيئاً لم يستطيعوا إلى الآن أن يحدوه حداً علمياً صحيحاً، فسموه (الأحوال الشخصية) وقصروا عليها القضاء الإسلامي، وسموه القضاء الشرعي. ثم وضعوه في الدولة غير موضعه، وذهبوا ينتقصون من أطرافه، ويحدون من سلطانه، وظنوا أن لفظة (الشرع) قاصرة على الأمور الداخلة في اختصاص المحاكم الشرعية، وأن ما عداها خارج عن الشرع، ثم ذهب بهم الوهم إلى أن هذه الكلمة تطلق على هذا النوع المعين من الاختصاص، سواء أكان للشريعة الإسلامية أم لغيرها!
حتى لقد رأيت في بعض التعبير الرسمي كلمة “شرعاً” في أمور خاصة بالمجالس المِلّيّة، مع أن البديهي الذي لا ينبغي لمسلم أن يجهله: أن “الشرع” في ألفاظ المسلمين وعرف بلاد الإسلام لا يكون إلا الشرع الإسلامي. وما ضربت هذا المثل إلا لأريكم أثر التشبع بهذه القوانين في النفوس والعقول.
أيها السادة!
إن القوانين إذا حكمت بها أمة السنين الطوال تغلغلت في القلوب، ونكتت فيها آثاراً سوداء أو بيضاء، وصبغت بها الروح، ومرنت عليها النفس.
وهذه القوانين الأجنبية أثرت أسوأ الأثر في نفوس الأمة، وصبغتها صبغة إلحادية مادية بحتة، كالتي ترتكس فيها أوربة، ونزعت من القلوب خشية الله والخوف منه.
وكان التشريع الإسلامي يدخل القلوب ويرققها ويطهرها من الدنايا. فكان المسلم إذا حكم الحاكم أو قضى القاضي، علم أن دينه يأمره في دخيلة نفسه أن يسمع ويطيع، وأنه مسؤول عن ذلك بين يدي الله يوم القيامة، قبل أن يكون مسؤولا عند الناس. وعلم أنه إن عصى ما قضى به قاضيه، كان عاصيا لربه، حتى لو أيقن أن القاضي مخطئ في قضائه، وكان المقضي له مأموراً من قبل دينه أن لا يأخذ ما قضي له به إن كان يعلم أنه غير حقه، كما قال رسول الله ﷺ :
“إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار”.
هذه تربية الشريعة للأمة فانظروا تربية القوانين المادية الأجنبية، لم يحترمها المسلمون في عقيدتهم ودينهم، وإنما رهبوها وخافوا آثارها الظاهرة، ولم يعتقدوا وجوب طاعتها في أنفسهم، فكان ما نرى من اللدد في الخصومة، والإسراف في التقاضي، واتباع المطامع، والتغالي في إطالة الإجراءات، والتفصي بالحيل القضائية عن تنفيذ الأحكام، وعم هذا كله دور القضاء، شرعية وغيرها.
ذلك أن الناس مردت نفوسهم على الباطل، وفقدوا قلوبهم، فاتبعوا شهواتهم وأسلسوا لشيطان المادة مقادهم. وكان ما نرى من إباحية سافرة فاجرة، عصفت بالأخلاق السامية، والتقاليد النبيلة، حتى كادت توردنا موارد الهلكة.
أيها السادة!
كان من أثر مبادئ التشريع الحديث أن تعجز الأمة عن تربية ناشئتها على قواعد الإسلام، وأن تحاول جعل تعليم الدين إجباريا في مدارسها فلا تصل إليه، وأن توجد في البلد مدارس تربي أبناء المسلمين وتعلمهم غير دينهم، وغير لغتهم، فتسلخهم من الأمة، ثم يكونون حرباً عليها في عقائدها وآدابها. وأن يكون ذلك عن رضى المستضعفين من آبائهم؛ وأن يأبى مديرو هذه المدارس أن يسمعوا لأمر وزارة المعارف، إذ أمرتهم بتعليم الإسلام لأبناء المسلمين، بما يشعرون في أنفسهم من كبر وغرور، وبما يتوهمون فينا من ضعف ولين، وبما يظنون من حمايتهم بمبادئ التشريع الحديث.
إن فرنسة، هي حامية النصرانية في الشرق، وداعية الإلحاد في الغرب، والتي قامت ثورتها الكبرى على عداء الدين، حين رأى رجلها العظيم، المارشال بيتان، عواقب ما جنى الانحلال على أمته، لم يتردد في جعل تعليم الدين إجبارياً في كل المدارس، ولم يفكر في مبادئ التشريع الحديث.
وكان من أثر التربية المدنية المادية، والغلو في تقليد أوربة وترسم خطاها، أن ظن ضعاف الإيمان أن التعليم الجامعي لا يكون صحيحاً إلا بمحاربة الدين، أو بالانسلاخ من الدين.
فذهب الذين تولوا كبره منهم يذيعون هذا النغم، ويضربون على هذا الوتر، يستهوون العقول الناشئة، ويستميلون القلوب الغضة. يريدون أن يخدعوا الشباب، والشباب سياج الأمة والدين.