وحيد الدين خان.. ذكاء الداعية وجدل السياسي!
بقلم أ.د. حلمي محمد القاعود
بعد ستة وتسعين عاماً حافلة بالعمل والدعوة والجدل والفكر؛ غادر دنيانا وحيد الدين خان، الكاتب والمفكر والداعية الهندي المعروف، في التاسع من رمضان 1442هـ، الموافق للحادي والعشرين من أبريل 2021م.
في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ظهرت الترجمة العربية لأول كتاب له بمعرفة ابنه ظفر الإسلام خان، وتقديم أ.د. عبدالصبور شاهين، رحمه الله، عن «دار المختار الإسلامي» بالقاهرة، وحظي الكتاب بإقبال كبير من القراء الذين طالعوا من خلاله عرضاً علمياً مبسطاً لقضية التوحيد في الإسلام، والرد على الملاحدة والمنكرين لوجود الله تعالى، وطُبع الكتاب عدة طبعات داخل مصر ولبنان، وما زال يطبع حتى الآن؛ فقد وجد فيه الشباب المسلم نمطاً جديداً من التعريف بالإسلام، وعرضاً لأصوله وقواعده بطريقة سهلة ومختلفة تدل على أن صاحبها يملك الوعي القوي الدقيق بحقائق الإسلام وأصوله وتراثه، وفي الوقت ذاته لديه وعي عميق بثقافة الغرب والشرق المعاصرة.. إنه قارئ من الطراز الأول يفهم ما يقرأ، ويعرف كيف يكتب، ثم إنه يملك السيطرة على عدة لغات يكتب بها ويفهم دلالتها وهو ما مكّنه أن يؤلف بالأردية والإنجليزية، فضلاً عن العربية التي يقرأ بها القرآن الكريم والحديث الشريف والتراث الإسلامي.
إدمان القراءة
قال عنه العلامة محمد سليمان في كتابه «منهج الهداية» عام 1991م: «والميزة التي يمتاز بها وحيد الدين من بين أقرانه من مفكري العصر إدمانه القاتل على قراءة الكتب العلمية والفكرية باللغة الإنجليزية، ويمكن تقدير سعة اطلاعه وعمق دراسته من خلال مؤلفاته ذات المستوى العلمي الرفيع، التي تظهر عمق ثقافته الإسلامية وتمكنه من ثقافة العصر».
وأظن أن نجاح الداعية، أي داعية، يتطلب أن يكون ملمّاً بما يدعو إليه وأبعاده المختلفة، وما يمكن أن يوجه إليه من أسئلة واستفسارات واعتراضات، ولذا فالداعية الناجح لا بد أن يكون قارئاً بالدرجة الأولى، ولعل إخفاق كثير من الدعاة يعود إلى محدودية اطلاعهم وعدم متابعتهم للفكر الإسلامي وغير الإسلامي جميعاً، واكتفائهم بما حصلوه أيام الطلب والدراسة، بينما الدعوة هي القراءة والمطالعة والبحث والمقارنة، وهو ما يجعلنا ندرك سر نجاح وحيد الدين خان في القراءة والاطلاع، فعندما أراد مثلاً أن يكتب عن الماركسية ويكشف قصورها قرأ عنها في أهم مصادرها، وطالع أكثر من عشرة آلاف صفحة في صميم الموضوع قبل أن يسطر كتابه «الماركسية في الميزان»، والشيء نفسه فعله عندما تصدى للرد على أصحاب المدارس الفكرية الإلحادية وعلى رأسهم «برتراند رسل» الذي يعد دعامة الفكر الإلحادي في العصر الحديث، فقد قرأ كافة أعماله، ونقل عنه أنّه ربما قرأ مائة صفحة ليكتب صفحة واحدة فقط.
هذا الجهد الكبير في معرفة الموضوع والهيمنة على تفاصيله، هو سر نجاح الكاتب أو الداعية، ومن المؤسف أن كثيراً من دعاة عصرنا أو الوعاظ، فضلاً عن الأئمة، يفتقدون هذا المنهج فيخفقون في رسالتهم، ويكون تأثيرهم ضعيفاً.
إن القراءة هي وقود الدعوة في عصر يتسلح فيه خصوم الإسلام بكثير من الأفكار والآراء والتجارب التي تبهر المتلقي البسيط، وتربك الداعية المسلم غير القارئ أو غير المثقف.
ومن حسن حظ وحيد الدين خان أنه عاش في جو يتيح له أن يقرأ ويكتب، ويصنع نوافذ النشر بنفسه إن أغلقت النوافذ الرسمية أو غيرها في وجهه.
ومذ وُلد وحيد خان عام 1925م في مدينة «أعظم جره» بالهند، وتعلم في جامعة الإصلاح العربية الإسلامية، وتأثره بأبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي، في أول نشأته، ثم اختلافه مع المودودي في العديد من القضايا؛ فإنه خطا خطوة سديدة في دراسة اللغة الإنجليزية التي أتاحت له الاطلاع على الثقافة الغربية والكتابة بها.
وفي بداية حياته العملية، انضم إلى لجنة التأليف التابعة للجماعة الإسلامية بالهند حيث عمل لعدة سنوات، حتى انفصل عنها لأسباب فكرية، ثم التحق بندوة العلماء بلكناؤ وأمضى ثلاث سنوات ليكتب ويؤلف في المجمع الإسلامي العلمي التابع للندوة.
وقد شغل رئاسة تحرير مجلة «الجمعية» الأسبوعية في دلهي عام 1967م لمدة سبع سنوات حتى أغلقت من قبل السلطات الهندية، وفي أكتوبر 1976م أصدر لأول مرة -مستقلاً عن كافة الهيئات- مجلة «الرسالة»، التي ما زالت مستمرة في الصدور حتى الآن، وقد نالت حظاً كبيراً من النجاح والقبول.
مؤلفات مهمّة
استطاع وحيد الدين على امتداد عمره الطويل وبقراءاته المعمقة ومتابعاته الدؤوبة، إنجاز عدة مؤلفات مهمة، ترجم منها إلى العربية: «الإسلام يتحدى»، «الدين في مواجهة العلم»، «حكمة الدين»، «تجديد الدين»، «الإسلام والعصر الحديث»، «خطأ في التفسير»، «مأساة كربلاء.. الحسن والحسين»، «واقعنا ومستقبلنا في ضوء الإسلام»، «حقيقة الحج»، «قضية البعث الإسلامي»، «الإنسان القرآني»، «الإسلام»..
ومن كتبه التي ما زالت في لغتها الأولى التي كتبت بها: «محمد رسول الغلبة»، «ظهور الإسلام»، «الله أكبر»، بالإضافة إلى تفسيره القرآن الكريم «تذكير القرآن»، وغير ذلك من المؤلفات التي تربو على خمسين كتاباً، وآلاف المقالات المنشورة والمخطوطة.
وتحدث عن جهوده د. محمد عمارة فقال: «ولقد لفت وحيد الدين خان الأنظار إلى إسهام الإسلام في النهضة الأوروبية الحديثة، عندما أسقط الكهانة والثيوقراطية والحكم بالحق الإلهي، ففتح أمام أوروبا الحديثة أبواب الديمقراطية الليبرالية، وعندما قدم مبدأ تسخير الطبيعة للإنسان، بديلاً عن تقديس الطبيعة، ففتح أمام العقل الأوروبي أبواب العلم التجريبي، الذي كانت تحرِّمه وتجرِّمه الكهانة الكنسية لزعمها أن العالم دنس، لا يجوز التجريب فيه!».
ويراه د. عمارة منشئاً لعلم كلام جديد مختلف، فيقول: «لقد وهب حياته كلها للدعوة الإسلامية، وتخصص في إقامة الأدلة العلمية على الإيمان الديني، فبلور علم كلام جديداً مناسباً لعصر العلم، خالياً من جدل الفرق الإسلامية القديمة، ومتجرداً من محاكاة الفلسفة الإغريقية القديمة».
بيد أن خلافه مع المودودي شكَّل رؤية خاصة في أسلوب التعامل مع الأحداث السياسية ومواجهة الاستبداد القامع لحركة المسلمين وحريتهم واستقلالهم، ونظراً لأن الأغلبية الهندوسية تمارس تسلطاً عنصرياً وتعصباً طائفياً ضد المسلمين، فقد أقام دعوتهُ على مهاجمة العنف وجماعات العنف المسلح، والدعوة لتبني المنهج العلمي في الدعوة، ومحاولة تحقيق الأهداف الإسلامية من خلال العمل السلمي الإيجابي على المدى الطويل، ونحن معه في ذلك، فالدعوة لا تتحقق بالعنف المسلح لأنه يخالف المنهج الرباني؛ (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، ولكنه فيما يبدو يميل إلى الاستسلام للأمر الواقع وعدم المقاومة أو الرد على استفزاز الهندوس، ويعتقد أن ذلك أفضل وسيلة لحقن دماء المسلمين الذين يمثلون أقلية مستضعفة، وأن من الأوفق لهم أن يحاولوا استقطاب العناصر الهندوسية المعتدلة والتنازل والترويج للمسالمة ورفض المقاومة المسلحة، وهو ما تروج له بعض الجماعات في العالم العربي.
وانطلاقاً من هذه الرؤية، فقد شرع في «مسيرة سلام» مع قيادات الطوائف الهندية جابت خمساً وثلاثين منطقة هندية، عندما واجه المجتمع الإسلامي في الهند محنة هدم المسجد البابري؛ فقد وقف إلى جانب الهندوس المعتدين، ولام المسلمين الذين غضبوا من أجل المسجد المستباح، ورأى ضرورة أن يُقنع الناس بالحاجة إلى استعادة السلام والوئام والمساواة لتسير البلاد مرة أخرى على طريق التقدم بدلاً من الانقسام! كما دعا إلى لقاءات تجمع القادة الدينيين في البلاد لتأييد ذلك، وعمل على إعداد تلاميذ ليكونوا سفراء للسلام في العالم أجمع وليس في الهند وحدها!
وللأسف، فإن الحديث عن حقوق المسلمين، وإدانة العدوان الهندوسي، والتعصب الطائفي غائب تماماً عن رؤيته وقلما يشير إليه رافضاً، بل اتجهت إدانته للضحية، وهو ما عرّضه لكثير من الانتقادات، خاصة من الجماعة الإسلامية في الهند التي تمثل أكبر قوة تنظيمية هناك؛ حيث لم تؤثر مسيرته بعد هدم البابري قيد أنملة في سلوك الطائفة الهندوسية أو تغيير تفكيرها العنصري العدواني، بل تفاقمت عدوانيتها لدرجة أن رأينا حالياً رئيس وزراء منتخباً اسمه «ناريندار مودي» يتولى بنفسه التعبير عن العدوانية والعنصرية ضد المسلمين الهنود!
وعندما نقرأ كتابه عن «الحسن الحسين.. دراسة عن مأساة كربلاء» (ترجمة وتقديم: على عبد المنعم، د. ن، القاهرة، 1411هـ/ 1991م)، نستشعر أنه يريد إدانة الحسين لاستجابته لدعوة أهل العراق، في الوقت الذي يشيد فيه بأخيه الحسن، وتنازله عن الخلافة واعتزاله العمل السياسي، ويلوم المسلمين على عدم اهتمامهم بالحسن وتركيزهم على الحسين، في الوقت الذي لا يبدي فيه أي إشارة لاستهجان ما فعله ابن زياد، وذي الجوشن، وفريق القتل والغدر!
إن هاجس السياسة يؤرقه ويزعجه، ولهذا يرى أن الأحزاب والمذاهب والحركات الإسلامية تسببت في إهدار كثير من دماء المسلمين، وتخلفهم وتمكين الأعداء منهم، ويتجاهل دور الحركات الإسلامية في الدفاع عن بلاد المسلمين ومقاومة الغزاة، كما حدث في فلسطين والجزائر وشمال أفريقيا عموماً ودول الساحل وإندونيسيا والهند ذاتها وغيرها من الدول الإسلامية، حيث أقضت مضاجع الغزاة وأرغمت معظمهم على الرحيل.
القدس المحتلة
إنه يُطلق آراء غريبة إلى جانب مواقفه الشاذة في إدانة المسلمين، وخاصة أهل السُّنة، ومن أغرب مواقفه في قضية فلسطين أنه يرى اليهود أصحاب حق في القدس المحتلة، ويطالب المسلمين ألا يعارضوهم، كما وقف إلى جانب المرتد سلمان رشدي صاحب «الآيات الشيطانية» التي أساء فيها إلى الرسول صلى الله عليه سلم وهاجم العلماء المسلمين الهنود الذين استنكروا ما فعله رشدي.
وبالإضافة إلى ما سبق، فله آراء غريبة ينفرد بها تجاه بعض القضايا الفقهية والشرعية تتعلق بطبيعة يأجوج ومأجوج، والمهدي المنتظر، وإنكار عودة المسيح عليه السلام قبيل يوم القيامة، وآراء أخرى اجتهادية جعلته يقف وحيداً في الحركة الإسلامية بالهند، خاصة بعد أن أخذ -عقب هدم المسجد البابري 1992م- يتهم المسلمين في كل قضية سياسية واجتماعية، وكأن الدين عنده أصبح أمراً ذاتياً وشخصياً، وليس نظاماً عاماً، وطريقة عيش ترتبط بالحياة الفردية والاجتماعية؛ الأمر الذي جعله -كما يقول بعض المتابعين- قرة عين للحكومة الفاشية الهندوسية المتطرفة!
كانت السياسة هاجساً مزعجاً بالنسبة له، وهو ما جعله يبدى استسلاماً شاملاً للحكومات الاستبدادية والقوى الاستعمارية، لدرجة أنه في كتابه الرائع «حقيقة الحج» يقدم مقترحاً بتنظيم عالمي للدعوة يشترط فيه أن يكون بعيداً عن السياسة والحكومات!
ففي كتابه المذكور، يتوقف عند الركن الخامس وقفة عميقة متأنية، تأخذ مكانتها وتميزها بسبب تركيزها على جانب افتقده المسلمون في كثير من الدراسات حول الحج وهو الروح؛ فهي ليست دراسة ملمّة بالجوانب الفقهية بطريقة عميقة وشاملة، وليست تاريخاً موضوعياً شاملاً للحج من زمن نبي الله إبراهيم عليه السلام، حتى اليوم، فهناك متخصصون قادرون على الوفاء بمعالجة أشمل وأعمق، في شتى الجوانب الأخرى للحج.
إن جانب الروح أو الحقيقة هو الجانب الذي تنفرد به الدراسة، وهو المحور الذي تدور حوله، وما الجوانب الأخرى إلا وسائل لكشف هذه الروح، أو لعلها مجرد عناصر من هذه الروح.
يرى وحيد الدين خان أن الحج صانع التاريخ، ومؤسسة دعوية، ووسيلة للوحدة، ورحلة غير عادية قادرة على تجديد الإيمان، لذا فإنه يدعو إلى توظيف إسلامي للحج، في سبيل تحقيق الوحدة الدعوية والفكرية والشعورية للمسلمين، أو حسب تعبيره تنظيم جديد للحج، وتحويله إلى مركز للتخطيط العالمي للدعوة الإسلامية بحيث يعرض الناس من مختلف البلاد أحوال الدعوة في بلدانهم، فيطّلع الناس على تجارب المناطق الأخرى ويفيدون منها، ويدور الحوار حول الإمكانات الجديدة للدعوة، فالمعروف من دروس التاريخ أن قوة الإسلام كانت مرتبطة بقوة الدعوة.
والحج وبيت الله الحرام علامتان على خطة دعوية عظيمة، فإنما بنيت الكعبة في الصحراء لتكون رمزاً دائماً للهداية الإلهية؛ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96).
وفي عصرنا الحديث، يمكن للدعوة أن تستخدم مؤتمر الحج العالمي للتخطط للدعوة على المستوى العالمي أعظم من أي وقت مضى بعد أن فتحت الثورة العلمية إمكانات جديدة هائلة للدعوة شريطة تحويل مؤسسة الحج إلى مؤسسة عالمية للدعوة، وخلاصة هذا الشرط: «إبقاء فريضة الحج بعيدة عن السياسة بصورة كلية» (انظر: حقيقة الحج، ترجمة: ظفر الإسلام خان، دار الصحوة للنشر، القاهرة، 1408هـ/ 1987م، ص5-7).
هكذا يلاحقه الهاجس السياسي الذي جعل النظم المستبدة تحتفي به عقب رحيله وبدعوته السلبية التي هي أقرب للسلفية الميتة، وليس السلفية الحية التي تستلهم نهج القوة والعمل وخدمة الدين.