رثاه صديقه “شوقي بغدادي” بقصيدة بعنوان: السباق الطويل: إلى روح فاضل السباعي- وداعاً
(لماذا سبقت الرفاق وأنت الفضيلْ/ سآتي لبيتك أسأل عنك/ فإن فتحوا سأقول لهم إنه لم يمتْ/ إنه ساكنٌ في فؤادي وفي ذكرياتي/ فكيف استطاع الرحيلْ؟!
وكأن اتفاقاً عقدناه أن نلتقي/ ثم نمضي معاً في السباق الطويلْ/ لا تخف. لاحقٌ بك بعد قليل)…
في الستينيات من القرن الماضي، ربما قُبيل الهزيمة أو بعدها بقليل، تلقيت منه رسالة على عنواني الذي كنت أذيّل به بعض ما أكتبه في مجلة “الأديب” اللبنانية. كانت المجلة ساحة مفتوحة لأدباء الأمة ومن يكتبون بالعربية دون إقصاء أو تمييز، وكان صاحبها «ألبير أديب»- وهو محررها الوحيد- يستقبل المواد التي يبعث بها الكتاب، ويطالعها، ويدفع بالصالح منها للنشر. وكانت مكافأة الكاتب أو الكتّاب عبارة عن نسخة من المجلة يحملها البريد الذي كان في ذلك الحين يحترم كتب الأدباء ومجلاتهم ورسائلهم مع قبضة الرقابة الصارخة. كانت المجلة تتلقى دعما ماديا لتستمر في الصدور من بعض الأدباء الميسورين، سواء في صورة اشتراكات مضاعفة القيمة، أو أموال نقدية يعلن عنها المحرر على صفحات المجلة.
تبادلتُ مع صديقي الراحل الرسائل والتعارف. وتلقيت منه طردا ضخما يحمل رواياته ومجموعاته التي أصدرها حتى ذلك الحين. كتبت عن بعضها، وأرضاه ما كتبت، وصرنا نناقش عبر البريد ما يتعلق بكتاباته وبعض ما أنشره من مقالات وقصص. ولا حظت أنه كان حريصا على الأناقة في رسائله وكتاباته. الخط الدقيق المتميز. ترتيب السطور، كتابة المقدمة والخاتمة. صرت أعرف خطه دون أقرأ اسمه على مظاريف الرسائل والطرود..
لاحظتُ أن كتاباته الأدبية تحمل نبضا مصريا، وحين ذكرت له ذلك أخبرني أنَّ مصر في دمه فقد حصل على شهادته العالية من جامعة القاهرة، وأن بعض أعمامه- غير الأشقاء- مصريون يسكنون بالقرب من حدائق القبة، ولهم مصانع صغيرة أو أعمال إنتاجية في المنطقة. وقد زرت عمه عدنان بمنطقة دير الملاك في السبعينيات لأمر ما لم أعد أذكره. كما فهمت من رسائله أن الأديب الكبير يوسف السباعي قريب له. ولعله لم يترك طرفا من حياته المصرية والسورية إلا ذكره لي عبر رسائله، فكان كتابا مفتوحا أمامي ساعدني في الكتابة عنه.
في السنة الماضية 2020م قدّم نجلي محمود رسالته للماجستير بكلية الآداب جامعة عين شمس حول أدبه، كانت الرسالة بعنوان «الرِّواية الاجتماعية عند فاضل السباعي»، وعندما علم باعتماد الرسالة بتقدير «ممتاز» عبّر عن فرحته الغامرة حيث نال بعض حقه المهضوم بسبب مواقفه من النظام في بلاده وتهميشه والتعتيم عليه، فقد كانت هذه أول رسالة في العالم العربي عن رواياته، بعد أن تعثّر باحث في وطنه من إعداد رسالة عنه بسبب مضايقات النظام وتعطيلها.
كان محمود حلقة الوصل بيني وبينه في العقد الأخير، وكنت أسمع صوته من أميركا، وهو يتحدث عن حياته هناك مع أولاده وأحفاده، ويبدي الحنين للعودة إلى دمشق، وقد فاجأني قبل وفاته بخمس سنوات بالعودة إلى العاصمة السورية في ظل ظروف القتال الضاري الذي تشنه السلطة ضد الشعب أو الجزء الأكبر منه تحديدا، وهو أهل السنة ويجيّش الشيعة والروس والغرب، لقتالهم مع أنَّ معظمهم مدني لا يحمل سلاحا، ولا يعرف شيئا عن القتال، ولكن النظام الطائفي أرغم أكثر من عشرة ملايين سوري سنّي على الفرار خارج سورية، وقتل ما يقرب من مليون بالأسلحة التقليدية والمحرمة، والمخترعة محليا (البراميل!).
من حين لآخر كنا نتواصل عبر الهاتف، وأسأله عن حياته وحيدا في دمشق، فيخبرني بتراجع أحواله الصحية، وخاصة البصر، ومعاناته وهو يكتب على «الفيسبوك»، وكانت له صفحه يكيل من خلالها انتقاداته للنظام الطائفي المستبد، ويعالج الأحداث اليومية التي يعانيها الناس من نقص التموينيات والوقود والكهرباء والغلاء والخبز وغيرها، وكُنتُ أشفق عليه من نظام ظالم متوحش لا يعرف الرحمة بمواطنيه فضلا عن الكتاب والمفكرين، فكان يعلن إصراره على موقفه بشجاعة لافتة.
ذكرتُه في بعض كتاباتي الجديدة، وعبّرت عن حُلمي بزيارة دمشق التي لم أتمكن من زيارتها طوال عقود، فانطلقت قريحته على سجيتها تتحدث عني وعن علاقتنا، التي امتدت طويلا وتوجت بلقائنا في القاهرة مع شقيقة الراحل نادر، وعمه عدنان، وولده فراس وزوجه وبعض حفيداته، أكثر من مرة بمعرض الكتاب الدولي.
وعلى ذكر المعرض فقد كان يشارك بوصفه ناشرا وصاحب دار نشر، بيد أنه كان يجعل من مناسبة المعرض فرصة لشراء الكتب التي تتعلق بالأندلس وحضارتها وثقافتها وتاريخها، وكأنه يشتري بكل ما يبيعه كتبا أندلسية، ومن المفارقات أنه وهو ابن حلب التي يهتم أهلها بالتجارة كان يتعامل مع زوّار جناحه في المعرض بوصفه قارئا مثلهم، فيخفّض الأسعار للأدباء والباحثين إلى حدود تكاد تصل إلى سعر التكلفة والشحن، وكان يتوسم في بعض زبائنه الأمانة فيعطيهم ما يريدون ويؤجل الثمن حتى يعودون إليه في زيارة أخرى بعد يوم أو أيام انطلاقا من حبه لنشر العلم والمعرفة.
بعد تأسيس داره للنشر التي أسماها “إشبيلية”1987م، تيمنا بإشبيلية الأندلسية التي أحبها، اقترح عليّ إعداد كتاب نقدي عن الرواية في مصر وسورية، وقد كان لدي ما يمكن تسميته بالهيكل الأساسي للكتاب، وبدأت العمل، ورحت أزوّده بأجزائه عبر البريد، وإذا به يتابع معي تفاصيله الدقيقة هاتفيا، لدرجة أنه كان يناقش بعض العبارات والجمل، ويسهر على تصحيح تجارب الطبع بنفسه، ويقوم بتشكيل الكلمات ويراجع التنسيق وعلامات الترقيم، ويقترح بعض الأفكار، وكنت أرسل إليه ما نتفق عليه في المراحل الأخيرة من إعداد الكتاب بالفاكس (لم يكن النت شائعا أيامها) ،فيردّ على هاتفيا، وظل يتابع عملية الطبع حتى خرج الكتاب في مجلد فاخر ، حظي بمتابعة الصخف المجلات العربية.
جاء سفره إلى الولايات المتحدة 2013م ليقلّص نشاط النشر، ويبتعد عن الحياة الأدبية إلى حدما، ولكنه كان على تواصل بأصدقائه وقرائه عبر الفيسبوك. وللأسف لم أستطع متابعته من خلال تلك النافذة لانشغالي بالقراءة الكتابة، وضعف مهاراتي في المجال التقني الجديد. ولكني كنت أطمئن عليه عبر الهاتف.
-2-
اسمه الكامل “فاضل أبو السعود سليم السباعي”. ولد في مدينة حلب 1929م بحي وراء الجامع في بيت أثري قديم يعود لأحد ولاة عمر بن عبد العزيز- الذي يلقب بالخليفة الراشد الخامس، وهو أكبر أبناء والده التاجر. وأخ من تسعة عشر أو خمسة عشر وفق رواية أخرى، من زواجين لوالده. تعلم معظمهم (ذكورا وبنات) وتمكنوا من الحصول على درجات علمية رفيعة.
أما هو فقد تلقى تعليمه في مدارس حلب، وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1943 والثانوية في 1950. وانتقل إلى مصر ليدرس الحقوق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن). عاد بعدها إلى مسقط رأسه في آخر يونيو 1954، برفقة زوجته، حيث تزوج مبكرا، وابنته سوزان (ولدت في أكتوبر 1951)، وقد أنجب ثلاث بنات: سوزان وسهير وخلود، وولدا واحدا هو فراس. عمل بالتدريس وكتابة القصة. انضم إلى نقابة المحامين في عام 1955. واستوحى بعض قصصه من خلال عمله في المحاماة. وقد أذاع راديو حلب قصته المستوحاة من قضايا المحاكم، “ذقون في الهواء” عام 1957، فحكم عليه بالحبس عشرة أيام.
وقد عمل في وزارة الشئون الاجتماعية والعمل في الفترة من 1958-1969، ثم انتقل للعمل في المكتب المركزي للإحصاء في سنوات (1969-1972) وشغل منصب مدير الإحصاء. وفي جامعة دمشق صار عضوا في لجنة التخطيط في الشؤون الثقافية على مدى سنوات(1978-1982)، حيث تقاعد بعدها ليتفرغ للأدب والنشر.
-3 –
بدأ نشاطه الأدبي بنظم الشعر، ثمّ تحول إلى كتابة القصّة القصيرة، والرواية التي أبدع فيها على نحو غدا فيه واحداً من أهم القصاصين والروائيين العرب في العقود الخمسة الأخيرة، كما كتب المقالة، والدراسة الأدبية، والتاريخية، وله تجربة في أدب الرحلات، وقام بترجمة عدد من القصّص القصيرة عن اللغة الفرنسية، وشارك في تأسيس اتحاد الكتاب العرب بدمشق، وانتخب عضواً مقرّراً لجمعية القصّة والرواية فيه، وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات الثقافية، والنشاطات الأدبية المحلية، والعربية، والعالمية وزار العديد من العواصم العربية والغربية، وبلغت إصداراته نحواً من ثلاثين مؤلفاً في أجناس أدبية مختلفة، وتحول عدد من رواياته إلى دراما تلفزيونية. وترجمت بعض من أعماله إلى الفرنسية والإنكليزية، والألمانية، والروسية، ولغات أخرى.
ومن مؤلفاته:
مجموعات قصصية: الشوق واللقاء، 1958. ضيف من الشرف، نشرت في ما بعد تحت عنوان: الظماء والينبوع . مواطن أمام القضاء، الليلة الأخيرة، نجوم لا تحصی، حياة جديدة، حزن حتی الموت، رحلة حنان، الابتسام في الأيّام الصعبة، الألم على نار هادئة، اعترافات ناس طيّبين.
روايات: الظمأ والينبوع، ثم أزهر الحزن، ثريا، رياح كانون، بدر الزمان، الطبل، 1992.
وبعد تأسيسه لدار النشر إشبيلية 1987 أصدر سلسلة (الكتاب الأندلسي) تعبيرا عن اهتمامه بالتاريخ الأندلسي وإشراقاته من منظور الدارسين الإسبان. وسلسلة (شهرزاد) وهي خاصة بالقصة للصغار واليافعين، وأخرى “أبطال العرب”، قدم من خلالها عبدالرحمن الكواكبي، سليمان الباروني، عبدالحميد بن باديس، وإبراهيم هنانو وعقبة بن نافع وطارق بن زياد، وعمر المختار، وموسی بن نصير، وعمرو بن العاص، وغومة المحمودي، وعبد الكريم الخطابي. كما أصدر كتابا عن رحلته إلى المغرب ، 1977.
وكانت لديه مشروعات عديدة لم يستطع إنجازها بسبب المرض وتقدم السنّ، من بينها مجموعة مخطوطات تتعلق بالأندلس، في بيته بدمشق، كان قد صنفها في نحو مائتي ملف، وتحتاج إلى جهد جماعي كبير، ولا أدري هل يمكن أن تنهض أسرته بالأمر- ومعظمها خارج سورية- أولا؟
-4-
لا أستطيع التوقف عند أعماله الآن بالدرس والتحليل، فقد كتبت العديد من المقالات حول إنتاجه القصصي والروائي في زمن مضى، ولكن يمكن القول إن الرجل كان ابن مجتمعه وعصره، فقد استقى مادته السردية من الواقع المعيش، واختار موضوعاته التاريخية مما يشبع أشواقه وآماله بوصفه ابنا لأمة تتطلع إلى الحرية والكرامة والمشاركة في تقرير مصيرها ومستقبلها. لقد رفض الظلم والقهر والفقر والاستبداد، وهو القائل “إنني مسلم أقدّس الحرية والعدالة، لأنّهما جوهر الكرامة الإنسانيّة، وأكره الفقر والاستعباد، لأنّهما والكرامة الإنسانية على طرفيّ نقيض”. وقد دفع ثمن ذلك سجنا وإقصاء وتهميشا ومضايقة ومكايدة، واعتقلته السلطة فور انتهاء لقاء له مع طلاب كلية الآداب بجامعة حلب 1980 كان يتحدث فيه عن أدبه، وألقى فيه قصته (الأشباح) فتم اقتياده مخفوراً إلى دمشق وأمضي أياماً في زنزانة باردة في عز الشتاء، ولكنه أصر على موقفه وآرائه.
ولا أدري هل يمكن ربط اختطاف ابنه فراس وهو في زيارة إلى بيروت أيام الحرب الأهلية بموقف السلطة منه؟ لقد عاش بوصفه أبا محنة كبيرة، حتى تمكنت قوات الردع السورية من تحرير المخطوف من الجهة الخاطفة.
صحيح أنه لم يشارك في الحركات السياسية المباشرة، ولكنه عبر عن آرائه عبر كتاباته المتنوعة، مباشرة أو رمزا، وهو ما دفع السلطة إلى التعتيم على أدبه، ورفض نشر أعماله وهو في أوج نضجه وعطائه، مع أنه من الرواد المؤسسين لفن القصّ في بلاد الشام، مما دفعه إلى طلب التقاعد المبكر وإنشاء دار النشر الخاصة به.
لقد صاغ كتاباته في أسلوب أدبي أنيق يشبه أناقته الشخصية وأناقة خطه، والنظام الهندسي للورق الذي يكتب عليه، وترتيب الفقرات والسطور والهوامش. لقد كان أسلوبه تحفة فنية تجمع بين التصوير المتوهج والألوان المتناسقة، وتنتمي إلى الجو الفني الذي يعيشه في بيته وحياته. فزوجه فنانة تشكيلية وهي السيدة زليخة شقيقة صديقه الفنان التشكيلي السوري المعروف لؤي كيالي، وإحدى بناته لها في الفن التشكيلي باع طويل
-5-
قبيل وفاته اشتد عليه المرض لدرجة أنه تمنى الموت بأسرع ما يمكن حتى يتخلص من الألم، فكتب على صفحته الشخصية في 12 أكتوبر 2020م بالفيس بوك قائلاً: «يا الله، لقد أتعبتني أوجاع الجسد، وصروف الحياة، فخذني إليك يا الله».
واستجاب الله لندائه، فانتقل إلى رحابه في الخامس والعشرين من نوفمبر 2020، وطويت صفحة كاتب احترم نفسه ودافع عن مبادئه، وتحمل في سبيل ذلك متاعب كثيرة، ويوما ما ستفتح الأجيال القادمة صفحته من جديد بوصفه نموذجا لصاحب القلم الحر، الذي لم يساوم ولم ينافق ولم يتحول إلى مثقف استعمالي. رحمه الله.