الاستغفار لموتى غير المسلمين لم يُجِزْه أحد من السلف
الشيخ د.عبد الآخر حماد
عمداً تأخرت في الكتابة عن قضية مقتل الصحافية “شيرين أبو عاقلة “،وما ثار حولها من اللغط والجدل ، بل لم يكن في نيتي الدخول في أتُّون هذه المعركة أصلاً .لكني رأيت كثيراً ممن تكلموا في هذا الأمر ممن يدَّعون الوسطية والاعتدال قد خاضوا في مسائل شرعية مستقرة مجادلين بغير علم ،أو بتأويل غير سائغ لنصوص الشرع الإسلامي المطهر . وقد كان يمكنهم التركيز على ما شعرنا به جميعاً من التأثر والتعاطف الشديد مع هذه المراسلة التي قضت نحبها مظلومة، والاستنكار الشديد لتلك الجريمة النكراء ،دون التورط في إطلاق أحكام تخالف عقيدتنا نحن المسلمين: مثل القول بجواز الاستغفار لمن مات على غير ملة الإسلام أو الترحم عليهم أو الحكم لهم بأنهم شهداء ، وغير ذلك . ونظراً لطول الموضوع وتشعبه سأكتفى هنا ببيان الحكم الشرعي مختصراً في مسألة الاستغفار لمن مات على غير الإسلام ، مع التعريج على شيء من الشبهات التي أثارها بعض من أشرت إليهم ممن يدعون الوسطية والاعتدال ،ومن أهمها نسبة القول بجواز ذلك لبعض السلف كابن عباس رضي الله عنه ،فأقول وبالله التوفيق .
1-لا بد أن نقرر أولاً أن ديننا الحنيف قد أمرنا بالعدل والإنصاف حتى مع مَن نبغضهم من أهل الكفر والشقاق ،كما قال تعالي : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ المائدة: 8] . كما أن من منهج الإسلام الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم ،ولو كانوا على غير ملتنا ، كما دل على ذلك موقف الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال عن آسارى بدر من المشركين : ( لو كان المطعم بن عدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له ). [ البخاري (3139 ) ]. وذلك أن المطعم بن عدي كانت له يدٌ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ حين رجع من الطائف ، حيث أجاره المطعم فدخل صلى الله عليه وسلم مكة في جواره . وعلى هذا فالذي نشهد به أن هذه الصحفية قد قُتلت ظلمًا وعدوانًا ، وأن دورها في خدمة القضية الفلسطينية على مدى أكثر من ربع قرن لا ينكره إلا جاحد أو مكابر .ويكفي ما كنا نراه منها ،إبان الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى ،من تواجدها شبه الدائم ،بجوار المسلمات المرابطات بالمسجد الأقصى المبارك وشدها من أزرهن .
2-ولكننا مع كل هذا الذي ذكرناه لا يجوز لنا أن نخالف شرع ربنا ، والنصوص المحكمة في القرآن الحكيم والسنة المطهرة ، القاضية بعدم جواز الاستغفار لمن مات على غير الإسلام ، كما قال تعالى : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ).[ التوبة : 113] ، أي من بعد موتهم كفاراً ،كما نقله الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره ( 14/ 518) عن أئمة السلف رضوان الله عليهم . وقال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه .. ). [ التوبة : 114 ( كان إبراهيم، ، يستغفر لأبيه مدة حياته، فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك، رجع عن الاستغفار له، وتبرأ منه ). وفي الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم عن أمه : ( استأذنت ربي أنْ أستغفر لأمي فلم يأذنْ لي ، واستأذنته أنْ أزورَ قبرها فأذنَ لي ).[ أخرجه مسلم ( 976)] . قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث : ( وفيه النهي عن الاستغفار للكفار ) . وقال رحمه الله في المجموع ( 5/ 144) : ( وأما الصلاة على الكافر، والدعاء له بالمغفرة، فحرام بنص القرآن والإجماع ). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ( 12/ 489) : ( … فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع ).
3-وفي مقابل هذه الأدلة الصحيحة الثابتة راح بعضهم يفتش حتى عثر على أثر مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ،فيه جواز الاستغفار للمشرك بعد موته ،فطار به فرحاً ، وهو في الحقيقة أثر ضعيف لا يصح .والكلام حول هذا الأثر وبيان ضعفه يحتاج لشرح وتفصيل ، لذا آثرت -تيسيراً على غير المختصين من القراء- أن أجعله في كلام مستقل ،سأورده في أول تعليق ، ليطلع عليه من يشاء . أما الصحيح الثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو أنه كان يقول بالدعاء للكافر بالهداية والصلاح حال حياته ، وأما بعد موته فلا يُدعى له ، بل يُترك وشأنه ،كما أخرجه ابن جرير في تفسيره برقم ( 17336) وفيه عن سعيد بن جبير قال : ( مات رجل يهودي وله ابنٌ مسلم، فلم يخرج معه، فذُكِر ذلك لابن عباس فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًا، فإذا مات، وكله إلى شأنه! ثم قال: “وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه”، لم يدعُ ). وهذا أثر إسناده صحيح ،كما بينه الشيخ محمود شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري : ( 14/ 516).
4-والمقصود من الاستغفار للكافر حال حياته الدعاء له بالهداية للإسلام الذي به تُغفر ذنوبه ، ولذا ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح ( 11/ 196 ) : في معرض بيانه للمقصود من حديث :” اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ” أن المقصود من ذلك : ( العفو عما جنوه عليه في نفسه لا محو ذنوبهم كلها لأن ذنب الكفر لا يمحى، أو المراد بقوله ” اغفر لهم ” اهدهم إلى الإسلام الذي تصح معه المغفرة، أو المعنى اغفر لهم إن أسلموا ).وقال ابن عطية في تفسيره المسمى بالمحرر الوجيز عند تفسير قوله تعالى : ( من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) قال : ( يريد من بعد الموت على الكفر ،فحينئذ تبين أنهم أصحاب الجحيم ،أي سكانها وعمرتها ، والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يُرجى إسلامه).
5-وكذلك لا يجوز الدعاء لميتهم بالرحمة ،وما زعمه بعض المعاصرين من التفرقة بين الاستغفار للكفار والترحم عليهم ،حيث قال بمنع الاستغفار ،وإجازة الترحم ، فهذا مما لا نعلم له دليلاً صحيحاً . وقد دلت النصوص الشرعية على أن رحمة الله تعالى في الآخرة خاصة بأهل الإيمان لقوله تعالى : ( ورحمتي وسعت كلَّ شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسولَ النبيَّ الأميَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل….) . [ الأعراف : 156 – 157]. قال الإمام القرطبي في تفسيره ( 7/ 238) : (قال بعض المفسرين: طمع في هذه الآية كل شيء حتى إبليس، فقال: أنا شيء؛ فقال الله تعالى: “فسأكتبها للذين يتقون” .فقالت اليهود والنصارى: نحن متقون؛ فقال الله تعالى: “الذين يتبعون الرسول النبي الأمي…” الآية. فخرجت الآية عن العموم، والحمد لله ). وقال تعالى : ( والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم ). [ العنكبوت : 23]. وفي سنن أبي داود ( 5038)، والترمذي (2739) عن أبي موسى الأشعري قال : ( كان اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم ،يرجون أن يقول لهم : يرحمكم الله . فيقول يهديكم الله ويصلح بالكم ). قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . قال في تحفة الأحوذي ( 8/ 9) : ( ولا يقول لهم يرحمكم الله ؛ لأن الرحمة مختصة بالمؤمنين ، بل يدعو لهم بما يصلح بالهم من الهداية والتوفيق والإيمان ).
6-وإن من تمام القول في هذا أن نشير إلى عقيدة النصارى في شأن من يموت على غير مُعتَقدِهم ، وأنهم لا يُجوِّزون الصلاة عليه ولا طلب الرحمة له .وقد نشرْتُ في هذا المعنى مقالاً منذ سنوات ،بينتُ فيه عقيدتهم في ذلك، وأشرت إلى تسجيل للأنبا شنودة نفسه ، موجود على اليوتيوب ، فيه أنه سئل عن شخص ارتد عن المسيحية ثم مات ،هل يجوز العزاء فيه والترحم عليه ؟ فأجاب بأن العزاء فيه لا مانع منه ،وأما الترحم عليه ،أو تعزيتهم بأن تقول لهم : إن هذا الميت هو الآن في أحضان إبراهيم وإسحاق ويعقوب فهذا لا يسمح به .وحينما سأله أحدهم عن كيفية توصيل هذا المعنى لأهل الميت وهم لا يزالون على الديانة المسيحية ،قال بالنص : ( قل لهم : قوانين الكنيسة ما تسمحش بالترحيم ) ،ثم بين أنه لا بأس بالتعاطف مع أهل ذلك الميت ،وأن نقول لهم : “من يدري ،فلعله يكون قد تاب في آخر يوم من أيام حياته ، ونحن نصلي أن يكون قد تاب ” .ولكن طقوس الكنيسة لا تسمح بالصلاة عليه. [ يمكن الاستماع لهذا التسجيل على الرابط الموجود بالتعليق الثاني ] .والرجل متسق مع عقيدته ،وما قاله أمر طبيعي ؛لأن كل صاحب دين يعتقد أن دينه هو الحق ، وأن من لم يتبعه فلن ينال الجنة ،أو بتعبيرهم هم ” الحياة الأبدية “. وأما نحن الذين نتلو ليل نهار : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ).[ آل عمران : 85]، فإننا نجد من بني جلدتنا من يأبى إلا تمييع عقيدة المسلمين ، والمجاملة على حساب ثوابت الدين وأصوله . فإنا لله وإنا إليه راجعون .