مرت أكثر من أربعة عقودٍ على إصدار الشهيد بإذن ربه محمد عبد السلام فرج، كتابه الأيقوني “الفريضة الغائبة” ويعني بها الجـ.ـهاد. وعالج في كتابه ذاك ما انفضّ عنه المسلمون من فريضة هي الأعلى في فرائض الضرورات من باب حفظ النفس في هيكل المصالح البشرية. وكان لهذا الكتاب أثر عميق انعكس في أحداث عالمية عديدة.
كانت تلك الفريضة أيامها هي التي تتصدر قائمة الفرائض الضائعة، حيث كان ما هو أقل منها رتبة في الأحكام الشرعية، لا يزال فيه بقية رمقٍ من حياة.
لكن الزمن كان، وما يزال، في هبوط واضمحلال، والتراجع لم تبطئ وتيرته، بل زادت وتسارعت. وإذا بفريضة غالية عظيمة أصبحت تتصدر القائمة اليوم، بعد أن صارت كلمة الجـ.ـهاد، لا ممارسته، وصمة يوصم بها المتطرفون والإرهابيون! تلك الفريضة الغائبة الجديدة هي فريضة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
يقول الله ﷻ “يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولـئك من الصالحين” آل عمران 200.
ويقول تعالى “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” آل عمران 110.
فذكر الله ﷻ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد فريضة الإيمان بالله مباشرة، بلا فاصلٍ. ثم بيّن أنها موضع خيرية هذه الأمة. تلك الخيرية التي إن فقدت سببها تخلفت بين الأمم، وتعثرت بين الخلائق.
ولتأكيد ذاك المعنى الأخير في أهمية تلك الفريضة المباركة، بيّن ﷻ أن ترك تلك الفريضة هو سبب انهيار الأمم ولعنة أهلها، فقال سبحانه “لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون” المائدة 79. فما عصيانهم الذي استوجب لعنتهم إلا تركهم التناهي عن المنكر، وهو أعلى مقاما من الأمر بالمعروف إجماعا، من حيث إن درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة.
وعضد رسول الله ﷺ هذا المعنى في حديثه “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهوُن عن المنكر أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم” الترمذي وحسنه
وقال الحبيب المصطفى ﷺ “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعذاب منه” صحيح رواه الترمذي والنسائي.
ذلك أن إقامة الدين تكون بأمرين، إقامة شرعه وتنفيذ أمره، ونفي الخبث والدخيل عنه والنهي عما يضاده. وجماعهما الأمر بالمعروف الأكبر “التوحيد” والنهي عن المنكر الأكبر “الشرك” فما هو دونهما.
ففريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة مؤكدة يقينية، على رأس الفرائض الاجتماعية التي تؤسس بها الأمم، ويقوم بها الدين. بل حتى في الأنظمة اللادينية، فإن هذا المبدأ العام، والسنة الكونية لا تتخلف.
لكن، وحسرتاه .. ما الذي في زمننا نراه!
هجرٌ شبه عام لهذه الفريضة. بل تحذيرٌ منها خوفا وجبناً من تداعياتها! فصار الصمت هو المُقدّم، حتى اعتادت عليه النفوس وركنت إليه الفطر، فتساوى المعروف والمنكر في أكثر النفوس، ثم صار المنكر معروفا والمعروف منكراً عند الكثير.
يحذرك الأخ والصديق، ألا تتكلم بما يغضب السلطة، أو يضاد النظم، حتى لا تقع في مصيبة الاعتقال. لكن ينسى هؤلاء أنّ هذه الفريضة لا يحلّ تركها إلا لضرورة، كعجز، أو جهلٍ، أو تهديدٍ حالٍ بقتل نفس أو عيال. ولو كان مجرد الخوف المطلق هو سبب في ترك الفريضة، لما كان لها قيمة كالتي رأينا في إقامة الدين. وقد جعل الله بيننا شهداء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخشون في الحق لومة لائم، ويقدمون على أداء الفريضة ما سمح لهم حدّ الضرورة.
ولو قيل: هي فريضة كفائية، إن قام بها البعض سقطت عن الباقي! قلنا: نعم، لكن الجهـ.ـاد كذلك، وهل وصل بنا الحال إلا بهجره، بل معاداته؟!
وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موصول بفرض الجهـ.ـاد، إذ هما ركنان متلازمان، ثالثتهما الدعوة، فالدعوة والبيان أولا، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانيا، ثم الجهـ.ـاد ثالثاً، كلها أركان في هيكل إقامة الدين.
ثم أين هي “الكفاية” التي تبيح أن نفجّر مقولة “فرض كفاية” بالله عليكم! ألا يستحي من يقول بهذا؟ لقد انحرف أكثر من يسمونهم بالعلماء بالدعوة، وصاروا هم أنفسهم منكراً يجب أن يُنكر! وصار الأمرُ بمعروفٍ لا أصل له، هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هو نهي عن المعروف!
لذلك وجب الحثٌ على إقامة تلك الفريضة الغائبة، فغيابها انبطح بالأمة هذا الانبطاح الذي صارت به مائدة للخبثاء ولقمة للعابثين والسفهاء، كالهنود والصلبيـ.ين واليهـ.ود والروم الأنجاس، حتى الروافض وشيعهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لا تتبعوا جبناء القلب مريضي النفس ناقصي الإيمان، من حيث يصورون للناس أن التقاعس عن هذه الفريضة فيه حفظ للنفس، فوالله ما في هذا التقاعس إلا قتل للنفس وهدم للدين ومذلة للأمة.