مراجعات في فقه الأولويات
نقداً لأطروحة د . يوسف القرضاوي
د. أحمد عبد الرحمن
شجعني فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي على كتابة هذه الدراسة بقوله في مقدمة كتابه موضع الدراسة (إن الله قد يوفق لهذه الدراسة مَن يزيدها تعمقاً وتأصيلاً). وإني أسأل الله تعالى أن يوفقني إلى شيء يسير من ذلك التعمق المنشود، وليكن تحفيز المؤلف نفسه على التعميق والتوضيح! الغاية من دراسة المؤلف: وقد حدد الدكتور القرضاوي الغاية من كتابه فقال إنه يريد: (وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يقدّم الأَوْلى فالأولى، بناء على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي ونور العقل، (نور على نور)، فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، ولا المفضول على الفاضل أو الأفضل، بل يقدم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، ولا يكبر الصغير، ولا يهوّن الخطير) (ص9)، فهل نجح الأستاذ في بلوغ هذه الغاية؟، وإلى أي مدى؟، هذا هو السؤال الذي نأمل الجواب عليه. وقبل أن نتناول بالتحليل بعض الأولويات، والثنائيات العديدة، التي عرض لها الكاتب أسجل هنا وفي البداية أنني عانيت كثيراً بسبب افتقاد التعريف المحدد الواضح لمصطلح (الأولوية) وغياب الفواصل والروابط التي تقوم بينه وبين مصطلحات أخرى، ترددت عبر صفحات الكتاب، مثل، المرتبة (الضروريات، التحسينيات، الكماليات) والوجوب (وبقية الأحكام الخمسة)، والأفضلية، والتقديم في الأداء، ولما كانت (الأولوية) هي محور الكتاب كان افتقاد تعريفها وتمييزها سبباً في كثير من الغموض والضبابية. (والأوْلى) في اللغة: أفعل تفضيل، بمعنى الأحق والأجدر والأقرب، وفي كل سياق يكون للأحق والأجدر والأقرب معنى مناسب للموضوع، فهذا أحق بالاحترام والآخر أحق بالازدراء، وهذا أجدر بالقبول والآخر أجدر بالرفض، وهذا أحق بالثواب والآخر أحق بالعقاب، وهذا أولى بالبر أو الصدقة أو المعونة… الخ . وفيما يتصل بالثنائيات التي عرضها الكتاب (الجهاد وبر الوالدين) و(الجهاد والعبادة) و(الطب والدعوة) و(الاختلاط والعزلة)… الخ، ماذا تعني الأولوية؟. هل تعني اختيار طرف وإهدار الطرف الآخر؟، أم التقديم في الأداء؟، أم إعطاء المزيد من الاهتمام؟، هل أمر الوالدين أجدر بالالتزام من الجهاد؟، وهل الاختلاط أجدر بالأداء من العزلة… وهل وهل؟! إن الخبرة الحياتية تشهد بأن المرء قد يواجه التناقض بين الواجبات، فيضطر إلى إهدار طرف من أجل إنجاز الآخر، كالرجل الذي يكون شاهداً على جريمة ولده أو والده، وقد يقبل أحد الواجبين التأجيل، فيؤخّر إلى أجل، وإن كان هو الأوجب (أو الأفضل) فالوفاء بالدّين أوجب من أداء الحج، لكن يجوز تأجيل الوفاء بالدين إذا وافق الدائن وتيقن من الوفاء بعد الحج، وقد تأخذ الأولوية معنى الأحق بالرعاية أو الأجدر بالإنفاق، كالولد المريض أو البنت المشرفة على العنوسة وتريد أن تجهيز للزواج، فيؤجّل الحج، ولا يهدر، ثم يؤدّى بعد ذلك. وحال الأمة يختلف عن حال الفرد في مواجهة المواقف التي تتزاحم فيها الواجبات أو تتعارض أو تتناقض، وتتطلب تمييز الأحق بالتقديم والأجدر بالنفقات والاعتمادات، فالجماعة توزع العمل على أفرادها وهيئاتها ومؤسساتها المتخصصة، وبذلك يقل اضطرارها إلى إهدار بعض الواجبات، ولقد رفعنا شعار: (لا صوت يعلو على صوت المعركة!) في أثناء احتلال العدو الصهيوني لسيناء فأعطينا معظم جهدنا وأموالنا للاستعدادات العسكرية، ومع ذلك لم نهدر واجباتنا في المجالات الأخرى إهداراً كلياً. فلو أن المؤلف اهتم بهذه المسائل المتصلة بالمصطلح الأساسي في كتابه لأسدى خدمة كبيرة لقرائه، وربما لنفسه أيضاً، لأن تلك البيانات والتمييزات لمحور الدراسة لابد أن تكون لها انعكاساتها الإيجابية على فصول الدراسة وتحديد حقلها بدقة تمنع الخروج منه، واختلاط موضوعاته وعناصره بمواد أخرى في حقول أخرى. المعركة الفكرية.. الأولوية للخارج أم الداخل ؟ هذه ليست أولى الثنائيات التي عالجها الدكتور القرضاوي، ولكنها جاءت في أواخر الكتاب، وبصفة عامة، لن أسير في ترتيب فقرات دراستي هذه حسب ترتيب ورودها في كتابه. وفي البداية أحب أن أستعمل لفظ الحوار أو الجدال بدلاً (المعركة!)، والله تعالى يقول: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125]، فلماذا نجعلها معركة؟!، وإذا جاز جعْلها معركة مع أعداء الإسلام من غير المسلمين لأنهم يريدونها معركة، فهل يجوز أن نفعل هذا مع الفصائل الإسلامية الأخرى؟! وقد أعطى المؤلف الأولوية للمعركة الفكرية في الداخل، أي مع الفصائل المسلمة الأخرى قائلاً: (فإن إصلاح الداخل هو الأساس، وله الأولوية) (ص221)، لكنه بعد ثلاث صفحات وصف التيار الوسطي الذي ينتمي إليه بأنه يؤمن بالحوار بالحسنى مع الآخر أي مع المخالفين من غير المسلمين، أو من المسلمين المغزوّين عقلياً والمهزومين روحياً (ص223)، فاستعمل لفظ (الحوار)، وكان يجب تغيير عنوان الموضوع الرئيسي ليصبح الحوار الفكري، بدلاً من المعركة الفكرية. وبعد أن تكلم في إيجاز عن التيارات الإسلامية، أو عن اللاعبين الأساسيين في الحوار الإسلامي الداخلي، قال: (إن معركتنا الحقيقية في داخل أرضنا يجب أن تكون مع هؤلاء (الغُلاة) حقاً، من العلمانيين وبقايا الماركسيين، وإن أي تحويل للمعركة عن هذا المسار، ومحاولة اختراع أعداء من الإسلاميين أنفسهم ممن يخالفون بعض الناس في فروع الفقه أو حتى في فروع العقيدة يعتبر غفلة شديدة عن حقيقة العدو. فمَن فعل ذلك من الدعاة إلى الإسلام عن جهل فهي مصيبة. ومن فعل ذلك عن علم وقصد فهي مصيبة أعظم وخطرها أكبر لأنها تكون بمثابة الخيانة للإسلام وأمته وصحوته) (ص225). وهكذا أعطى الأولوية للمعركة الفكرية مع الإسلاميين، ثم عاد ليدين الذين يحولون المعركة من القتال ضد الخارج وأذنابه في الداخل!، وقد جعل من واجب التيار الوسطي الذي ينتمي إليه مواجهة الجميع: المعارضين والخصوم من الإسلاميين، والقوى المعادية في الداخل والخارج. ومن الواضح أن ثمة ارتباكاً هنا، ومن الصعب معرفة: لمن تكون الأولوية عنده؟، أما الصواب فهو ما جاء في قوله: (إن المواجهة مع الداخل والخارج: حوار مع الفصائل الإسلامية، وجدال مع الماديين المحليين وأذنابهم من المحليين)، ففي الواقع، الجدال محتدم بين الجميع، بحيث لا يمكن التفرقة بين الأجانب والأذناب، فهم فريق واحد، بعضه يكتب من اليسار إلى اليمين وبعضه يكتب من اليمين إلى اليسار، ومع ذلك لا يمكن إعطاء الأولوية للخارج والأذناب في الداخل وتعطيل الحوار الإسلامي الإسلامي، لأن الفصائل الإسلامية تشتبك في حوارات مستمرة لا يمكن فضها أو إيقافها، ولا مصلحة للإسلام في فضها، لكن الأمة المسلمة ليست كالفرد في اضطراره إلى إهدار واجب معين لإنجاز آخر، إنها تستطيع مزاولة الحوار والجدال مع الخارج والداخل، إلى جانب الحوار الإسلامي الإسلامي، وهذا هو الحاصل والواقع، وهناك المتخصصون في نقد المادية والعلمانية، وهناك المتخصصون في المذاهب الإسلامية ومقارنتها، فهؤلاء لهم الحوار الإسلامي الإسلامي، والآخرون لهم الجدال مع الماديين، وصفوة القول إذن أن طبيعة هذه المحاورات والمجادلات واتساعها وتنوعها لا يدع مجالاً للقول بأن الأولوية بالنسبة للأمة ككل يجب أن تكون للداخل أو الخارج، وإذا حدث لباحث فرد أن أعطى للحوار الإسلامي الإسلامي الأولوية، فركز همه فيه، وحصر نفسه في نطاقه فذلك لا يعني أن هذا هو المسلك السديد للأمة، والدكتور القرضاوي نفسه كتب ضد المادية والعلمانية والإلحاد، كما كتب ينتصر للتيار الوسطى الذي ينتمي إليه. وفي الكتاب موضع الدراسة وصف الدكتور القرضاوي الفصائل الإسلامية التي يعارضها بأوصاف سلبية جداً، وهي الأوصاف التي يصفها بها أعداؤها عادة، ومن المؤسف أنه لم يوثق وصفه السلبي بأية اقتباسات من أدبيات تلك الفصائل، وهذا النهج يخالف الأصول العلمية، ويوهن من قدرة كاتبه على الإقناع، ففي مواضع الخلاف والنقد يتحتم الاقتباس من الأعمال والأدبيات المخالفة والمنقودة. ووصف الأستاذ التيار الذي ينتمي إليه هو بكل الخصائص الإيجابية، ومن ضمنها (فقه الأولويات) (ص222)، وهو الفقه الذي يقدمه المؤلف في هذا الكتاب!، ولم يذكر أسماء الفصائل الأخرى، لكنه أورد الأوصاف السلبية التي نعتها بها أعداؤها! والقارئ يدرك دون صعوبة أنه يقصد الصوفية والسلفية والجهاد، ويخيل إليّ أنه لم يذكر الأسماء تجنّباً لردة فعل عنيفة من زعماء تلك الفصائل ومنظّريها، ومثل هذه الردة هو ما واجهه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله بُعيد صدور كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)، وفي اعتقادي أن تحديد الأسماء أفضل، مع الاقتباس من أعمالهم، فذلك أدعى إلى القصد في النقد، والاعتدال في الإدانة، ثم إن تحديد الأسماء كفيل بتحريك الحياة الثقافية الراكدة، وإدارة عجلات الحوار العلمي البنّاء المفيد بين الإسلاميين. ومن مزايا التيار الذي يصفه المؤلف (بالوسطي) (والذي هو تيار الإخوان المسلمين، والذي ينتمي إليه، بل يقوده الآن على المستوى العلمي) (فقه الاختلاف مع الفصائل الإسلامية الأخرى) (ص123)، وهذا يثير الدهشة!، فلا ريب أن الإخوان يؤمنون بفقه الاختلاف ويحترمونه، لكن يبدو لي أن الدكتور القرضاوي قد خالف هذا المبدأ الإخواني حين وصف الفصائل الأخرى بأنها: التيار الخرافي، الذي يقوم على الخرافة في الاعتقاد، والابتداع في العبادة، والجمود في الفكر، والتقليد في الفقه، والسلبية في السلوك، والمداهنة في السياسة! والتيار الحرفي، وخصائصه الجدلية في العقيدة، والشكلية في العبادة، والظاهرية في الفقه، والجزئية في الاهتمام، والجفاف في الروح، والخشونة في الدعوة، والضيق بالخلاف. وتيار الرفض والعنف الذي يقوم على رفض المجتمع، والشدة والصرامة في الالتزام بالدين، والاعتزاز بالذات اعتزازاً يؤدي إلى الاستعلاء على المجتمع، وسوء الظن بالآخرين جميعاً، وضيق الأفق في فهم الدين وفهم الواقع، واستعجال الأشياء قبل أوانها، والمسارعة إلى التكفير بغير تحفظ، واتخاذ القوة سبيلاً إلى تحقيق الأهداف (ص222). فهل هذه الأوصاف تتسق مع فقه الخلاف؟، هل يقبل زعماء هذه التيارات الحوار مع رجل يصفهم بهذه الأوصاف؟!، وكيف يمكن عبور الهوة الرهيبة بينها وبين التيار الوسطى الذي يؤمن به؟، ولكن بعد ثلاث صفحات يغير الدكتور القرضاوي رأيه ليقول: (إن معركتنا الحقيقية في داخل أرضنا يجب أن تكون مع هؤلاء (الغلاة) حقاً من العلمانيين وبقايا الماركسيين)، ثم يقول: (إن أي تحويل للمعركة عن هذا المسار، ومحاولة اختراع أعداء من الإسلاميين أنفسهم ممن يخالفون بعض الناس في فروع الفقه، أو حتى في فروع العقيدة يعتبر غفلة شديدة عن حقيقة العدو الذي يتربص بالجميع الدوائر. فمن فعل ذلك من الدعاة إلى الإسلام عن جهل فهي مصيبة، لأن الجهل بمثل هذه القضية خطر كبير، ومن فعل ذلك عن علم وقصد فهي مصيبة أعظم، وخطرها أكبر، لأنها بمثابة الخيانة للإسلام وأمته وصحوته)(ص225)، وهذا صواب، لكن ها هنا المفارقة! فهو يقذع في وصف الفصائل الإسلامية، وذلك لا يتسق مع أدب الخلاف، ويحيل الحوار الدائر بين الإسلاميين إلى معركة أو حرب أهلية فكرية لا تُبقي على جسر أو علاقة أو إمكانية لقاء وحوار!، والقارئ يرتبك إذا سأل نفسه: لمن أُعطيت الأولوية، للمعركة في الخارج أم للحوار في الداخل؟! ويعيد القراءة ليجد الجواب، فلا يزداد إلا حَيرة! ما الذي يصنع الأمم التربية أم الشريعة؟: يلوم الدكتور القرضاوي العاملين في الحقل الإسلامي لأنهم أعطوا عناية كبرى لقضية ما سموه تطبيق الشريعة الإسلامية (ص227)، وقبل مناقشة الأولوية المزعومة هنا أقول إن هذا الأسلوب في الكتابة عن تطبيق الشريعة غير لائق، ومرفوض، ويا فرحة أعداء الإسلام وهم يجدون الدكتور القرضاوي وقد أخرج نفسه من جملة المطالبين بتطبيق الشريعة، وأحال نفسه إلى ناقد غريب عنهم، يتحدث عنهم بضمير الغائب! ويعلم الله أن الإسلاميين طالبوا ويطالبون بتطبيق الإسلام كاملاً: عقيدة وشريعة، وديناً ودولة، وحقاً وقوة، وسلاماً وجهاداً، ومصحفاً وسيفاً، وهذا هو ما أورده الدكتور المؤلف نفسه معبراً عن موقف أستاذه (الشهيد) حسن البنا (ص265)، فأول كلمتين هما (عقيدة وشريعة)، وهي الشريعة التي يلوم المؤلف الإسلاميين لأنهم بالغوا في المطالبة بتطبيقها!، ويرى المؤلف أن هذه المبالغة كانت لها: (آثار سيئة على التفكير الإسلامي والعمل الإسلامي، وآثار أخرى (سيئة ؟!) على أفكار الناس العاديين) (ص228). لكن المؤلف لم يبين لنا تلك الآثار السيئة، ولم يبرهن على شيء منها! وهو يقول: (إن القوانين وحدها لا تصنع المجتمعات، ولا تبني الأمم، إنما تصنع المجتمعات والأمم التربية والثقافة، ثم تأتي القوانين سياجاً وحماية) (الموضوع السابق نفسه). وهذا خطأ، فمن الوهم إمكان ممارسة التربية الإسلامية على المستوى الوطني أو القومي في ظل نظم حكم علمانية اشتراكية أو رأسمالية، ودساتير وقوانين معبرة عن أسس تلك النظم وأهدافها، ومحددة لمواصفات الإنسان المطلوب تنشئته بواسطة المؤسسات والأجهزة التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية، لقد سلبت النظم الحديثة التربية من الأسرة، ولم تدعْ لها إلا القليل، وهي لا تترك هذا القليل، بل تهدمه!، فالقوانين ليست سياجاً وحماية فقط، بل هي التي تحدد الغايات والأساليب والسياسات التربوية لأي شعب، ثم تكون سياجاً وحماية للتربية المنشودة، وسداً عالياً في وجه التربية المضادة، وهي التربية الإسلامية التي تقوم على الأخذ الشامل للإسلام: عقيدة وشريعة، وديناً ودولة… الخ. وهم يعتقدون أن التربية العلمانية والإعلام العلماني وأجهزة الثقافة والفنون والآداب، قادرة مع مرور الزمن على تجفيف منابع الإسلام وتنشئة أجيال مسيخة، هجينة شائهة، تؤمن بأن الإسلام تراث شعبي قديم فات أوانه، بل تؤمن بأن الإسلام (ظلامية) و(رجعية) و(تخلف)، لا مكان له في دنيا العولمة المعاصرة ! والعجيب أن المؤلف يريد: (تربية إسلامية متكاملة معاصرة، تتابع الطفل من سن الحضانة، وتستمر معه حتى يتخرج من الجامعة) (ص228)، ففي أي بلاد المسلمين يمكن تنفيذ هذه التربية؟، وما عدد النظم الحاكمة التي تسمح بهذا؟، وما البلاد التي تسمح قوانينها بمثل هذه التربية؟. ولنتكلم عن مصر، وندع الكلام عن غيرها لأهله، إن تاريخ التعليم عندنا شهد أطول مطالبة ممكنة باحترام الإسلام وتجنب المطاعن فيه في الجامعات المصرية، منذ الثلاثينات وإلى اليوم، دون تحقيق أو استجابة!، واندلع الشجار بين طه حسين وزكي مبارك وتوفيق الحكيم الذين دافعوا عن حق المستشرقين في الطعن في الإسلام وبين بعض الأساتذة الإسلاميين في الثلاثينات، ولا نزال نسمع حتى اليوم عن هجمات يشنها العلمانيون ورثة المستشرقين على الإسلام، والجامعات تقف معهم بكل قوة، وبصراحة وعلانية، وتعدل لوائحها لتضمن لهم الترقية بالبحوث التي تتهجم على القرآن الكريم وتكذبه وتكذب الرسول صلى الله عليه وسلم (راجع مجلة (الرسالة) القديمة، الأعداد أرقام 300، 336، 337)، وقضية الدكتور نصر أبو زيد مثال أخير لهذا الموقف، وكذلك المدرس الفرنسي في الجامعة الأمريكية. والعلمانيون يتمنون من صميم قلوبهم أن يقتنع العاملون في الحقل الإسلامي برأي الدكتور القرضاوي القائل إن القوانين سياج وحماية للتربية، وعلى ذلك يتحتم (عدم المبالغة!) في المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، والانصراف إلى التربية وإعطاؤها الأولوية! ذلك وهم كبير عريض!، وعلينا أن نطالب ونلح، ونضغط لتطبيق الإسلام كاملاً، وأول ذلك: العقيدة والشريعة، واتباع سياسات تربوية عامة، تصدر بها قوانين، ويسهر على تنفيذها الآلاف في كل المؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية. التربية والدعوة أم الجهاد ؟ وطرح المؤلف قضية التربية والجهاد، وقرر أن الأولوية للتربية (أو الدعوة)، وكانت المسألة موضع خلاف بين جماعة الإخوان المسلمين وجماعة الجهاد، فيُنسب إلى جماعة الجهاد قولهم إن الأولوية للجهاد، ويؤسفني أنني لم أستطع أن أقرأ لهم شيئاً في المسألة، ولم يأتِ المؤلف الدكتور القرضاوي بنص لأحدهم يبين وجهة نظرهم، وهو غير ملوم على ذلك لأنه لم يذكرهم بالاسم عند عرض المسألة، لكنني قابلت بعضهم ذات يوم في أحد المساجد فسألني هذا السؤال: هل أيامنا هذه أيام دعوة وتربية أم أيام جهاد؟، فسألته: أي جهاد تقصد؟، فقال: الجهاد ضد العلمانيين الذين يحكمون المسلمين، فأجبته قائلاً: نحن أمة كبيرة، ومنا مَن يشتغل بالتربية والدعوة، ومنا مَن يشتغل بالجهاد ضد العدو الخارجي، ومنا مَن يشتغل بالجهاد ضد العلمانية بلسانه وقلمه، وبكل طريقة قانونية متاحة، ولا مجال هنا لأي أولوية، لأنه بالنسبة للأمة لا تضاد ولا تناقض بين التربية والجهاد، مما يضطر المسلم إلى إهدار أحدهما من أجل الالتزام بالآخر، فأنت تتلقى التربية والدعوة، وربما تمارس التربية والدعوة في وقت آخر، وممارسة الدعوة اليوم جهاد، لأن الدعاة يتعرضون للأذى والمضايقات والحرمان من المزايا التي يتمتع بها المنافقون، وربما أُلقي بهم في المعتقلات لإصرارهم على قول كلمة الحق، كما أن المجاهدين ضد العدو الخارجي يتلقون التربية العسكرية والدينية في أثناء وجودهم في الجبهة، فعصرنا عصر دعوة وتربية وجهاد، … فإذا قال قائل إن التربية قبل الجهاد فقد فصل بين عملين لا ينفصلان في الواقع، وإذا كان المقصود هو أن تتم تربية الأمة تربية إسلامية قبل تغيير نظم الحكم، فهذا خطأ، لأن نظم الحكم العلمانية تسيطر على وسائل التربية والدعوة والإعلام، وتسخرها لتربية الأجيال على أساس (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) كما قال كمال أتاتورك نقلاً عن العلمانيين الأوربيين، وكما كررها بعض حكامنا العسكريين ضد التربية الإسلامية، لكي تذبل وتخمد، وتحل محلها تربية علمانية تشوه الإسلام، وتصنع منه ديناً آخر متفقاً مع المذهب العلماني السائد، أو ذاك هو ما يعبرون عنه بمقولة (تجفيف المنابع). ولقد كانت نتائج موقف جماعة (الجهاد) رهيبة، حيث تم استئصالها، ثم اتّخِذ موقفها تكئة للتنكيل بالإخوان المسلمين الذين اختاروا التربية والدعوة، ولوصْم كل مسلم نشط وكل داعية مؤثر بالإرهاب، ولتمزيق الإسلام نفسه، ونبذ بعضه وإبقاء بعضه، تمهيداً لتجاوزه كله كنظام شامل للحياة وإحلال الفلسفة المادية محله فكراً وعملاً، وبذلك تصبح بلادنا المسلمة جزءاً من العالم الجديد، الخاضع للفلسفة البراجماتية الملحدة، بقيادة أمريكا. وإذا راجعنا السنة النبوية المطهرة لنتعلم منها شيئاً يفيدنا في مسألة هذه (الأولوية) وجدنا أن أوضاعنا الجديدة الراهنة تحتم علينا أن نلاحظ الفروق بين عصر النبوة وعصرنا هذا، فمن المعروف أن الجهاد والتربية أو الدعوة لم ينفصلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم (إذا أخذنا الجهاد بمعناه الواسع الذي حدده الدكتور القرضاوي نفسه: جهاد الشيطان وجهاد الهوى وجهاد العدو الظاهر الخارجي، والعدو المنافق المخاتل)، فيقول ابن هشام إن كل قبيلة في مكة وثبت (على مَن فيهم من المسلمين يعذبونهم، ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم منهم بعمه أبي طالب) (ج1، ص269، طبعة الحلبي سنة 1375هـ) وبعد وفاة أبي طالب ازدادت الاعتداءات على المسلمين، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، لأن الدعوة لم تكن لها دولة تحميها، وتمت الهجرة المباركة إلى المدينة بعد أن ثبت أنها المحضن الآمن الذي يمكن أن يحمي التربية والدعوة. إن أوضاع التربية الإسلامية الآن في بعض البلاد المسلمة تشبه أوضاع التربية الإسلامية في مكة بعد وفاة أبي طالب، ولا شك أن المعوقات تتباين من عصر إلى آخر، ونحن نجد الآن معوقات رهيبة لم يكن لها مثيل في مكة، فالنظم العلمانية التي ترفض أخْذ الإسلام كاملاً شاملاً وتجتزئ منه، بحسب المذهب السائد (شيوعي اشتراكي رأسمالي براجماتي) تضع السياسات التربوية العامة لتنشئة أجيال من أبناء المسلمين تؤمن بمذاهبها المادية. وهذه النظم تنكل بالمطالبين بالتربية الإسلامية، فلا يجدون أبا طالب يجيرهم، ولا نجاشي ولا حبشة، ولا يثرب يهاجرون إليها!، وحتى الذين فروا إلى بلاد العدو ولجأوا إليه سياسياً بدأوا يتعرضون للتضييق والأذى والكبت تحت ذريعة أنهم يساندون الإرهاب، وهذا هو ما جعل بعض الجماعات تعتقد أن تغيير النظم له الأولوية أو السبق لتغيير السياسات التربوية العامة وتسخيرها في سبيل تعليم الإسلام ونشره. صفوة القول إذن أن التربية والجهاد مقترنان، لا ينفصلان، والسنة تؤكد هذا والواقع العملي يؤكده، ولكن الجهاد لتغيير النظم يجب أن يتخذ الطرق القانونية التي لا تعطي ذريعة للعلمانيين لاستئصال كل عمل تربوي ودعوي يبتغي نشر الإسلام في كماله وشموله، ومهما كانت المعوقات، ومهما تأخر بلوغ الغاية فإن أي رائد مسلم لا يجوز أن يخاطر بحياته أو حياة أتباعه، والدنيا تتغير، والإسلام عميق الجذور في تربة بلادنا، والمصحف يعمل عمله، ومع انتشار التعليم يزداد عمله ويتضاعف تأثيره {واللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ولَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف : 21]. وفي حالة احتلال الكفار لبعض بلاد المسلمين يصرَف الاهتمام إلى إجلائه عنها، وتسخّر معظم إمكانات الأمة لخدمة المعركة، وفي مثل هذه الظروف يمكن أن يقال إن الأولوية للجهاد على التربية والتعليم وكل مرافق المجتمع، وهذا ما حدث في أيام احتلال العدو الصهيوني لسيناء، إذ رُفع شعار: (لا صوت يعلو على صوت المعركة!)، ولكن هذا لم يؤدّ إلى تعطيل التربية أو الصناعة أو الزراعة، لأن الجهاد في الحرب الحديثة يحتاج إلى كل مرافق المجتمع وأنشطته، وهذا يؤكد مرة أخرى أنه لا انفصال ولا قبْلية على التربية أو للتربية على الجهاد. من فقه الأولويات في تراثنا: قتل البعوض أم قتل الحسين؟ وتحت عنوان (فقه الأولويات في تراثنا) (ص233) أورد المؤلف الخبر الذي يقول إن رجلاً مُحْرماً من أهل العراق سأل عبد الله بن عمر عن دم البعوض، فقال: (ها ! انظروا إلى هذا! يسأل عن دم البعوض أي قتله في أثناء الإحرام وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم!)، وقد يرى المؤلف في هذه القصة أولوية، وهي لدم الحسين طبعاً! غير أن الخبر يثير عدة تساؤلات: فهل الرجل العراقي هو قاتل الحسين حتى يوبّخ على سؤاله؟! وهل مسئولية قتل الحسين تقع على عاتق كل عراقي، وإلى يوم الدين؟! وهل في شريعتنا (خطيئة أولى) كما في النصرانية؟! إن الأستاذ المؤلف لم يناقش الخبر، ولم ينقده، بل سلم بصحته تسليماً، ومضى في طريقه على اعتبار أن أهل العراق كلهم قتلة، وذرياتهم من بعدهم! وأظن أن الكَلَف بالأولويات هو الذي جذب الأستاذ إلى تلك الوجهة، حيث أدان شعباً مسلماً بجريمة قتل اقترفها أناس غير عراقيين!، وهذا ظلم فادح يجب أن نرفعه عن أولئك الأبرياء، وأن نضع المسئولية على عاتق المجرمين الحقيقيين، ونبرئ ابن عمر من تلك المقولة الظالمة! وتلك هي الحقائق كما وردت في تاريخ الطبري: قال الطبري (إنه في سنة 40هـ طلب الحسن بن علي بن أبي طالب الذي تقلد الخلافة بعد مقتل أبيه رضي الله عنهما وورث النزاع الذي كان مشتعلاً بين والده وبين معاوية بن أبي سفيان طلب الصلح من معاوية، ولم يُصْغِ لرجاء شقيقه (الحسين) ولا لكبار قادته، مثل قيس بن سعد الذي كان يقود 12000 رجل من جيش (علي) وأمر الحسن ذلك القائد وغيره بالبيعة لمعاوية، واستشار قيس بن سعد جيشه فقال: (يا أيها الناس! اختاروا الدخول في طاعة إمام الضلالة أو القتال مع غير إمام)، قالوا: (لا، بل نختار أن ندخل في طاعة إمام الضلالة)، فبايعوا معاوية، وانصرف عنهم قيس بن سعد وقد كان صالح الحسن معاوية على أن جعل له ما في بيت ماله وخراج (دارابجرد) على ألا يُشتم علي وهو يسمع، فأخذ ما في بيت ماله بالكوفة، وكان فيه خمسة آلاف) أي خمسة ملايين (5/160). وهكذا بايع رجال علي معاوية مرغمين بسبب بيعة (الحسن بن علي) وصار لمعاوية بيعة في أعناقهم، وهذا يفسر لنا تردد كثيرين منهم في موقفهم من الحسين الذي أعلن الثورة على الإمام الشرعي (بصرف النظر عن الخلاف حول إمامة معاوية وابنه)، وقاتل بعضهم مع (الحسين) وضحى عدد منهم بأرواحهم فداءاً له، ويقول الطبري عن أحداث سنة 61 هـ بعد حوالي عشرين عاماً من تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية إن أصحاب الحسين لما رأوا: (أنهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسيناً ولا أنفسهم، تنافسوا في أن يُقتلوا بين يديه) وقد قُتل منهم 72 رجلاً في الدفاع عنه. وأما قَتَلَة الحسين فهم: سنان بن أنس النخعي، وزرعة بن شريك التميمي تحت قيادة عبيد الله بن زياد عامل يزيد بن معاوية ودفاعاً عن حكم بني أمية. فالمسئول الأول هو يزيد بن معاوية (الذي أخذ يعبث بفم الحسين حين وُضع رأسه أمامه بعد فصلها عن جسده رضي الله عنه)، ثم عامله ابن زياد، ثم الرجلان اللذان باشرا القتل، وهؤلاء جميعاً مكيون من أهل الحجاز مثل عبد الله بن عمر!، فإذا اعتمدنا مبدأ الخطيئة الأولى خطأًلحقت الإدانة بأهل مكة جميعاً، بل بأهل الحجاز وذرياتهم، ومنهم عبد الله ابن عمر! وإذا لم نعتمد ذلك المبدأ وقعت المسئولية على يزيد بن معاوية ورجاله دون غيرهم، وهذا هو الصواب الذي يتسق مع حقائق التاريخ ومبادئ شريعتنا الإسلامية التي لا تعرف الخطيئة الأولى. وإن هذه اللوازم الناتجة عن ذلك الخبر لتطعن في صحته، فابن عمر كان يعلم الحقيقة، وكان يعرف الشريعة، ولا يمكن أن يصدر عنه شيء كهذا، أما لماذا وُضع ذلك الخبر؟، فالأسباب كثيرة، وأولها الصدام التاريخي بين الأمويين وأهل البيت، وبين أهل الحجاز وأهل العراق. ونعود إلى ذلك العراقي الطيب الذي حرص على سلامة إحرامه، والذي كان يعاني من قرص البعوض ويتحرج من قتله، هل لعالم مسلم كبير مثل عبد الله بن عمر أن يرده ويوبخه لأنه سأله عن مسألته؟ لا أظن ذلك، فليست مسألة ذلك العراقي (تافهة) كما عبر الأستاذ القرضاوي، لأنه ليس في ديننا توافه، ولم يثبت في الخبر أن ذلك الرجل كان مضيّعاً للأمور الكبيرة، حريصاً على التوافه!، ونحن نتمنى أن يكثر المسلمون الحريصون على أمور دينهم كلها، بدلاً من أولئك الذين لا يبالون بدين ولا شرع ولا خلق!. وإذا افترضنا أن العالِم المسلم صادف رجلاً ممن يرتكبون الكبائر، ويهتمون بالسؤال عن (توافه الأمور!) فهل يقول له: اجعل الأولوية للكبائر فتُب عنها أولاً، ثم اسأل عن هذه التوافه، أم يقول له: (تُبْ إلى الله وأقلع عن الكبائر)، ويخبره عن حكم الصغائر أو التوافه التي جاء يسأل عنها؟، هل هناك تعارض أو تناقض يحتم التوبة عن الكبائر قبل معرفة حكم التوافه؟، الحقيقة أنه لا تعارض ولا تناقض، بل تعاضُد وتآزُر، ففي بعض الأمور الصغائر تقود إلى الكبائر، كالنظرة المحرمة التي تُغري بالزنا، والتدخين الذي يتطور إلى تعاطي المخدرات وأكل أموال الناس بالباطل الذي يبدأ يسيراً ثم يستفحل، وسد الذرائع يمنع كل ما من شأنه الإفضاء إلى المعاصي، وقد تكون الصغائر هي الطريق إلى الآثام والموبقات، وقد يكون المباح هو السبيل إليها فيُمنع، مع أنه في أصله على الإباحة، وبصفة عامة يجب على العالِم المسلم أن يراعي الظروف الفردية المحيطة بالسائل، وأن يفتيه بما يُصلح به دينه، وذلك هو (فقه الحال)، لا فقه الأولويات. عند ذيوع الفساد : الاختلاط أم العزلة ؟ أعطى الدكتور القرضاوي الأولوية للاختلاط، والحق أنه لا وجود هنا لأولوية، بل اختيار وتفضيل لمنهج على منهج، ولا يصح القول بتفصيل مطلق للعزلة أو للاختلاط، و(فقه الحال) ضروري للاختيار بين المنهجين في المواقف المتباينة، ذلك لأن الفساد درجات متباينة تبايناً شديداً جداً، بحيث تكون العزلة عن المفسدين هي الأفضل اتقاءاً لشرورهم، وخشية انتقال أفكارهم وأخلاقياتهم الهابطة إلى غيرهم، وقد يكون الفساد محدوداً، والأمل في الإصلاح ممكناً، فيكون الاختلاط أفضل وأجدى، وكذلك يختلف الاختيار باختلاف سن المرء وتعليمه ونضجه، فعزلة الأطفال والمراهقين عن أجواء الفساد ومُناخ المفسدين هو الاختيار التربوي الرشيد، صيانة لهم عن الغواية والسقوط، وأما الرجل البالغ الرشيد فقد يكون الاختلاط خيراً له في بعض الظروف والمواقف، والعزلة خيراً له في ظروف أخرى. ومعلوم أن الباحثين والمفكرين والمبدعين في الآداب والفنون والعلوم يحتاجون إلى العزلة والهدوء، ليتيسر لهم التأمل بعيداً عن صخب الحياة اليومية، وكذلك تحتاج العبادة أحياناً إلى العزلة والانقطاع عن الناس، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتزل مكة المكرمة، ويقيم شهراً من كل عام يتحنّث في غار حراء، ويعتكف هناك (سيرة ابن هشام، 1/235 طبعة الحلبي). عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن)(أخرجه البخاري، كتاب الفتن، رقم 7087 في فتح الباري)، وقال الإمام ابن حجر في شرحه: (والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العزلة، فقال الجمهور: الاختلاط أَوْلَى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية، وقال قوم: العزلة أولى لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين). وما كان يسع الدكتور القرضاوي أن يؤلف كتبه العديدة بدون عزلة وتفرغ واعتكاف، وهكذا يقودنا الاستنصال أو منهج التحليل للألفاظ والمصطلحات إلى القول إن العزلة أحياناً أفضل وأجدى علمياً ودينياً، فإن الاختلاط أحياناً أخرى أفضل وأنفع، وإن الشخص الواحد يمارس المنهجين في أوقات مختلفة وظروف متباينة، و(فقه الحال) هو الذي يرجح لديه العزلة أحياناً والاختلاط أحياناً أخرى. أولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد : تحت هذا العنوان (ص145) ناقش الدكتور القرضاوي مسألة جواز قتل الأسرى المسلمين إذا تترّس بهم العدو، واقتبس فتوى الإمام الغزالي بجواز قتلهم بشروط معينة، واعتبرها تعطي الأولوية لحقوق الجماعة على حقوق الأفراد، ولم يذكر تلك الشروط، وذكرها مفيد لنا هنا، فالإمام الغزالي اشترط لقتل الأسرى المسلمين إذا تترّس بهم العدو ثلاثة شروط: (المستصفى، 1/253 طبعة الجندي): 1 – أن تكون هناك ضرورة. 2 – أن تتحقق من وراء القتل مصلحة قطعية. 3 – أن تكون تلك المصلحة كلية أي أن تكون مصلحة للأمة كلها. ولكي نتحقق من توافر هذه الشروط في كل حالة على حدة لابد من (فقه الحال)، فقد نقتل أسْرانا ولا يتحقق لنا النصر المنشود، وقد نقتلهم دون أن تكون هناك ضرورة حربية، ويكون النصر ممكناً دون قتلهم، وقد يكون عدد أسرانا كبيراً، وقتلهم لن يحسم الحرب لصالحنا، وإن ساعدنا على اقتحام موقع للعدو أو دخول حصن له. وقد يكون عدد المتترس بهم قليلاً، وقتلهم سيحقق مصلحة يقينية للأمة، وقد يكون عدونا معروفاً عنه قتل الأسرى، وقد يكون معروفاً عن الحرص على تبادل الأسرى، ولأن المواقف الحربية متباينة إلى حد بعيد لم يكن من الممكن إصدار فتوى آلية جاهزة بجواز قتل أسرانا إذا تترس بهم العدو! إن الجيش الإسلامي ربما يواجه تناقضاً حقيقياً في بعض حالات التترس بالأسرى المسلمين حين يتحقق بأنه لا يمكن تحقيق النصر إلا بقتل الأسرى، هنا يفكر القائد في الأولوية: أتكون لمصلحة الأمة كلها أم لمصلحة عدد قليل من الأسرى؟، لكن هذه الحالات نادرة جداً، فلا يتصور كسب الحرب ضد أمة معادية بسبب فتح قلعة أو معسكر أو مدينة، وتاريخ الأمة المسلمة يشهد بهذا، إن من الممكن كسب معركة جزئية بقتل أسرانا المتترس بهم، لكن كسب الحرب غير ممكن بتلك الوسيلة. ولا مجال للتحدث عن التترس بالأسرى في الحروب الحديثة، ولقد حاول صدام حسين التترس بالأمريكيين المدنيين لمنع أمريكا من ضرب مطارات العراق، فأدانه العالم أجمع، واضطر إلى إطلاق سراحهم!، لكن المؤلف جاء بهذا المثال ليثبت أولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد، وتلك قضية كبرى أثارها الصدام بين الشيوعية والليبرالية الرأسمالية، فالشيوعية أغفلت الفرد، وانتهكت حرمة دمه وماله وحريته في سبيل المجتمع الشيوعي، والليبرالية أعلت من قدر الفرد وأعطته حريات واسعة أدت إلى تجبر بعض الأفراد وتحكمهم في الحكومات والمجالس النيابية!، أما في الإسلام فلابد من توفر الضرورة الحقيقية والمصلحة الكلية العامة والقطعية لإباحة انتهاك نفس المسلم أو ماله أو حريته بدعوى حقوق الجماعة، وذلك باب واسع خطِر يجب سده بإحكام في وجوه الحكام الظّلَمَة والمستبدين. : هل بر الوالدين له الأولوية على الجهاد في سبيل الله ؟ في نقده لبعض الشباب المسلم الذين يقسون على آبائهم وأمهاتهم، ذهب المؤلف إلى أن الأولوية يجب أن تُعطى لبر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، وأورد نصوصاً من السنة المطهرة ليثبت صحة مذهبه، من ذلك ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: (أحي والدك؟)، قال: نعم، قال: (فيهما فجاهد) ص139 . والحق أن هذه الأحاديث الشريفة لا تقرر أولوية لبر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، بل هي إعذار لبعض المسلمين للتخلف عن الجهاد، والجهاد ماضٍ في سبيله لم يتوقف لقعود عدد صغير من المسلمين، ولو أن المؤلف راجع الآيات القرآنية التي حددت الأعذار الشرعية للقعود عن الجهاد لأدرك حقيقة مغزى تلك الأحاديث، وأن الآيات القرآنية حددت الأعذار المقبولة، وليس من بينها كَوْن الوالدين أحياء!، ولو رد النبي صلى الله عليه وسلم كل مَن كان والداه أحياء لرد معظم المسلمين! بل إن القرآن الكريم يكلف الآباء القادرين أنفسهم بالجهاد، فيقول: {انفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً}[التوبة: 41]، والخفاف هم الشباب، والثقال هم الشيوخ، (انظر: تفسير القرطبي) وأمثلة الشيوخ المجاهدين كثيرة، وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم وأما الأعذار الشرعية فقد ذكرتها آيات عديدة، منها قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ ولا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح : 17]، وقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُعَفَاءِ ولا عَلَى المَرْضَى ولا عَلَى الَذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلهِ ورَسُولِهِ} [التوبة: 91]، وهناك الآية الجامعة القائلة: {لا يُكَلِفُ اللهُ نَفْساً إِلاَ وسْعَهَا} [البقرة: 286]. فإذا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الرجال لرعاية آبائهم، فذلك لعذر شرعي من هذه الأعذار لا لوجود آبائهم أحياء، ولا لأن لبر الوالدين الأولوية على الجهاد في سبيل الله كما قرر المؤلف. وقد عاد المؤلف إلى الحديث عن هذه الأولوية (ص145)، لكنه جعلها للجهاد إذا كان دفعاً لعدو يغزو بلاد المسلمين، فالأولوية إذا كان الجهاد جهاد طلب تكون لبر الوالدين، وإذا كان دفعاً لعدو يغزونا تكون الأولوية للجهاد، ولكن آيات القرآن الكريم التي حددت الأعذار الشرعية لم تقصرها على جهاد الطلب دون جهاد الدفع، فهي أعذار شرعية في كل جهاد، وهذا بَدَهِي، إذ كيف يجاهد الأعمى والمريض والأعرج والذي لا يجد ما ينفق أو لا يجد راحلة، وغير المستطيع لأية أسباب أخرى؟، والفائدة الأصولية الحاكمة هنا وهناك هي: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إلاّ وسْعَهَا} [البقرة: 286]، فالإسلام لا يكلف العباد ما لا يطيقون. إن الجهاد في سبيل الله أفضل العبادات وأوجبها، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، ويكفي هنا الحديث الذي استشهد به المؤلف (ص235)، فعن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تَفْتُرُ، وتصوم فلا تفطر؟، فقال: يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده لو طُوّقْتَ ذلك (يعني: لو أصبح ذلك في طاقتك) ما بلغت المجاهدين في سبيل الله!)، فلا يجوز أن يقال إن لشيء الأولوية عليه، ولكن لأن الجهاد فرض كفاية، إذا قام به بعض المسلمين سقط عن سائرهم، فقد رخص الشارع لبعض المسلمين التخلف عنه لأعذار حددها، فإذا انتهى العذر بموت الوالدين مثلاً، أو تحققت الاستطاعة بعد فقدانها تحتم على المسلم أن يبادر إلى الجهاد، وإلا لحقته الإدانة الشديدة بالقعود والتخلف. هل الجهاد له الأولوية على العبادة في الحرم ؟ أكد المؤلف هذه الأولوية، وأورد شعراً لابن المبارك يقول فيه إن العبادة في الحرمين الشريفين (لعب!) إذا قورنت بالجهاد في سبيل الله، وأكد المؤلف ذلك بالحديث السابق الذي رواه عن أبي هريرة. ومن الجلي أنه لا مجال للحديث عن أولوية هنا، لأنه لا تعارض ولا تناقض يحتم على المسلم أن يختار بين الجهاد والعبادة، فإذا جاهد ضاعت العبادة، وإذا تعبد في الحرم فاته الجهاد!، وابن المبارك لم يتحدث عن رجل معين واجه هذا التناقض، بل أراد إبراز عظم ثواب الجهاد في سبيل الله، لكن المؤلف وحد بين الأفضلية في الثواب وبين الأولوية، وهما لا يتحدان، فالجهاد أعظم ثواباً من أية عبادة أخرى، كما جاء في الحديث الشريف، لكن المسلم يمكن أن يعبد الله تعالى في الحرم أو في غير الحرم (قبل) الذهاب إلى الجهاد وفي أثنائه، وبعد الفراغ منه. إن الصعوبات نشأت هنا من عدم تحديد معنى الأولوية وتمييزها من الوجوب والأفضلية، والسبق الزمني، وعلى أساس هذا النقص أدخل المؤلف كل حديث عن الأفضلية في فقه الأولويات، فتداخلت المفاهيم واضطربت الأحكام وتوالت الأخطاء. أولوية الجهاد على سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام: وقرر المؤلف أولوية الجهاد في سبيل الله على سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، واستشهد بقول الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجّ وعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ واللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19]. والآية تقرر عدم التساوي، ولم تذكر أولوية، والآية التالية تقرر أن الجهاد أعظم درجة، فيقول الحق تبارك وتعالى: {الَذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [التوبة: 20] يعني من الذين يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، ويقول القرطبي إن النبي صلى الله عليه وسلم استدل بهذه الآية على أن (الجهاد أفضل)، ومعنى هذا أن عظم الدرجة هو الأفضلية عند د. القرضاوي، ولم يرد على لسان أحد ممن قارنوا بين الجهاد والسقاية لفظ (أولوية) (راجع تفسير القرطبي للآيتين)، لكن المؤلف جعل عظم الدرجة والأفضلية (أولوية)، أو فسرها بالأولوية. والحق أنه لا مجال للحديث هنا عن أولويات، إذ لا تعارض بين السقاية والجهاد، يضطر المسلم إلى اختيار أحدهما وإهدار الآخر، والسقاية وعمارة المسجد الحرام عمل دائم متصل طوال العام، فإذا نودي للجهاد في سبيل الله قام به بعض المسلمين، لأنه فرض كفاية، لا فرض عين، وسقط عن سائرهم، وليس معنى هذا أن أعمال الذين لم يشاركوا في الجهاد لها الأولوية على الجهاد!، وهذا لا يعني أيضاً أن الذين لم يشاركوا في الجهاد لها الأولوية على الجهاد!، وهذا لا يعني أيضاً أن الذين لم يشاركوا في معركة ما لم ولن يشاركوا في غيرها، وأهل السقاية والعمارة في موسم ما قد يكونون من المجاهدين قبل ذلك الموسم أو بعده، ذلك أن الجهاد في سبيل الله واجب لا يجوز بحال أن يتخلف عنه مسلم إذا دُعي إليه ولم يكن من أصحاب الأعذار، وبعض الغزوات التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم لم تتطلب سوى عدد قليل من الرجال، وبعض الغزوات الكبرى تطلبت النفير الشامل والحشد أو الحشر الكامل لكل قادر على خدمة الجيش، كما حدث في (القادسية) في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (راجع تاريخ الطبري، 3/487، طبعة سويدان، بيروت، دون تاريخ)، وعلى الرغم من هذا لم تتوقف الزراعة والصناعة والسقاية وعمار ة المسجد الحرام بسبب ذلك. وصفوة القول إذن أن (الأولوية) لا سند للقول بها هنا من كتاب أو سنة، إلا إذا تركنا تعبير القرآن الكريم الدقيق: (أعظم درجة) واستبدلنا به لفظ (الأولوية)، أو فسرنا (عظم الدرجة) و(عدم الاستواء) بالأولوية، وهو تعسف لا يفيد في شيء، بل يجلب الغموض والاضطراب والخلط. الطب أم الفقه والدعوة ؟ تحت عنوان: (حاجة أمتنا اليوم إلى فقه الأولويات)تحدت الدكتور القرضاوي عن: (إخلال المتدينين اليوم بفقه الأولويات) (ص14)، ومن أمثلة ذلك الإخلال عنده تحوّل بعض طلاب الطب والهندسة والزراعة والآداب إلى دراسة العلوم الإسلامية وممارسة الدعوة والإرشاد (19). والحق أنه لا إخلال بأية قاعدة إسلامية في مسلك أولئك الطلاب، فلا يوجد تناقض يتطلب إعطاء الأولوية للطب أو الهندسة أو الزراعة، ولا وجه للومهم أو الاعتراض عليهم، ولا محل للاستشهاد بإنكار الإمام الغزالي (الذي عاش في القرن الخامس الهجري وتوفي سنة 505 هـ) على المسلمين لإهمالهم الطب، والإقبال الزائد على الفقه، (على حين لا يوجد في البلد من بلدان المسلمين إلا طبيب يهودي أو نصراني يوكل إليه علاج المسلمين والمسلمات)، فأوضاعنا اليوم انعكست، فصار عندنا من الأطباء والمهندسين والزراعيين أكثر كثيراً مما نحتاج، وكثير منهم يعانون من البطالة الصريحة أو المقنعة، وقد تدنت أجورهم إلى الحضيض، والنقابات المهنية تصرخ ليل نهار مطالبة بتقليل أعداد المقبولين في كليات الطب والهندسة والزراعة، وعلى هذا يتحتم أن ننكر على السياسات التعليمية هذه النتائج بعكس إنكار الإمام الغزالي!، وهذا هو ما يمليه (فقه الحال) الذي لا يعرف الفتاوى الآلية، ويأخذ في الاعتبار تباين الظروف والأحوال، وهذا لا يعني بحال أن الإسلام يجيز النسبية السوفسطائية فيحرّم اليوم ما أباحه بالأمس، فالنصوص القرآنية ثابتة خالدة مطلقة، لكن هناك مجالاً يقبل التغيير والتبديل هو مجال المصالح المرسلة، كمسألة: الطب أم الفقه؟، وهناك نصوص ظنية الدلالة في الكتاب والسنة تقبل أكثر من تفسير دون الخروج على قوانين التأويل أو التعسف في تفسير الألفاظ، وهذه مسألة أصولية معروفة، ومن جهة أخرى أثبتت التجارب أن الذين يتلقون تربية علمية تجريبية، ثم ينتقلون إلى الدراسات الإسلامية، يبرعون في الدعوة، وكذلك الذين يشتغلون بالدعوة كرسالة لا كوظيفة وبحب ورغبة وحميّة يُرجى منهم خير كثير، ومعرفة اللغات الأجنبية ومناهج البحث التجريبي تمكن أولئك الطلاب من النجاح في الدعوة العصرية، في أوساط المثقفين المسلمين وغير المسلمين على السواء. فلست أجد خللاً ولا اضطراباً ولا إثماً ولا تعطيلاً لأي فرض من فروض الكفاية في انتقال أولئك الشباب من كليات الطب والهندسة والزراعة إلى حقل الدراسات الإسلامية وممارسة الدعوة بعد ذلك. جهاد الكفار بالمال أم حج النفل ؟ ويحمل الدكتور القرضاوي بعنف على الذين يحرصون على أداء الحج كل عام ويرفضون إنفاق تلك الأموال التي يتكلفونها في محاربة اليهود أو الصرب.. الخ، وقد وصفهم بوصف القرآن الكريم للمنافقين، {لَوّوْا رُءُوسَهُمْ ورَأَيْتَهُمْ يَصُدّونَ وهُم مّسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5]، وهذا أول الأخطاء، والثاني أنه عمّم الحكم دون مسوغ، وصحيح أنه لم يقل إنهم (جميعاً) يرفضون التبرع لجهاد الكفار، لكن كلامه أيضاً لم يحدد (بعضهم)! وعلينا أن نتذكر ثالثاً أن المسلمين بذلوا الأموال والأنفس في سبيل الله في فلسطين وأفغانستان والبوسنة، وإن لم يبلغوا المستوى الواجب عليهم، ومسئولية حربنا ضد الكفار رابعاً ليست مسئولية حُجاج النفل دون سائر الأمة لكي نطالبهم بالتبرع بنفقات الحج للجهاد، وكلنا يعلم خامساً أننا في العالم العربي نواجه تبذيراً في الآثام والمعاصي لا في النوافل! لا يصدقه عقل، فتضيع الملايين على موائد القِمَار وتشييد القصور في الداخل والخارج، وتجنيد الآلاف من الخدم والحَشَم والحرس والجواسيس.. الخ، ثم إن أمتنا المسلمة أخيراً لم تتوقف عن التبرع للجهاد إلا بعد أن حُلت لجان الإغاثة في الدول العلمانية، وزُج ببعض العاملين فيها في الزنازين، فلم َن يتبرع المسلمون؟، هل يتبرعون للنظم العلمانية؟! صفوة القول إذن إنه لا مجال للقول بأولوية للجهاد على حج النفل، لأنه لا يوجد تناقض بينهما يضطرنا إلى تعطيل أحدهما لإنجاز الآخر. أولوية الدعوة على بناء المساجد: ومن غرائب الأولويات في كتاب الدكتور القرضاوي أولوية الدعوة على بناء المساجد، وهو يسخر من بناة المساجد قائلاً إنهم: (يؤمنون ببناء الأحجار، ولا يؤمنون ببناء الرجال!) (ص16). والحق أنه لا يوجد أي تعارض بين بناء المساجد وبناء الرجال، بل إن المسجد هو مصنع الرجال، ومقر التربية والدعوة والتعليم فضلاً عن العبادة، وبخاصة في البلاد التي تكبل النشاط الإسلامي وتقمعه بالقانون وخارج القانون، وقد كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم هو الجامع والجامعة ومقر القضاء والحكم، وإذا كانت الحكومات العلمانية قد أممت المساجد، وكممت الدعاة، ومنعت الدعوة والتربية والتوعية في المساجد فتلك غُمة نسأل الله تعالى أن يكشفها عن المسلمين. وبعد .. فهل الآراء التي تبناها الدكتور القرضاوي في موضوع المعركة الفكرية تمثل هداية أو إضاءة للعاملين على الساحة الإسلامية؟، وهل تقديمه للتربية على الشريعة موقف سديد؟، وهل يمكن إعطاء الأولوية للاختلاط دائماً؟، وهل معالجته لموضوع قتل البعوض في أثناء الإحرام سليمة في ضوء الشرع والعقل؟، وهل فتواه بجواز قتل أسرانا إذا تترس بهم العدو صحيحة مطلقاً وبدون قيد أو شرط؟، وهل لبر الوالدين الأولوية على الجهاد إذا كان جهاد طلب، وللجهاد على بر الوالدين إذا كان جهاد دفع؟، وهل هناك مسوغات شرعية للقول بأية أولوية للجهاد على سقاية الحاج أو العبادة في الحرم؟، وهل تُعطَى الأولوية للطب على الفقه في ظروفنا الراهنة؟. يؤسفني أن أجيب بالنفي على كل هذه التساؤلات، وأتمنى من صميم قلبي أن يتكرم الأستاذ المؤلف بإثبات العكس، فيها كلها، أو في بعضها، وربما تحقق التعميق المنشود لهذا الفقه من خلال النقد والرد، والله تعالى من وراء القصد. |