إنَه في أغوار نفسي… وكلَما أوغلتفي النسيان.. يطفو الطيف ليذكرني ما دفنت من أسفار الماضي…لقد فشلت في نسيانالماضي الذي دفنته إنَه ينتفض من الأجداث سراعا ويعود بالأطياف منجديد
يرفرف طيف الحزن فوق سماء أحزانيالمتلبدة.. يثقل كاهلي ويخنقني حتى يأخد مني الجهد… ترى هل سيطاردني ذلك الطيفإلى آخر نفس في الجسد العليل المكدود….؟…أم أنه سيختفي و إلىالأبد….
أوَاه كم يجدد الطيف العابر … علىنفسي من مرارات الأسى وحزن الماضي بكل تلاوين الأحزان الجارفة والجارحة… إنهينكش في ذاكرتي عميقا فيبدو الجرح المتدفق بالدموالصديد…
كأنَه وليداليوم……
الطيف العابر كنقار الخشب يدق طبولالأسى والذكريات في أعماقي.. وينقر فوق رأسي… لقد تحوَل الطيف إلى هاجس داخليأصيل..
إنني في دوَامة تتقاذفني من زمنبعيد….
أحس بطيفها وهو ماثل أمامي لا مفر منهمرَات تزورني كل يوم باسمة وعابسة
مقبلة ومدبرةفرحة مستبشرة وحزينة منكسرة شاحبة كأوراق الخريف او مزهرة كريحانة من جنائنالورد…….
ولكنني كلما طالعت ذلك الطيف … أقف مشدودا مبعثر الأفكار فارغ الفؤاد إلا منه إنه يظللني كالشجرة الوارفة… وألوذإليه ككهف عميق غابر ولكنني في كل الأحوال لا أحسَ بالانقباض أو الامتعاض… عندماأراها في أحلامي ورآي…
ولكنه طيف موجع ينكَؤالجرح الدامي …. ذلك الطيف الذي أراه من المكان القصي يحمل لون الأسف والندموالأسى والحسرة والأنين.
خذلني الطيف عندمارفرف فوق رأسي بجناحي طائر ثم اختفى في غمار السماء…. خذلني الحلم البعيد ذلكتبدد كفقاعات الهواء الزائغة.. تحول إلى أضغاث أحلام وكوابيس مزعجة تخزني بأشواكهافي كل مكان من جسدي وتصيح بالذكريات في وجهي تنكش في العمقوالأوجاع.
خذلني القيد الذي في يدي والزنزانةالتي تعتصرني….
خذلني الصوت المبحوح فيأعماقي وأخاديد ذاكرتي ووجداني…
سفر السجنوالحرية
لا أدري منذ متى وأنا جالسهنا تحت سقف الزنزانة أحلق في سماء أحزاني وتأملاتي الصامتة والمكتومة والمتأوَهةالخفيظة ..
يصبح الصمت داخل القبو طقساإعتياديا.. يكاد لساني أن يصاب بالصدأ وأنا أبتلعه طيلة سحابة اليوم لا أستعمله فيالليل والنهار ….
المنفردة تعني العزلة إنهارحم يحمل جنين المعاناة والقهر وديعة ويمتد الألم لشهور أو سنوات قبل أن يكونالمخاض بالحرية المستحيلة
السجين السياسي لا يغادرالعتمة إلا في حالة واحدة …. الموت
أنا هنا….. في القبو منذسبعة سنوات…
الحرية كلمة نسيتها … إنني أعيش السجن ولا شيء غير السجن.. اصبحت مخذرا بالسجون …تسكنني كما أسكنها…. ترى كم أحتاج من الزمن لأعبر إلى عالم الأحياء … عالم الأسماء والطرقات والحياة .
هنا لاشيء سوى الأرقاموالزنازن والوجوه الكالحة والأقبية والظلمة المهيمنة مع عتمة شديدة مملوءة بالكآبةوالترهل…
إنفجر في رأسي شيء مخيف .. مرعب ومقزَز أشعرني برغبة جارفة في القيء والغثيان .. إنها لحظات مقرفةجداااا…إنه شيء مخيف تذكرته فجأة .. أحسست بالإنقباض و الإختناق الذي يجثم علىصدري يزداد في قوة نبضاته وخفقاته….. كانوا أمامي يزيدون على الأربعة وجوههمكأديم الأرض … صفحات مقت وغضب ولعنة … وقفوا ينتظرون كبيرهم كان قصير القامةبعيني فأر … رمقني بعين تطفح غلَا… وأعطى أوامره للجلاوزة… إندفعوا صوبي دفعةواحدة وهم يصيحون في صوت واحد أجش….
إخلعالسروال……..
ياللهول… تفصَد جبينيبحبات من العرق زادتني الخرقة السوداء التي وضعوها على وجهي إحساسا بالإختناق لكننيكنت أختلس وأتلصص من الشيفون ملامحهم وحركاتهم البهلوانية… كان ذلك الثقب بوابتيلمعانقة الصورة ..
أي هول هذا الذي أراه فيالوجوه وأسمعه من جلبة المكان…
وقفت جامدا متخشبا جردونيمن ثيابي أصبحت خزيانا…. إنه الخزي الذي جللني….. لاول مرة في حياتي… أجبرعلى نزع ملابسي…..
الآن بدأتالقيامة … إنهم يجردونني من المخيط والمحيط ويتأهبونللعذاب…….
عاد الحاج كبير الجلاوزةصاحب العينين المميزتين بالخبث والحيلة والمكر .. أشار إليهم بيده إشارات .. ثم مضىكالطيف.. بعدها أقبل الجلاوزة نحوي وأنا لا أزال مقرفصا … قال أحدهمآمرا
أكْحُبْ
كان جوابي الصمت والدهشةإنني لا أفهم ماذا تعني أكْحُب …؟
صاح الآخر وهويقهقه
أك حُ بيعني اعمل هكذا .. ثم افتعل السعال بقوة كأنه نهيق حمار… عرفت حينها أننيسأكْحُبُ على طريقة الجلاوزة كحبْتُ لأوَل مرَة كان سعالا هو مزيجٌ من الأسىوالحرقة والحسْرة… كلَما سعلتُ بقوة كان الجلاوزة يضربونني على ظهري بعنف…لهمفيها مآرب أخرى……
قال الحاجالكبير…
خذ وه فغلَوه ثم إلىالزنزانة 72 أدخلوه…
مضوا بي في موكب جنائزيصامت … إلى العتمة الباهرة….
سفر الطيف
من كوةالزنزانة كنت أطلَ على العالم الخارجي أرى في الصبح قرص الشمس وهو يلتهب إلتهاباوفي المساء أقف متأملا لحظات الغروب الهادئة
القبو المقيت و الزنزانة باردة وصنبور الماء لا يكف عن إرسال قطراته فيالجردل… قطرات تخترقني كالرصاصة المكتومة الصوت…
كل ذلك لا قيمة له عندي لقد فقدت الإحساس بالزمن والمكان… إنَ الحياةمظلمة قاتمة … أظلَ أنتقل بعيني من مكان إلى مكان… هناك في الأفق يتخيل لي طيفأعرفه أشعر بالضيق .. فأرسل زفراتي الحرى….
البارحة رأيتها …… في منامي كنت أركب حافلة مزدحمة بالناس مع أنيامقت الزحام ..بعد عناء وجدت مكانا شاغرا ألقيت جسدي على أول كرسي وإرتخيت فجأةوجدت طفلا يقبل نحوي ويجذبني … إنه يقف أمامي ذلك الوجه أعرفه صفحة وجه ياسر … كأني أراها أمامي في اليقظة … سحبني إلى مقدمة الحافلة وهو يشير بأصبعه يحثنيعلى المسير فجأة وجدتها…… كانت تجلس في مقدمة الحافلة كانت بحجابها الرماديالمألوف لي وجهها المشرق المشرَب بالحمرة صاف أصيل… إرتمى ياسر في حجرها… رمقتني بنظرات ذات معنى تأملتها فإذا بها شاحبة الوجه … لكنها هي… كأنها لمتتغير قط ولم تنحت السنين تضاريسها في رقعة وجهها…. إنصرفت وأنا ملتزم بالصمت …الصمت السيد المطاع …. دائما ينصرف العشاق انصرافهمالصامت……..
أفقت على آذان الفجر كنت أشعربغير قليل من الإنشراح لقد زارني طيفها من جديد… نفسي التي فقدتها ولا أزالأنشدها … ها هي ذي ترفرف مع أطياف الماضي وأسراب الطيور وهي تفزع من أعشاشهاوتصرخ في السماء.
فتحت صنبور الماء لأتوظأفشردت للحظات … كان الماء وسيلتهم للتعذيب كم كان قاسيا ذلك المشهد المقرف وهميوهمونني بالغرق…. الماء والغرق والشيفون اللعين الصابون الماء الذي ابتلعته حتىكادت نفسي أن تزهق……
الماء الذ ي اصبح عدوااا….
في لحظات الإختناق… الإستنشاق والإستنثار… عذاب عذاب وألم لايطاق… أما جلسات الكهرباء فجحيم وعذاب وغصة من الألم العميق…. يطول بي الشرودوأتغلغل فيه كما يتغلغل الطائر ا لمحلَق في غمار السماءوكبدها…
ولا يزال بصري عالقا في اتجاه الطيفوالتيه والسراب.
هلوسات مجنونة وألم كالجرحالنازف بالدم والقيء والصديد … وأعجب ما أعجب من أمر نفسي أنني في رحلة الشقاءداخل مربع العتمة لم أكن أبكي قط من القهر كنت أشرد فقط على أي شيء له ذكرى فيأعماقي وربما أشرد على غير شيء… بدأت الأطياف تراودني في اليقظة خُيَل لي يومهاأن عارضا من عوارض الجنون قد لحق بي وخالط عقلي… كان خوفي يشتد واضطرابي يزدادذلك اليوم جاء كبير الجلاوزة في العتمة كل الجلاوزة حجاج هكذا يزعمون
ربت الحاج على كتفي قال بكلمات مسموعة إصطنعفيها الأسف
أقولها وأنا أشعر بالأسف والأسىيؤسفني جدا أن تكون هاته نهايتك….
لقد إخترتالجهة الخاسرة نحن الأقوى نحن الرابحون دائما فيالرهان
المخزنيدو……طويلة……….
ثم مضى واختفى كأن الأرضإبتلعته
ذلك الطيف الآخر زارني ذلك المساء رأيت خالدرحمه الله خلود الإسلام وعزته
ثم إختفى .. نفضت عن كاهلي غبارالألم وإستعنت بالركن الشديد… يومها بكيت في محراب الطهر والصلاة بكيت كثيرا حتىتطهرت أعماقي من الأعماق ثم لذت للنوم…
رأيتُأطياف …. الأطياف …. كلهم كانوا معي يمدون إلي أيديهم يبتسمون وجوههم مشرقةناظرة مستبشرة…وعندما فتحت عيني طالعت وجوه الجلادين عليها قترة… و ذلة لاتخطؤها العين…
قال كبيرهم..سترحلاليوم
أشرف علينا جلاَد آخر وهو يبتسم بخبثوسخرية
الحمد لله علىسلامتك……
كانت آخر الكلمات التي ودَعونابها بعد رحلة من العذابات وشهور مضنية في الجحيم….
أرسلت زفراتي من جديد كان الماء يتدفق حتى غمرالمكان…
أتممت وضوئي وقد جثمت الذكريات فوقصدري…
قلت وأناأغمغم
ستنفجر لمة الظلام من جبينالفجر
أليس الصبحبقريب…..
بعد الصلاة إستلقيت في المكان القصيمن الزنزانة لأخلد للنوم وقد أقلقت الأطياف مضجعي.. قبل أن أرحل إلى عالم الغيبوالشهادة سمعت هاتفا يردد في أعماقي..” لا خير في حياة يحياها المرء بغير قلبومبدأ