الذي عليه منهج أهل النقد المتقدمين نكارة الحديث الوارد في هذه الليلة، وقد نشرت ملخصاً عن ذلك إلا أن بعض من يسير على منهج المتأخرين في تصحيح الروايات الواهية بالشواهد الباطلة قد اعترضوا على ذلك دون تقديم أي أدلة على معارضتهم إلا أن بعض المتأخرين والمعاصرين قد صححوا هذا الحديث!
فقال الدكتور بأن هذا من أهل مكة يدلّ على أن ما فعلوه ليس ببدعة! وأن لهذا أصل!
وهذا احتجاج عجيب!
كيف نحتج بفعل العوام في أمور الدين؟!
فهل نقل الفاكهي شيئاً عن علماء مكة في هذا؟
والعوام في كل زمن يفعلون البدع، فهل أفعالهم حجة؟!
وكونهم كانوا يفعلون ذلك في المسجد الحرام فهذا لا يعني أن فعلهم ذلك ليس ببدعة!
وأحياناً أهل العلم لا يستطيعون مواجهة عوام الناس في كثير مما يفعلونه، والحوادث في التاريخ كثيرة على ذلك.
وإن كان الدكتور يحتج بهذا علينا فلينظر إلى ما ذكره ابن وضاح القرطبي (ت286هـ) في كتابه “البدع” في “مَا جَاءَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ” قال: حدثنا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حدثنا ابنُ وَهْبٍ، قَالَ: حدثنا عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: «لَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ مَشْيَخَتِنَا وَلَا فُقَهَائِنَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَمْ نُدْرِكْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَذْكُرُ حَدِيثَ مَكْحُولٍ، وَلَا يَرَى لَهَا فَضْلًا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ اللَّيَالِي».
فهذا عَبْدالرحمن بن زَيْد بن أسلم القرشي، العدوي، المدني، مولى عُمَر بن الخطاب (ت 182هـ) يقول بأن علماء المدينة وفقهائها لم يلتفتوا إلى هذه الليلة، ولم يذكروا حديث مكحول الذي هو أساس هذه البدعة!
ورواه عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أَبِيه، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل، عَن أَيُّوب قَالَ: قَالَ ابن أبي مليكَة: “بَلغنِي أَن زِيَاد النميري هَذَا يَقُول: إِن لَيْلَة من شعْبَان أفضل من كَذَا وَكَذَا! وَلَو أَنه عِنْدِي لضَرَبْت رَأسه هُنَا بِهَذِهِ الْخَشَبَة”.
وابنِ أَبِي مُلَيْكَةَ زُهَيْرِ بنِ عَبْدِاللهِ، الإِمَامُ، الحُجَّةُ، الحَافِظُ، القَاضِي المَكِّيُّ (ت 117هـ) يُنكر على زياد النميري – وهو تابعي بصري – قوله هذا في ليلة النصف من شعبان، وابن أبي مليكة مكيّ = وهذا يعني أن ما ذكره الفاكهي عن أهل مكة في إحياء تلك الليلة حصل متأخراً لا في زمن التابعين.
واحتج ذلك الدكتور عليّ بقول البزار بعد أن روى الحديث في “مسنده” (1/206) قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ قَالَ: حدثنا عَبْدُاللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: حدثنا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُالْمَلِكِ بنُ عَبْدِالْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبِ بنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَمِّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ لِأَخِيهِ».
فجعل الدكتور هذا القول من البزار من بديع كلامه! وذلك أنه إن كان في إسناده شيء فجلالة أبي بكر تحسنه!
وهذا عجيب!
كيف يحكم البزار على راويه بالجهالة ثم يقول هذا!
وهو إنما ذكر هذا الحديث؛ لأن أهل العلم رووه ونقلوه = فالذي يظهر أن البزار لا يحتج به! وقوله: “وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ شَيْءٌ فَجَلَالَةُ أَبِي بَكْرٍ تُحَسِّنُهُ” لا أظنه يقصد به التحسين الذي يحتج به!
ويؤيد ذلك أنه ذكر بعض الأحاديث التي رويت عن أبي بكر في “مسنده” (1/157) وقال: “وَقَدْ رَوَى مُصْعَبُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَوْ عَمِّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ لِأَخِيهِ»”.
قلت: لكن نقل عن أبيه تجهيله في ترجمة “مصعب بن أبي ذئب” (8/306) فإنه قال: “مصعب بن أبي ذئب روى عن القاسم بن محمد… وروى عمرو بن الحارث عن عبدالملك بن عبدالملك عن مصعب بن أبي ذئب هذا. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: لا يعرف منهم إلا القاسم بن محمد – يعني في الإسناد”.
وضعّفه البخاري، فقال في “التاريخ الكبير” (5/424): “عَبْدالملك بن عَبْدالملك عَنْ مصعب بن أَبِي ذئب عَنِ القاسم عَنْ أَبِيه، روى عَنْهُ عَمْرو بْن الحارث، فيهِ نظر، حديثه في أهل المدينة”.
وقال ابن حبان في “المجروحين” (2/136): “عبدالْملك بن عبدالْملك عَن مُصعب بن أبي ذِئْب، يروي عَن الْقَاسِم عَن أَبِيه، روى عَنهُ: عَمْرو بن الْحَارِث. مُنكر الحَدِيث جداً، يروي مَا لا يُتَابع عَلَيْهِ، فَالْأولى فِي أمره ترك مَا انْفَرد بِهِ من الْأَخْبَار”.
وذكره العقيلي في “الضعفاء” ونقل فيه قول البخاري، وساق له هذا الحديث.
وذكره ابن عدي أيضاً في “الضعفاء”، ونقل أيضاً قول البخاري فيه، ثم ساق له هذا الحديث، ثم قال: “وعبدالملك بن عَبد الملك معروف بهذا الحديث، ولا يرويه عنه غير عَمرو بن الحارث، وهو حديث منكر بهذا الإسناد”.
وقال البَرقاني: سمعتُ الدارقُطني يقول: “عبدالملك بن عبدالملك، روى عنه عمرو بن الحارث، مدني، متروك”.
قلت: أمثل هذا المجهول المتروك يُقبل حديثه ويُحسّن!
وكلّ طرق الحديث منكرة! وقد حكم عليه الدارقطني بالاضطراب وعدم الثبوت، وإنما هو من مراسيل الشاميين، ومن هناك انتشرت البدعة حول هذه الليلة.
قال ابن رجب في “لطائف المعارف”: “وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبله منهم وافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم: عطاء، وابن أبي مليكة، ونقله عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقالوا: ذلك كله بدعة”.
ثم قال: “قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام. وروي عن كعب قال: إن الله تعالى يبعث ليلة النصف من شعبان جبريل عليه السلام إلى الجنة فيأمرها أن تتزين ويقول: إن الله تعالى قد أعتق في ليلتك هذه عدد نجوم السماء وعدد أيام الدنيا ولياليها وعدد ورق الشجر وزنة الجبال وعدد الرمال”.
قلت: فابن رجب بيّن أن أصل هذا الحديث خرج من عند عبّاد أهل الشام، وإنما أخذوه من الإسرائيليات، فرووه بالإرسال، ثم رُوي متصلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! وهكذا أصل بعض الأحاديث المنكرة! تكون من الإسرائيليات، ثم يرسلها الرواة، ثم يرفعها بعضهم! ولهذا نجد كل طرق هذا الحديث المرفوعة واهية معلولة!
وقد رُوي هذا الحديث من مراسيل كَثِيْر بن مُرَّةَ أَبي شَجَرَةَ الحَضْرَمِيّ الشّاميّ (توفي ما بين سنة 81 – 90هـ)، وقد سمع خَالِدُ بنُ مَعْدَانَ (ت 103هـ)، وَمَكْحُوْلٌ (ت 113هـ)، وَلُقْمَانُ بنُ عَامِرٍ (توفي ما بين سنة 111 – 120هـ) من أبي شجرة، فالظاهر أنهم إما أخذوه منه، وأرسلوه، أو أخذه بعضهم عن بعض، وأخذه عنهم بعض عُبّاد أهل البصرة.
وأصل الحديث المرسل من الإسرائيليات!
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ في كتاب “النزول”: اخْتُلِفَ عَلَى مَكْحُولٍ فِي إِسْنَادِ هَذَا الحَدِيثِ:
واحتج عليّ الدكتور بأن خمسة من العلماء صححوه، وهم: ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والمنذري، والهيثمي.
ومن المعاصرين: المباركفوري، وأحمد شاكر، والألباني، وشعيب الأرنؤوط!
وهذا عجيب! فابن خزيمة لم يصححه، وإنما رواه في كتاب “التوحيد”، ولم يشترط الصحة فيه.
وابن حبان معروف بتساهله في تصحيح الضعيف! والبيهقي لم يصححه لكن مال إلى أنه له أصلاً! وأما المنذري فمعروف بتساهله أيضاً! وأما الهيثمي فلم يصححه!
وأما من ذكرهم من المعاصرين فكلهم يصححون بالشواهد الواهية!
والعجيب كيف أعرض عن كلام الأئمة المتقدمين وحكم بعضهم بنكارته، والإتيان بتصحيح هؤلاء!
ومن أعجب العجب ما قرأته لدكتور آخر يقول بأن أكثر الأئمة النقاد المتقدمين أعلوه لكن في المقابل قد صححه آخرون! وهؤلاء الذين صححوه هم من ذكرهم الدكتور السابق!
ومن العجيب أيضاً أنه رغم إعلال النقاد المتقدمين له وتصحيح آخرين له فهذا عند الدكتور أن الأئمة لم يتفقوا على ضعفه!
وعلى هذا المنهج فإننا بالكاد نجد حديثاً اتفق الأئمة على ضعفه بهذا الاعتبار! = ولازم هذا الكلام أن الحديث حتى يكون ضعيفاً يجب أن يضعفه المتقدمون والمتأخرون!
فالله المستعان على هذه البلايا!
وقد عدّ الدكتور الأخير ما ورد من تفسير أحمد لمعنى المشاحن قرينة على عدم نكارته!
ففهم الدكتور أن هذا الحديث ليس بمنكر عند أحمد! إذ لو كان كذلك لما فسّر المعنى! وهذا فهم عجيب غريب! فتفسير أحمد أو غيره لمعنى رُوي في حديث ما لا يعني دفع النكارة أو الضعف عنه!
فالإمام أحمد قد روى الحديث في “مسنده”، وهذا لا يعني أنه يصححه، وفي المقابل هو فسّر معنى “المشاحن”، فقد يكون الحديث ضعيفاً وأهل العلم يفسرون معنى بعض ألفاظه.
فالتفسير لا علاقة له بصحة الحديث أو ضعفه أو أنه قرينة على عدم نكارته!
والخلاصة أن ما جاء في ليلة النصف من شعبان لا يصح، وتخصيصها بصلاة أو قيام أو دعاء ونحو ذلك من البدع، ولا يُلتفت إلى من صحح أحاديثها أو حسّنها، وقد علمت أن أصل هذه الأحاديث من الإسرائيليات، ثم أرسلها بعض أهل الزهد والعبادة في الشام، ثم رُفعت للنبي صلى الله عليه وسلم! وهي منكرة واهية.