فهي إلى زوال ، وإن طال المقام ، وما مقامها بطويل ..
إن هي إلا أنفاس معدودة في أماكن محدودة ، يحصرها عمر مقدر ، وما يعمر من معمر ـ فيها ـ إلا كعابر سبيل …
عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: أخذ رسول الله r بمنكبي ؛ فقال: ” كنْ في الدنيا كأنَّك غريبٌ ، أوْ عَابِرُ سَبيلٍ ” ، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت ؛ فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك” . (1) br>
وكان قدوتنا نبينا r يقول: ” مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها ” (2) .
ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنه قال:
اعبُروها ولا تعمروها ، وروي عنه أنه قال: من ذا الذي يبني على موج البحر داراً ، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً . (3)
فأنت ـ في هذه الدنيا ـ غريب راحل ، أو عابر مجتاز ..
ذلك مهما حزت من زينتها ومتاعها ، ومهما رتعت في لهوها وشهواتها .. وهي ـ على كلٍ ـ إلى زوال …
ومن ثم كان متاعها غروراً ، وزخرفها زوراً .. ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران: من الآية185) .
لأنه لا استقرار له ، ولا دوام معه ، ولا أمان من سلبه ..
وهو مع ذلك قليل عارض ، بلغ ما بلغ ، إذا ما قيس بالآخرة ، كما قال تعالى: ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى )(النساء: من الآية77) ، وقال: ( فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)(التوبة: من الآية38) ، وقال: ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)(الرعد: من الآية26) .
أحـــــــلامُ نـــومٍ أو كظــــل زائــــــلٍ
إن اللبيــــبَ بمثلهـــــــا لا يـُـخــــــدع
ولذلك فإن الله ـ جل وعلا ـ يحذر عباده فتنتها ؛ فيقول: ( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان: من الآية33) .
ويذكرهم وعده الحق الذي انفضوا عن مقتضاه وانصرفوا عن موجباته بسبب الدنيا وتغريرها وفتنتها وتزويرها ؛ فيقول: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (فاطر:5) .
وما للناس يفتنون بها ويغترون ببهرجها ، وما هي ـ في أحسن أحوالها ـ إلا ستة أشياء .. ـ كما قال علي رضي الله عنه ـ : مطعوم ، ومشروب ، وملبوس ، ومركوب ، ومنكوح ومشموم .. فأشرف المطعوم: العسل ، وهو مذقة ذباب ، وأشرف المشروبات: الماء ، ويستوي فيه البر والفاجر (قلت: والحيوان) ، وأشرف الملبوسات: الحرير ، وهو نسج دودة ، وأشرف المركوبات: الفرس ، وعليه يقتل الرجال ، وأشرف المنكوحات: المرأة ، وهي مبال في مبال ، وإن المرأة لتزين أحسن شيء منها ، ويراد أقبح شيء منها ، وأشرف المشمومات: المسك ، وهو دم . (4)
فأي عاقل ذاك الذي يرضى الأولى دون الآخرة ، أو يؤثر دار الزوال على دار القرار ؟
وإنك ـ يا عبد الله ـ لو شئتهما معاً ( الدنيا والآخرة ) لحصلا لك كلاهما في حسبة واحدة .. ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) (النساء: من الآية134) .
فكيف إذا عرفت أن متاع الدنيا لا يحصل على التحقيق إلا في ظل سعيك للآخرة ؟ قال تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) .
فأنت غريب ، في دار مؤقتة ، هي دون الدار التي ينبغي أن يكون إليها الرحيل ، والتي ينبغي أن تحث إليها المسير ..
لما خلق آدم أسكن هو وزوجته الجنة ، ثم أهبطا منها ، ووعدا الرجوع إليها ، وصالحُ ذريتهما ، فالمؤمن أبداً يحن إلى وطنه الأول ، وحب الوطن من الإيمان ، وكما قيل:
كم من منزل في الأرض يألفـه الفتى
وحنينـــــــــه دومــــــــــاً لأول منــزل
ولبعض الصالحين: (5)
فحــــي على جنـــــات عدن فإنـــــها
منــــــــازلك الأولى وفيها المخيــــــم
ولكنـــنـــــــا سبي العدو فهل تــرى
نعـــــــود إلى أوطاننــــــــا ونســـــلم
وقد زعمــــــوا أن الغريــب إذا نأى
وشـــــطت به أوطـــــانه فهو مغـرم
وأيُّ اغـــــتراب فوق غربتنــا التي
أضحت الأعـــــــــــداء فينــــــا تحكم
ألا فأسرع الخطى إلى جنات عرضها السموات والأرض ، أسرع .. فإنها قد شرعت أبوابها مفتحة للراغبين ، كأن كل باب منها يحثك على طريق من الخير موصلة إليها ..
منتهية بك إلى مكانك فيها ..
كما قال رسول الله r ـ من حديث طويل ـ : ” .. .. فمن كان من أهل الصلاة ؛ دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد ؛ دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام ؛ دُعي من باب الريان ، ومن كان من أهل الصدقة ؛ دعي من باب الصدقة ” قال أبو بكر: هل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها ؟ قال: ” نعم ، وأرجو أن تكون منهم ” (6)
فبحسب سعيك هنا ؛ تكون مكانتك هناك ..
لا دار للمــــــــــــرء بعد الموت يسكنها
إلا التي كان قبـــــل المــــوت بانيهـــــا
فإن بنـــــــاها بخير طــــاب مســــــكنه
وإن بنـــــــاها بشر خــــاب بانيهـــــــــا
اللهم اجعل بناءنا خيراً وصلاحاً ، واكتب لنا به رضاً وفلاحاً
اللهم آمين
وصلى الله تعالى وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم