في انتظار الاعتقال ليلاً”
عن ظلم يزحف إلى الإيغور بهدوء
نجا الشاعر طاهر حاموت إزغيل من اضطهاد السلطات الصينية للأقلية المسلمة فرأى في استعادة الذكريات المؤلمة مسؤولية
أحمد شافعي
ربما لم نصادف من قبل كاتباً يقول عن كتاب له إنه ما كان ينبغي أن يكتب، غير أن ذلك لا يبدو غريباً على شاعر ينتمي إلى أقلية الـ”إيغور” المسلمة المضطهدة في الصين، وهو الشاعر طاهر حاموت إزغيل الذي وصفته الصحافية إيميلي فينغ في مقدم حوارها معه لـ”إذاعة أميركا الوطنية” (1 أغسطس/ آب الجاري) بأنه “من أعظم شعراء الـ’إيغور‘ الأحياء”.
ويقول إزغيل إن “كتاباً كهذا في الحقيقة ما كان ينبغي أن يكتب لأن أحداثاً كهذه ما كان ينبغي أن تحدث، لكن أما وأن القمع والظلم قد وقعا فقد كانت مسؤولية عليّ أن أسجل ما جرى”.
وهذا ما سيجعلنا دائماً بحاجة إلى الشعراء، لأن يسمعونا ما لا تسعف اللغة الأطفال فيسمعوننا إياه، أن نجد بأصواتهم وسط الحسابات السياسية والاعتبارات الجيوسياسية وأحاديث الدبلوماسيين الجوفاء وصفقات التنازلات والمساومات الوضيعة من يقول ببساطة ’ما كان ينبغي أصلاً أن يحدث القمع أو يقع الظلم‘”.
كتب دان كين (نيويورك تايمز ـ 2 أغسطس 2023) أنه “حينما اجتاحت الاعتقالات الجماعية مقاطعة شينجيانغ الصينية عام 2017 كان طاهر حاموت إزغيل أحد كتاب الـ “إيغور” الصاعدين من أبناء جيله، وهو الآن مستقر بأمان مع أسرته في واشنطن وسط قليل ممن نجحوا في الفرار”، فلا عجب أن “تحفل سيرة إزغيل الناصعة والمرعبة بثناءات موجعة على أصدقاء من الكتاب اختفوا تماماً في المعسكرات، ويتكرر فيها الرجوع للحظات من الصمت المخيف”.
صدرت أخيراً هذه السيرة مترجمة إلى الإنجليزية بقلم جوشوا فريمان وبعنوان “في انتظار الاعتقال ليلاً: مذكرات شاعر من الـ”إيغور” عن الإبادة الجماعية في الصين” عن دار بنغوين في أكثر قليلاً من 250 صفحة، وقد نشرت “نيويورك تايمز” (28 يوليو/ تموز 2023) طرفاً سخياً منها يبدأ بداية أليق بروايات الرعب منها بسير الشعراء، “منذ قرابة سبع سنوات بدأ المحيطون بي يختفون”.
جديرة هذه الكلمات بالرسوخ في عقول القراء أو قراء الـ “إيغور” في الأقل، رسوخ مفتتح مسخ كافكا أو غريب كامو أو غيرهما من الافتتاحيات الصادمة الباقية في ذاكرات قراء الأدب في العالم.
ويمضي إزغيل قائلاً “بدأ الأمر في بطء وهدوء، وفجأة لم يعد بالإمكان العثور في أي مكان على محرري كتاب أدب مدرسي شهير، وصديق لي غادر بيته إلى عمله ولم يرجع بعدها قط”.
وتابع، “أنا وأسرتي من الـ ’إيغور‘ كنا نعيش آنذاك في أورومتشي عاصمة منطقة شينجيانغ الإيغورية المتمتعة بالحكم الذاتي شمال غربي الصين، وكان الوضع السياسي في منطقتنا ينحو تدريجياً نحو التوتر منذ سنوات عدة، لكننا على رغم ذلك كنا نرجو ونفترض أن تكون تلك الاختفاءات حوادث فردية، غير أن نطاق الأحداث سرعان ما بات ينحو إلى وضوح مريع”.
الشاعر طاهر حاموت إزغيل (فيسبوك)
مسؤولية أليمة
في عام 2015 كان إزغيل عضواً نشطا في جماعة صغيرة من الشعراء الـ “إيغور” في مقاطعة شينجيانغ وكان القمع الحكومي لقومه قد بدأ يشتد، وفيما كان يعمل على مسلسل تلفزيوني، فهو أيضاً مخرج، طالبته السلطات بعدم استعمال عبارتي “السلام عليكم” وردها “عليكم السلام” في أي حوار بأي مشهد، وتلك كانت بداية محنة إزغيل.
يبرز دان كين في صدر عرضه للكتاب صرخة مهيمنة عليه، “في قسم شرطة الحي تنطلق صرخة رجل يتعذب فيسارع شرطي إلى إغلاق باب القبو، وتلك الصرخة المكتومة التي يسمعها إزغيل وهو في انتظار تعبئة استمارة من الاستمارات التي لا نهاية لها تسيطر على الكتاب كله، فلقد بعثت الصين على مدى سنوات من حملتها القمعية مليوناً أو أكثر من مسلمي الـ ’إيغور‘ وغيرهم إلى شبكة واسعة من مراكز إعادة التعليم مع إخضاعهم للإخصاء والسخرة والتعذيب، وبعيداً من هذه المراكز قام مسؤولون بهدم المساجد والمقابر بالجرافات”.
وتؤكد إيميلي فينج في حوارها مع إزغيل أهمية التذكر، وتؤكد أيضاً إيلام الذكريات لمن يتذكرون، فالأمر على حد تعبيرها “مسؤولية أليمة”، ويعقب إزغيل قائلاً من خلال مترجم إلى الإنجليزية، “أنا نفسي لا يروق لي أن أعيد قراءة كتابي، فكل مرة أعيد فيها قراءة جزء منه أشعر وكأنني أخوض الأحداث من جديد”. ومع ذلك رأى إزغيل أنه مسؤول عن التذكر والكتابة عما جرى، وهذه المسؤولية استشعرها لأنه تحرر بخروجه من الصين وقدرته على الجهر بما يجري على أهله الذين لم يحالفهم مثل حظه، فكأنه يدفع ثمن حريته أن يتعذب باستحضار آلامهم، لكن “كيف لشاعر واحد نجا أن يحكي قصة محو ثقافة كاملة؟”
هكذا يتساءل دان كين ويجيب أن “إزغيل بالطبع ليس الكاتب الوحيد من الـ ’إيغور‘ الذي تعرض لهذه المسألة، فهناك جلبهار هايتواجي التي تمضي بنا إلى ما وراء الأسوار في كتابها ]كيف نجوت من معسكر إعادة التعليم الصيني[ وهناك سيرتان حديثتان للناشطين المنفيين غولتشيرا خوجه ونوري تيركل، وكلتاهما تمزج القصص الشخصية بسرد أعم لكفاح الـ ’إيغور‘ الطويل، لكن إزغيل الذي ينشر القصائد والمقالات النقدية منذ وقت طويل وكان قد نشر مجموعته الشعرية الأولى عند بدء الحملة القمعية الصينية ينحو منحى آخر”.
ويتابع، “كان بوسعه أن يقدم صورة كبيرة إن شاء، بخاصة أنه في شبابه كتب أول دراسة موسعة بالإيغورية للأدب الحداثي الغربي، وكان بوسعه أيضاً أن يعتمد على ثلاث سنوات قضاها معتقلاً في معسكر تشغيل خلال تسعينيات القرن الماضي، لكن تلك الأيام السوداء لا يكاد يرد لها ذكر هنا، فالشاعر يؤثر على ذلك أن يختفي هو ليمزج بلغة السرد قصصاً معاصرة عن الأسرة والأصدقاء وحتى ضباط الشرطة الذين يتحرشون به، في سرد مباشر لانهيار المجتمع الـ “إيغوري”.
وأضاف، “تبدأ القصة عام 2009 بتحقيق من الشرطة، وهو أمر روتيني تماماً بالنسبة إلى أبناء الـ ’إيغور‘ ويتشبث إزغيل بالهدوء فليس من المفيد في هذه المواقف من واقع تجربتي أن يصدر عن المرء رد فعل مغال في قوته، لكنه سرعان ما يقوم بتسليم كلمات المرور لبريده الإلكتروني وحساباته على مواقع التواصل، ومن هذه النقطة تبدأ الأحداث.
يأمر الرقباء إزغيل بمحو تحية “السلام عليكم” من سيناريوهات أفلامه، وسرعان ما يتعلم الـ “إيغور” جميعاً أن يغفلوا هذه التحية في العلن، ويتم حظر الإذاعات واتحادات الألعاب الرياضية وحتى الأمور العادية من قبيل المباريات، وكل ما يمت للدين بصلة يتعرض إلى المنع، ويتناوب جيران إزغيل عند منتصف الليل رمي المصاحف في بالوعات المجاري، بينما ينشر آخرون إعلانات في الصحف عن تغيير أسمائهم”.
يقول دان كين، “لقد تعلمت ألا أثق كثيراً في عبارة ’سمعنا‘ التي يستعملها إزغيل لتقديم كل منعطف جديد في سرده، كما أن بعض النمائم كان مشفراً، فالإرسال إلى المعسكرات هو (الدراسة) وحملة القمع واسعة النطاق هي (العاصفة)، وثمة همسات أخرى بالغة الدقة، ومن ذلك ما كان عند استدعاء إزغيل وزوجته لتوقيع ما فهم الاثنان أنها الأوراق النهائية قبل إرسالهما إلى المعسكر ]كنت قد سمعت من قبل عن هذه الاستمارة[، ففيما يقود سيارته عائداً للبيت ذات مساء من يونيو (حزيران) 2017، تقع عيناه على شاحنتين محملتين بجنود من الشرطة العسكرية يغيرون على حي للـ “إيغور” وبرفقتهم مسؤولو لجنة الحي وفي أيديهم بطاقات زرقاء”.
يكتب إزغيل، “ذات مساء وأنا أسوق عائداً من العمل في يونيو 2017 رأيت شيئاً من الشباك جعلني أبطئ السيارة، على حافة حي إيغوري كان أفراد من الشرطة العسكرية مسلحين بأسلحة آلية ينزلون من شاحنات نقل، وعدد من الضباط يصرخون بأوامر ويقسمون الجنود إلى مجموعات، وإلى جوارهم وقف كوادر لجان الحي وفي أيديهم بطاقاتهم الزرقاء، وقد صاح شخص ما بأمر فدهم الجنود أزقة الحي ولم أستطع أن أنتزع عيني عما يجري، فلم أكن رأيت مثل المشهد الجاري أمام عيني على بعد عشرات الأمتار إلا في أفلام السينما، وفكرت في المصير الذي ينتظر الرجال والنساء المقيمين في تلك الأزقة، وفي حين أنني على مدى الأشهر السابقة كنت سمعت عن اعتقال أعداد لا حصر لها من الـ ’إيغور‘ فقد بدا الأمر دائماً بعيداً مني ولا علاقة لي به، أما في تلك اللحظة فقد علمت ألا شيء من ذلك كله بعيد حقاً من أي واحد منا”.
ومع تدهور الوضع وازدياد الأعداء المختفين من الأصدقاء والجيران أدرك إزغيل وزوجته أن السبيل الوحيد لحماية بناتهما من الخوف والمعاناة هو الانتقال إلى الولايات المتحدة، فـ “حتى لو تخرجت بناتنا في أرقى جامعات الصين”، مثلما يكتب إزغيل، “فسيواجهن بانتمائهن إلى الـ ’إيغور‘ تمييزاً دائماً في عملهن وحياتهن اليومية”.
غير أن الرحيل عن الصين لم يكن بالأمر اليسير لوجستياً أو عاطفياً، وتقول فينغ إنه “على رغم كل المصاعب تغلب إزغيل وأسرته على حظر إصدار جوازات السفر للـ “إيغور” وسافروا إلى الولايات المتحدة بذريعة البحث عن علاج في عام 2017، وكانت تلك فرصة لبدء حياة جديدة ثمنها الرحيل عن الوطن والأهل.
ولما حطت أقدامهم أخيراً على الأرض الأميركية يتذكر إزغيل أنه “حتى عندما أصبح العالم الجديد أمام أعيننا ظلت أفكاري تهيم دائماً راجعة للوطن”، ويقول في حواره مع إذاعة أميركا الوطنية “صعب علي كثيراً أن أكتب الشعر أول ما جئت إلى الولايات المتحدة“.
ويقول، “من أسف أن كثيراً من أقرب الأصدقاء لم يحصلوا على مثل هذه الفرصة، وبكتابتي هذا الكتاب بدرجة ما شعرت بذلك، فحاولت أن أنطق بأصواتهم
اعتقال الأصدقاء
يكتب دان كين أن “للتجارب الذاتية والإشاعات والنمائم حدودها السردية، فعلى من يريدون الغوص في احتجاجات الـ ’إيغور‘ والهان عام 2009 مثلاً أن يبحثوا عن ذلك في أماكن أخرى”، ثم إنه يستدرك قائلاً “إننا لا ننظر إلى الشعراء من أمثال إزغيل بحثاً عن التاريخ وإنما نقرأ مثل هذا الكتاب طلباً للحظات الحزن والجمال الإنسانية كثيرة”.
ويضيف، “فيما يحتدم القمع بالخارج يمضي بنا إزغيل إلى داخل متجر في أوروموتشي معبأ بالدخان يلتقي فيه أصدقاءه من الكتاب في الأمسيات، ولا يكاد المتجر يعمل في بيع أو شراء، وألماس صاحب المتجر يترجم برتراند راسل فقط ليشغل نفسه، بينما على إحدى ذراعيه الشارة الحمراء التي تلزم الشرطة جميع التجار بارتدائها، وهناك إيلي بائع الكتب بشعر ذيل الحصان الذي نفدت لديه الكتب المؤلفة بالـ “إيغورية”، وهناك الروائي بيرهات طورسن المدخن الشره الذي ألغت الحكومة جواز سفره إلى الأبد، ويشبه الدول الأجنبية بـ “امرأة أحبها ولا أستطيع الزواج منها”.
وهناك إزغيل نفسه الذي يعمل على خططه الخاصة للرحيل ويكتم أمرها عن الجميع، لأن كل من يعلم بها قد يتعرض لخطر جسيم.
وتابع، “بعد إجراءات بيروقراطية طويلة تفرج السلطات عن جوازات سفر أسرة إزغيل المصادرة، فيتسنى لهم الفرار إلى واشنطن، والآن أغلق متجر أوموروتش أبوابه وألماس وإيلي معتقلان وتم إرسالهما إلى الدراسة”.
يقول إزغيل، “لم يمض على رحيلنا إلا أشهر قليلة حتى علمت باعتقال صديقي العزيز بيرهات طورسن، فقد كنت وبيرهات التقينا في الكلية، فجمع بيننا الغرام بالأدب وتقاربنا خلال أعوام ما بعد الجامعة بإقامتنا في أورومتشي، حيث واصل بيرهات مسيرته الناجحة في كتابة الرواية والشعر والنقد، وهو شخص أصيل لا ينفر من التحديات المعقولة، وتجمع أعماله الأدبية بين العنف والسخرية السوداء، وطالما كان الأدب كل شيء في حياته فبيرهات مثلما قال أحد أصحابنا المسيسين قادر على أن يجعل من كل شيء أدباً، وقد مرّ عام كامل قبل أن أعرف مصير بيرهات، إذ حكم عليه بالسجن 16 سنة، ومرت سنتان أخريان قبل أن يتمكن صديق صحافي من جلب معلومات إضافية. كان بيرهات مسجوناً في مدينته آتوش، وتمكن الصحافي من معرفة رقم زنزانة بيرهات وهو (0605). رقم لا معنى له، لكنه الآن رقم لن أنساه ما حييت، فبيرهات الذي كان يعثر في أي شيء على الجانب الضاحك المرير بات الآن ضحية ظلم مروع شبيه أشد الشبه بالعبثيات التي كان ينقب عنها أدبه”.
ويكتب إزغيل، “منذ وصولي إلى أميركا أشعر بحاجة ملحة إلى الحديث عما جرى في وطني، وليس ذلك فقط بغية أن يجد وطني مزيداً من الدعم، لكن لكي يتعلم العالم أيضاً من مأساتنا، والمهم أن نفهم أن الظلم البيّن لا يظهر ببساطة بين عشية وضحاها، لكنه يزحف إليكم في هدوء وقد لا تنتبهون إليه، وقد لا ترغبون فيه لكنه عدوى تنتشر”.
العنوان: Waiting to Be Arrested at Night: A Uyghur Poet”s Memoir of China”s Genocide
تأليف: Tahir Hamut Izgil
الناشر: Penguin