تلقيت ردودا طيبة على المقال المنشور الثلاثاء الماضى فى هذه الزاوية “الدين عند نجيب محفوظ”، والفضل فى ذلك يرجع إلى الأستاذ الدكتور حلمى محمد القاعود، الروائى والناقد الفذ، الذى أهدانى كتابه “متنبى الرواية نجيب محفوظ: آليات التشكيل الفنى فى رواياته” بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لوفاة أديبنا الأشهر، وقد وجدت فى هذا الكتاب فتوحات غير مسبوقة، تتعرض بموضوعية وفهم عميق للجوانب الدينية فى شخصية أديب نوبل، لذلك أحببت أن يطلع عليها قراء “عقيدتى” الأكارم، فراق لهم من الأمر ما راق لى، وطلبوا إلقاء المزيد من الضوء على هذه الجوانب.
ولست أكشف سرا إذا قلت إن معظم أصدقائنا القراء تعجبوا من تأكيد المقال على ارتباط نجيب محفوظ بالدين، ولولا الأدلة الساطعة لاعتبروه نوعا من المجاملة، لأن اقتناعا ترسخ لديهم من سنين بأن محفوظ كان بعيدا عن الدين، إن لم يكن ضده، بسبب الأفلام التى أخذت عن رواياته، وأيضا بسبب ـ وهذا هو الأهم ـ ماروجه بعض النقاد الماركسيين والملحدين الذين لايعنيهم أدب محفوظ ولا معطيات كتاباته، وإنما يعنيهم جر الرجل إلى خندقهم، خندق الطعن فى الإسلام وتشويهه، من أجل الشهرة والمناصب والجوائز الدولية والتمويل الأجنبى، وهؤلاء يصفهم د.القاعود فى كتابه بـ (خصوم الحقيقة، الموالين للثقافة الغربية والعبرية).
لم يحتمل هؤلاء النقاد أن يصدر بيان من الأزهر ضد رواية “أولاد حارتنا” التى أثارت جدلا واسعا، أو أن يكتب بعض العلماء والنقاد رأيا فى الرواية ينتصر للدين وللأنبياء الذين رمز إليهم محفوظ برموز فجة لا تخطئها العين، فوجدوها فرصة للشغب على الإسلام نفسه، وعلى الأزهر، وعلى كل من اعترض على الرواية، ودافعوا عن محفوظ دفاعا مستميتا، رغم أنهم لم يلتفتوا إليه وإلى أدبه من قبل، ولا يهمهم أمره فى شيء، وإنما هدفهم إخراج محفوظ بهذه الرواية من دائرة الإسلام، والإيحاء أنه ابن معتقداتهم المنحرفة.
وقد لاحظ د. القاعود أن اليساريين عموما لم يكتبوا حول الروايات التى عالجت مسألة التعذيب ـ مثل الكرنك ـ أو التى انحازت إلى الإسلام، وركزوا على “أولاد حارتنا”، مع أنها من حيث الفن ضعيفة بالقياس إلى بقية الروايات.
وعندما حاول شاب جاهل اغتيال محفوظ فى أكتوبر 1995، استغل الماركسيون الحادث، ونسبوه إلى الإسلام والمسلمين عامة، رغم أن علماء الإسلام ورموزه استنكروا الجريمة، وقاموا بزيارة ودية لمحفوظ فى المستشفى، وأخبرنى زميلنا الكاتب الصحفى محمد عبدالقدوس، الذى كان مرافقا للشيخين الشعراوى والغزالى فى هذه الزيارة، أن محفوظ استغرب احتفاء الماركسيين بـ ” أولاد حارتنا “، وإصرارهم على استثمارها لأسباب أيديولوجية، مؤكدا استعداده للتنازل عنها نهائيا.
وقد خصص د. القاعود فى كتابه فصلا ماتعا عن “محفوظ وخصوم الحقيقة” أوضح فيه افتراءات هؤلاء الماركسيين على أديبنا الكبير، وكيف استغلوا طيبته، وأنه رجل ودود مجامل لايحرج أحدا، وكيف حاولوا التكسب من ورائه وتشويهه، ووجدوا فى مسألة إيمانه وصلاته وإقدامه على بناء مسجد العزيزية خيانة لهم، وتطرفا كان يخبئه، وكأنهم تعاقدوا معه على عداوة الإسلام.
وكشف د. القاعود إن ماتيتاهو بيليد أحد كبار ضباط الاحتياط فى جيش الاحتلال الإسرائيلى المهتمين بالبحث العلمى فى أدبيات المنطقة قام بدراسة لأدب محفوظ اهتدى فيها إلى أن رواياته تعبر عن قيم إسلامية متجذرة، وعن مجتمع إسلامي، ويعنى ذلك فى المفهوم الصهيونى خطرا كبيرا على كيان الاحتلال، فالإسلام يمثل عنصر المقاومة الحقيقى المؤثر ضد دولتهم، أما الاتجاهات الماركسية والعلمانية فهى هشة وصورية وزائفة، وذلك رغم أن محفوظ لم يشر فى رواياته وقصصه إلى العدو الصهيونى بكلمة، ولم يعالج القضية الفلسطينية أو احتلال الأرض العربية والمقدسات، لكن الباحث، مثل كل الصهاينة، يرون فى التعبير عن القيمة الإسلامية مؤشرا على وجود عنصر يهدد كيانهم الإرهابى.
وفى مرحلة من مراحل تطوره الفكرى والثقافى تصور محفوظ أن بلادنا العربية تحتاج إلى نظام يعتمد على ديمقراطية الغرب، والعدالة الاجتماعية فى النظام الشيوعى، والبناء الروحى فى صوفية الإسلام، وعالج هذه الرؤية فى رواية ” قلب الليل ” عام 1975، وكان واضحا أن هذا التصور يدل على قصور فى فهمه لشمولية التشريع الإسلامى، الذى وضع أسسا إنسانية لتوفير العدالة الاجتماعية وتحقيق الشورى وواقعية الإيمان وبساطته، لكن فى كل الأحوال لم يكن الرجل معاديا للإسلام ولا مشهرا به كما يفعل الماركسيون.
وفى روايته “رحلة ابن فطومة” (1983) عرض محفوظ لأبرز النظم السياسية فى العالم، ومعظمها يقوم على الاستبداد والقهر والظلم، لكنه كان حريصا حين يرى حالة إيجابية أو فكرة إنسانية راقية أن يتساءل على لسان ابن فطومة الأزهرى الذى حفظ القرآن واستوعب التراث : أليس هذا موجودا فى ديننا؟
وينقل د. القاعود ما كتبه أديبنا الكبير محمد جبريل فى جريدة ” المساء”عن “الذين أحاطوا بنجيب محفوظ، خاصة بعد فوزه بجائزة نوبل، وسلبوه الراحة والخصوصية، وادعوا وصلا به، فأساءوا إليه، وكانوا شياطين الإنس – حسب تعبير ابنتي محفوظ – الذين جندوا هذه العلاقة المزعومة من أجل مصالحهم”.
ويری جبريل أن أدعياء القرب والوصل لم يلتقهم نجيب محفوظ، ولا طرأوا علي حياته إلا بعد أن أمسى نورا يجتذب الفراشات الضالة، فلم يرحموا شيخوخة الرجل ولا مكانته، وجعلوا منه موضعاً للابتزاز وتحقيق الذات، علي حساب قيمة عالمية عالية.
وقد أكدت ابنتا أديب نوبل فى أكثر من حوار صحفى وإعلامى أن والدهما تعرض لحملات تشويه واسعة، خاصة بعد وفاته، من قبل أشخاص ساعدهم كثيرا، وتسامح معهم، لكنهم أشاعوا عنه أكاذيب وادعاءات حتى يظهروا أنهم المتحدث الوحيد باسمه، فكانوا يتلاعبون بالألفاظ لإظهار الوالد بصفات سيئة.