(أحداث درنة … الغموض وعدم الشفافية)
فضيلة الشيخ
د. الصادق الغرياني مفتي عام ليبيا
كما هو المتوقع من كل حكم شمولي مستبد لا يخشى المحاسبة والعزل، انعدمت الشفافيةُ في التعامل مع الكارثة في درنة، لا يُعلم إلى حد الآن ما الذي ذهب من درنة؛ نصفها، ثلثها، ربعها! لا أحد يعلم! فليست هناك بيانات لها مصداقية صادرة عن إحصائيات واقعية، تُبث لوسائل الإعلام لحظة بلحظة، كما جرت العادة في كل البلاد عند حدوث الكوارث.
كان الذين يتولون الدفن في اليومين الأولين من الكارثة يعلنون عن إحصائيات من دفنوهم ساعة بساعة، لأنهم كانوا يتصرفون بعفوية، قبل أن تدخل قوات حفتر وتستلم زمام الأمور، ومن حين أن دخلت قواته درنة وُضعت وسائل الإعلام تحت السيطرة، فالأخبار حتى حول أعداد من يُقبرون على مدار الساعة صارت شحيحة، وغير موثوق بها.
عدم الشفافية جعل العالم لا يعرف شيئا عن الموتى ولا المفقودين ولا الجرحى ولا المشردين! هذا إذا استثنينا المائة والخمسة والأربعين مصريا، فإنهم سُلموا إلى أهليهم بإحصائيات صادقة وأعداد مضبوطة!
إعلان الأرقام على حقيقتها إن وُجدت يُخشى منه معرفة عِظَم الفضيحة التي يعيشها هذا النظام المستبد، والذي تبين من خلال اليوم الأول والثاني أنه لا يملك الحد الأدنى من المعدات التي يتبين منها اكتشافُ ما حدث، فضلا عن الطواقم وفرق الإنقاذ المدربة التي تكون عادة في المؤسسات العسكرية!
لكن للأسف هذه الفضائح وغيرها، وهي قليل من كثير، لا يُسمح بتناولها ولا بالكلام عنها، وكل القنوات التي سَمحوا لها بدخول درنة لا تنقل إلا ما يشيد بإنجازات (الجيش والقيادة العامة) مجاملة، أو زورا.
ففي غياب الشفافية عليك أن تتوقع ما لا يخطر بالبال، وإلا فكيف يفهم المتابع الأوامر الأمنية التي صدرت ليلة الإعصار لأهل المدينة بحظر التجول وإلزامهم بالبقاء في البيوت وهم يعلمون أن هناك إعصارا قادما، مُحَذَّرا منه مسبقا، معروفا وقتُه.
ما حدث لا تعرف ماذا تسميه، لأنه على خلاف المعهود المعروف بين أمم الأرض!
إلزام الناس بالبقاء في البيوت في هذه الحالة معناه حبسهم صبرا للموت ليلقُوا حتفهم بصورة جماعية، فإن ما حصل بسبب هذه الأوامر، أن الطوفان ابتلع المدينة وأهلها بأملاكهم ومواشيهم وأشجارهم وأحجارهم، وأتى على بنيانهم من قواعدها، فرماهم جميعا في أعماق البحر.
فهل أحد من عبيد حفتر الذين هم اليوم في حكومته أو برلمانه ويقولون إن مهمتهم المحاسبة والمراقبة يستطيع أن يناقش أوامر حظر التجول في درنة وما ترتب عليها؟
لو فعل لاختفى من الوجود، ولا يقدر أحد من زملائه حتى أن يسأل عنه، لأن مثل هذا الكلام (ليس وقته ويثير الفتنة) فإن (القيادة العامة) منشغلة بقضية مصيرية كبرى في الوقت الحاضر، وهي تسليم درنة خالية من الشواغل والسكان للمصريين بعد القضاء على آخر أنفاسها، وكذلك لأن البرلمان ورئيسه منشغل في جلسة طارئة بالعشرة المليارات التي ينتظرونها بفارغ الصبر ليتولوا أمرها بهذه المناسبة.
ليس في توصيف ما حدث مِن كل مَن له مُسْكة من العقل سوى أنه قَتْلٌ عمد لآلاف كثيرة في ساعة واحدة ممن أمر به أو نفذه.
ثم بعد هذا، هل يصدق أحد في ظل هذه القبضة الحديدية المستكبرة الغاشمة، وبرلمان التزوير، أن تحصل التحقيقات التي يتكلم عنها النَّاسُ حول السد الذي انهار، أو عن مَنْع التجول، أو الغزو المصري بالمدرعات، التي سَمّت نفسها فرق إنقاذ!
إن هؤلاء العساكر الذين دخلوا على ليبيا بالمدرعات ليسوا المصريين الذين عرفناهم وعلمونا، وعرفنا فضلهم وخيرهم على ليبيا في غابر الأيام، بل هم عساكرُ سوءٍ يأتمرون بأمر الصهاينة وعملائهم في المنطقة، فهل يصح لأهل ليبيا السكوت بعد هذاعنهم وعما يطلبه عقيلة صالح من المليارات باسم إغاثة أهل درنة أو إعادة إعمارها؟!
تسليم الأموال إليهم جريمة لا تغتفر، ووِزْر لا يُحتمل!
هذا المشهد في درنة، يا أهل ليبيا والمنطقة الشرقية بصفة خاصة، إذا سكتم عنه يمكن أن يتكرر في المرج وبنغازي وطبرق والبيضاء، فتفنى كما أفني أهل درنة، وحينها ستقولون: (لقد أكلنا يوم أكل الثور الأبيض)!
إذا لم ينتفض النَّاس في ليبيا الآن ويقوموا قومة رجل واحد لمعرفة حقيقة ما وقع لأهل درنة، والانتصار لهم، فإنهم سيرون ما هو أشد في قابل الأيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه).
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
7 ربيع الأول 1445 هـ
الموافق 22 – 09 – 2023
#درنة