هذه الحلقات وغيرها إن شاء الله هدية لمقام أبنائي من الثابتين على الطريق، الأوفياء للعهود، على رغم المشاغبات التي يثيرها المفتونون بجمع غنائم أرصفة الطريق.. ، وإلى أحرار المتطلعين للحقيقة والمستفيدين منها مع خالص المودة والتحية.)
=
من خطوات التأسيس الأولى للحركة الإسلامية المغربية
(الحلقة الرابعة)
كان أول ما واجه حركتنا الناشئة ضرورة اختراق المجتمع بمنهاج تربوي حركي تعليمي كفيل بتحقيق ما نرمي إليه وإقامة المشروع الإحيائي الذي نطمح له.
أما الجانب التربوي التعليمي فأوله المتعلق بتوعية الإخوة المعلمين حركيا وجمعويا، إذ لم يكن لكثير منهم تجربة حركية أو جمعوية أو خبرة سياسية بما نحن فيه وما نريده، ثم المتعلق بتسيير الجلسات الأسبوعية الخاصة بالطلبة التي تحت إشرافهم، لذلك قسمنا الإخوة المعلمين إلى خلايا كل منها تضم حوالي سبعة أو ثمانية أفراد، يجتمعون مرة كل أسبوع فيتحاورون حول الدرس الأسبوعي الفكري والحركي الذي كنت أكتبه وأطبعه في بيتي وأتلوه عليهم وأشرح لهم أبعاده، وأجعل بين أيديهم نسخا منه مطبوعة، كي يبلغوه بدورهم إلى الطلبة ويشرحونه لهم، مرفوقا بقراءة في تفسير ابن كثير يختارها ويتلوها عليهم أحدهم، وأخرى في السيرة النبوية يختارها ويتلوها عليهم غيره. ثم يتدارسون في نفس الجلسة كافة الدروس التي يقدمونها والصعوبات التي
يواجهونها في التعامل مع الطلبة الذين يؤوونهم في بيوتهم ويشرفون عليهم تربويا وحركيا، وساعدني على تنظيم هذه الخطوات وضبطها والقيام بها ما سبق لي من الخبرة في التدريس بمدارس المعلمين وبمعهد تكوين مفتشي التعليم بالرباط، وما لديَّ عند الإخوة المعلمين من محبة واحترام وثقة بصفتي مسؤولا عنهم مهنيا ورئيسا للقسم التربوى في نيابة التعليم بالدار البيضاء، وما أعاملهم به في المجال المهني والعلاقات العامة من احترام لهم وتقدير لجهودهم ومودة صادقة لهم.
وأما أمر الجمعيات الرسمية التى تأسست قانونيا فقد كان أول عائق للاستفادة منها هو انعدام الخبرة الجمعوية لدى أعضائها، لذلك عمدت أولا إلى جمعية الشبيبة الإسلامية الخاصة بحي بورنازيل وكان جل أعضائها من شمال المغرب (طنجة والحسيمة وبركان وجبال الريف مطلقا، ولهم من حسن السلوك والجدية والصدق ودماثة الخلق ما تميز به أهل تلك المنطقة، كما كانوا بعد عودتهم إلي الشمال احسن بذور لحركتنا فيه وأكثرها بركة ونماء، ولكنهم كانوا يعيشون كغرباء في الدار البيضاء والجنوب المغربي، لحداثة استقلال شمال المغرب وتوحيده مع جنوبه، فعمدت لتشويقهم إلى معرفة الجزء الجنوبي من وطنهم وتنظيم رحلة سياحية علمية إلى مدينة أكادير ومنطقة سوس وضواحيها، وإذ تخوف بعضهم من القيام بذلك خشية المساءلة القانونية طمأنتهم بأن لجمعيتهم الناشئة ترخيصا رسميا للقيام بمثل هذا النشاط الجمعوي، ثم أخذت لهم إذنا بذلك من لدن وزارة الشبيبة والرياضة عن طريق ممثلها في الدار البيضاء ابن العمة الأخ مختار الحمداوي رجائي رحمه الله، وكلفت الأخ التايدي والأخ الحاج الحداد وأخاه الأخ عبد النور الحداد والأخ اشبابو لكونهم أنشط الجميع وأكثرهم حماسا وحركية، بتكوين لجنة تضع برنامج الرحلة وتحدد الأماكن التي تزار أثناءها، وتقدر قيمة الاشتراك فيها بما يغطي حاجاتها المادية والمعنوية، وتتعاقد مع شركة حافلات للنقل العمومي تقوم بنقلهم، فتم إعداد ذلك على أحسن ما يرام، وودعتهم في فجر يوم الانطلاق بعد صلاة الصبح، ظانا أن جميع الصعوبات قد ذللت، إلا أنني في مساء نفس اليوم رن جرس هاتف مكتبي فإذا بها مكالمة من رئيس الدرك الملكي على بوابة مدينة أكادير يسألني: هل أنت فلان، قلت: نعم، قال: لقد أوقفنا حافلتين كبيرتين بهما حوالي سبعين فردا عند مدخل أكادير وذكروا أنك من أرسلتهم في رحلتهم إلى الجنوب وأنهم يمثلون جمعية الشبيبة الإسلامية فهل هذا صحيح؟ أجبته بأن ما ذكروه لكم هو عين الحقيقة، وما عليكم للتأكد من ذلك إلا الاتصال بإدارة وزارة الشبيبة والرياضة في الدار البيضاء ورئيسها الأخ المختار الحمداوي رجائي، على الهاتف رقم… فودعني على أن يتأكد من الأمر، وبعد حوالي عشر دقائق عاد إلى مهاتفتي معتذرا بكل أدب وأخبرني بأنه أفرج عن الحافلتين ومن فيها، وتمت بذلك أول رحلة لأول جمعية للحركة الإسلامية المغربية بنجاح، وعاد المشاركون فيها إلى الدار البيضاء أكثر حماسا وثقة وتجربة وعزما على مواصلة الطريق.
أما عن جمعية شباب الدعوة في منطقة عين الشق بالدار البيضاء وفيها حوالي ثمانية معلمين من نفس المنطقة، منهم الأخ محمد الراجي وهو أنشطهم لما سبق له من تجربة في جماعة التبليغ، والإخوة محمد زحل والمنصورى العياشي والقاضي برهون فقد كلفت الأخ الراجي بالبحث عن مقر للجمعية واستئجاره، فقام بذلك خير قيام، إذ عثر على كراج مهجور ثم تكفل مع غيره بتبييضه وفرشه بحصر جديدة وتزويده بسبورة سوداء، ولكن بعد حوالي أكثر من أسبوعين من تمام ذلك، لم يوفق الإخوة إلى تفعيل الجمعية أو الاستفادة من مقرها، لوقوعها منعزلة في أطراف حي عين الشق، ووقوع الحي نفسه حينئذ منعزلا في أطراف الدار البيضاء، فزرتهم واقترحت عليهم أن ينظموا في المقر حفلة شاى تعارفية يدعون لها عامة سكان الحي كبارا وشبابا وأطفالا، وبعد أن أقيمت الحفلة ووزعت الحلوى والشاي على الحاضرين وفي قمة انشراحهم، توجهت إلى السبورة وكتبت عليها آية قرآنية هي قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فصلت 33، ثم شرحتها، وقمت بتحفيظها للحاضرين كلمة كلمة، ثم كتبت حديثا نبويا شرحته وحفظته لهم على نفس النحو كلمة كلمة، وبعد أن ودعنا ضيوف الحفل وهم في قمة رضاهم، خاطبت الإخوة أعضاء الجمعية قائلا: على هذا النحو فانحوا بارك الله فيكم وأنجح مساعيكم… وبهذا سارت أول خطوات هذه الجمعية أيضا.