من خطوات التأسيس الأولى للحركة الإسلامية المغربية
(الحلقة -14-13)
(الحلقة 13)
عندما أخذ تلامذتنا يشبون عن الطوق ارتفعت ثقتهم بأنفسهم وبلغ الأمر ببعضهم حد الغرور، على ما ظهر في آخرين منهم من اتزان ونضج وقدرة، فأخذ بعضهم يستصغر قدر المعلمين الذين أشرفوا على تربيتهم وتوعيتهم وآخرون ينالون منهم، وآخرون يعترضون على بعض أساتذتهم العلمانيين في الثانويات إذا ما حاولوا تسريب أفكارهم المنحرفة عن الدين، فيردون عليهم ويسعون لفصلهم عن الدراسة، وأقوم من خلال مسؤوليتي في نيابة التعليم أو علاقاتي الشخصية بنقلهم إلى ثانويات أو إعداديات أخرى، كما وقع لأحد طلبتنا هو أحمد بلدهم مع أستاذه الماركسي المدعو “مسداد” الذي طرده من الدراسة، وكانت لي حينئذ علاقة دعوية في الجزائر مع أول حركة إحياء إسلامية دعوية وعربية قامت بمنطقة المغرب العربي عقب الاستقلال على يد مالك بن نبي رحمه الله وأسست ما سمي حينئذ مسجد الجامعة، وأقامت مدارس عربية إعدادية وثانوية مفتوحة للجزائريين والمغاربيين عموما، فاتصلت بأحد روادها هو الدكتور رشيد بنعيسى، وساعدني جزاه الله خيرا بتخصيص منحتين دراسيتين لاثنين من أبنائنا هما بلدهم والترابي، فالتحقا بالجزائر وحصلا منها على البكالوريا ثم رجعا إلى المغرب، وكما فعلت بعد ذلك إذ ساعدني الشيخ حمد الموسى الصليفيح أمين اللجنة العليا للتوعية الإسلامية بالرياض رحمه الله بتسجيل حوالي عشرين تلميذا مطرودا من إعداديات الدار البيضاء وثانوياتها في المعهد الإسلامي بالرياض في السعودية.
ثم رأيت أن أشغل بعض خيار طلبتنا بالبناء كي ينصرفوا عن التآكل أو التنافس مع كبار المعلمين، أو عن التنابز مع اليساريين طلبة وأساتذة، ففسحت لهم مجال تصريف طاقتهم في الدعوة خارج الدار البيضاء، وكان في مقدمة من أرسلتهم في هذا النشاط الجديد خمس تلامذة من المستوى الثانوي هم الإخوة عبد الحميد أبو النعيم، وعبد الرزاق الذهبي وبلال واثنان آخران لا يحضرني اسمهما، أرسلتهم إلى مدينة فاس كي يؤسسوا فيها عملا إسلاميا شبابيا، فلما وصلوا إلى فاس استأجروا شقة متواضعة، واستعنت بصديق لي حميم كان مفتشا للتعليم ورئيسا للمكتب التربوي في نيابة وزارة التعليم بفاس هو الأخ الاستاذ المجدوبي بوعمامة، على تسجيلهم طلبة، كل واحد منهم في ثانوية مركزية بفاس، على أن يؤسس كل منهم خلية في ثانويته، وتكفل برعاية بيت سكنهم الأخ بلال لأنه كان عاطلا عن العمل وغير مسجل في دراسة نظامية، فكان يرعى البيت ويهيئ لإخوانه الطعام ويقضي بقية يومه يدعو في مسجد الحي.
كان التدبير موفقا بإذن الله، أبعدت به هؤلاء الإخوة عن المنافسات المجانية مع غيرهم من المعلمين في بلد التأسيس(الدار البيضاء)، وعن المنازعات مع اليساريين بكل أصنافهم وألوانهم، فأسسوا في فاس عملا نظيفا بين أشبال طيبين، إلا أنهم في إحدى الليالي فوجئوا برجال أمن يهاجمونهم قبل الفجر وينقلونهم مكبلين إلى معتقل سري عذبوا فيه كما ذكر ذلك عبد الحميد أبو النعيم في تسجيل له صوتي مصور (يوتوب) في معرض تكذيبه لأحد الكذبة المجندين ضدنا. ولما اعترفوا للبوليس بأنهم دعاة جاء بهم إلى فاس عبد الكريم مطيع وكلفهم بالدعوة فيها، أطلق سراحهم على أن يغادروا فاس فورا، ولما عادوا إلى الدار البيضاء رجعوا إلى الدراسة في ثانوياتهم الأصلية، ولكن الفسائل الدعوية التي استنبتوها في فاس كان قد اشتد عودها وواصلت النماء بفضل الله.
ولشد ما أثار ألمي وحسرتي في هذه الخطوة الأولى التي خطوناها خارج الدار البيضاء ما اكتشفته من مستويات للسقوط الأخلاقي لدى بعض محدودي الأفق إذ بلغ به حد الوشاية بشبابنا في مدينة فاس، ثم زاد فاعترف لي بفعلته نكاية بي وإغاظة لي وتحديا في غير محله، كان هذا الشخص دكتورا يدرس الأدب الأندلسي بإحدى جامعات مدينة فاس، وكانت لي به معرفة، ويزورني في الدار البيضاء كل حين، وأحدثه عن دعوتنا الجديدة فأبدى رغبته في العمل بها في فاس، وطلب مني أن أزوده بالدروس التي كنت أكتبها أو أختارها وأطبعها لشباب الدار البيضاء كي يشتغل بها في فاس، فلبيت رغبته مطمئنا إليه، إلا أنه لم يكن يوزعها على أحد، ثم لما انكشف أمر طلبتنا وأعيدوا إلى الدار البيضاء، زارني بكل (المودة !)، وفي معرض كلامه عن الحالة في فاس قال :(اكتشفت جماعة طلبة من الدار البيضاء في بعض ثانوياتنا بفاس فبلَّغتُ بهم عامل المدينة فاعتقلهم وطردهم من مدينتنا)، ثم عقب كأنه يريد أن يغيظني (لقد رفعت شعار فاس للفاسيين)، فابتسمت ضاحكا لكونه هو نفسه طارئ على فاس وليس منها ولم يدخلها إلا بعد عين مدرسا فيها، وتذكرت طرفة أدبية تاريخية عن جراءة أحد الطلبة المغتربين قديما في فاس على أستاذه الفقيه الشاعر الشيخ أبي الحسن اليوسي فقال عنه: ( أتانا طالب من أهل فاس …يجادل في الكتاب وفي القياس… وما فاس ببلدته ولكن…..)، ولم أزد على أن لزمت الصمت (وابتلعتها)، واحتسبتها لله، المسكين ربما لم يكن يعلم أن عامل مدينة فاس الذي اشتغل معه مخبرا بأبنائنا، كان من أخطر عناصر الأمن السري بالمغرب، وأنه هو الذي دبر المحاولة الأولى لاغتيال المهدي بنبركة عند مدخل مدينة بوزنيقة من جهة الرباط، وما قام به هذا الأستاذ دليل واضح على مدى السقوط الأخلاقي الذي تصل إليه المنافسات الشيطانية على الزعامة أو على الدنيا في كثير من الأحيان، إذ يستبيح الفرد أو الجماعة التجسس على الغير والإيقاع به لدى السلطة بالكذب والزور والبهتان وبغير حياء، من أجل التخلص منه أو تصفيته كما مر بنا سابقا ويمر بنا حاليا من تصرفات إخوة عقيدة كنا ننتظر نصرتهم فإذا هم أحرص على تصفيتنا والكذب علينا والتحريض علينا.
ثم بعد هذه التجربة الناجحة في فاس بعثت إلى مدينة وجدة طالبين هما الأخوان محمد بيروين ومحمد الصنايبي لدراسة الساحة ومحاولة استنبات عمل بها، فمكثا فيها مدة قصيرة وكان من نتيجة جهدهم انتظام أخ طيب في وجدة من عين بني مطهر يدعى الحسين المجدوبي، وأرسلت طالبا آخر هو الأخ العربي لوديني مع زملاء له إلى تطوان لدراسة ساحتها وإمكانياتها، منتظرا ما سيقوم به بعض الإخوة المعلمين الشماليين في بورنازيل بالدار البيضاء مثل الأخوة الحداد والتايدي وشبابو وقد أخذ بعضهم يعودون تباعا إلى طنجة والريف وما إليهما.
وكانت عطلة الصيف في المدارس حينئذ حوالي ثلاثة أشهر، وهي مدة طويلة يضطرب فيها سلوك بعض الطلبة، وتضطرب فيها برامج التربية والتنظيم لدينا بسبب الإجازات السنوية للمدارس وانشغال المدرسين والطلبة براحتهم وأسفارهم العائلية والشخصية، وكان علينا أن نتأقلم مع هذه الظروف كيلا ينفرط جمعنا، أو تضعف تربية بعض شبابنا، فرأيت أن نستحدث برامج تجمع بين الدعوة وبين تلهف الشباب إلى الراحة، فكان ما سميناه كتائب الدعوة، وهي أن يشتغل كل عضو – مدرسا كان أو طالبا – بنشر دعوتنا وطريقة عملنا التنظيمي في كل منطقة يسافر إليها أثناء إجازته، وعند العودة نعقد فيما بيننا ندوات مغلقة نستعرض فيها نتائج ما حصلنا عليه تقويما وتعميقا للتجربة.
أثمرت هذه الفكرة إذ نفذت أحسن النتائج، لا سيما في شمال المغرب، لأن عددا كبيرا من إخوتنا المدرسين في حي بورنازيل بالدار البيضاء كانوا من الشمال وفيهم إخوة صادقون مثل الأخ التايدي والحاج الحداد وأخيه عبد النور واشبابو وغيرهم ممن يعرفهم الله ويجزيهم بعملهم، فكانوا يعودون إلى أهلهم كل صيف وينشرون الفكرة وطريقة العمل. وبذلك أيضا بلغ أثر حركتنا مختلف المدن والقرى، نظرا لأن مدينة الدار البيضاء بصفتها المركزية وكثرة سكانها تمثل كل العناصر الاجتماعية والسياسية والثقافية الفعالة في المجتمع المغربي ولها امتداد وثيق في كل المدن والقرى والمداشر.
ثم بتعاون مع ممثلية وزارة الشبيبة والرياضة رُخِّص لنا باستعمال بعض المخيمات الشبابية التابعة لها والبعيدة عن الشواطيء تجنبا للاختلاط بما يكون فيها من عري، فنظمنا في عدد منها مخيمات لباقي شبابنا، ووضعنا لها برامج ترفيهية ورياضية وتربوية وتعليمية، فتطورت الفكرة إذ طبقت وانتشرت وصارت عادة متبعة في كل صيف.
ثم انتدبت بعض الشباب المتحمس فأرسلته أثناء إجازته إلى بعض المدن المغربية يحاول أن يؤسس أرضية لدعوتنا فيها على النهج الذي كان في فاس، فكانت وجدة ومراكش وأكادير وكانت البركة في كل هذه الخطوات، على رغم الصعوبات التي واجهتنا فيها.
أما مدينة الرباط وكانت شبه موصدة في وجهنا بسبب تركيز النظام على حمايتها أمنيا وسياسيا، فقد قررنا اقتحامها بعزم وتركيز، فكلفت من طلبتنا في الرباط أخا طيبا ودودا يدعى “علي باحني” من حي يعقوب المنصور بالرباط، باستئجار بيت ناء عن الأحياء السكنية لمدة شهر، فعثر على بيت غير مكتمل البناء بسعر زهيد، فجمعت حوالي خمسة عشر من خيار شبابنا الفعال في الدار البيضاء، أخذتهم إليه فأقاموا جميعا فيه طيلة الشهر عاملين في الرباط لنشر دعوتنا وتنظيمنا؛ قسمت الطلبة بالتناوب إلى فريق يرعى البيت نظافة وترتيبا وإعدادا للطعام وتوفيرا للحاجيات، وفريق ينتشر بعد الإفطار كل صباح في مساجد الرباط وأحيائها للدعوة والتنظيم، وفي المساء بعد صلاة العشاء أجتمع إليهم لدراسة حصيلة العمل اليومي وتوثيقه، وتعميق تجربته وتلافي أخطائه، ووضع خطط العمل لليوم الموالي، فكانت نتائج ما قام به الشباب طيبة ومباركة، على رغم ما شابها من سلبيات العمل في مجتمع هو الحديقة المباشرة للنظام، وذلك ما قد تتاح فرصة دراسته واستنتاج العبر منه إن شاء الله.