من خطوات التأسيس الأولى للحركة الإسلامية المغربية (-10-9)
فضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي
من خطوات التأسيس الأولى للحركة الإسلامية المغربية
( الحلقة9)
كان الهدف في مرحلة التأسيس أن تغطي حركتنا كل المجالات الاجتماعية، ولو ببذرة يسيرة تنمو مع الزمن، كي تتسع حاضنتنا في وسط سبقتنا إليه التنظيمات اليسارية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية)، والشيوعية (حزب على يعطة)، والوطنية (حزب الاستقلال)، والماركسية المتطرفه (حركة إلى الأمام بامتداداتها بين طلبة الثانويات ذوي النزعة الثورية العنيفة)، وكان مشاعا بين العامة والخاصة أن المتدينين متخلفون ومتزمتون وغير منفتحين، فرأيت أن أكسر الحصار المضروب علينا بهذه الأحكام الاعتباطية المسبقة بأمرين:
أولهما أن يحاول الطلبة والتلاميذ تخصيص قاعات للصلاة في ثانوياتهم وإعدادياتهم باتفاق ودي مع مديري هذه المؤسسات وحراسها العامين، الذين كانت لي بهم صلة ود وتعاون إداري، كلما تعذر عليهم حل بعض المشاكل المتعلقة بإداراتهم أعنتهم عليها، وقد نجحت الفكرة فلم تمر فترة شهرين أو ثلاثة حتى كانت أغلب المدارس الثانوية والإعدادية بها قاعات للصلاة يشرف عليها أبناؤنا.
والثانية إظهار حركتنا بمظهر لا يعادي الفنون الثقافية المعاصرة السوية فكرا وأخلاقا، كي تنفتح لنا القلوب والعقول والمجتمع، وكانت مدرسة أبي ذر الغفاري الابتدائية بحي مارتيني نقطة البدء في هذه المسيرة، مع تجربة لي سابقة في عهد الاستعمار إذ كنت في حوالي السادسة عشرة من عمري عضوا بفرقة المنار المسرحية التابعة لحزب الاستقلال، وشاركت بدور ثانوي في عرضها لمسرحية “مسمار جحا” للكاتب الشاعر المسرحي الحضرمي علي أحمد باكثير، وكان من مسؤولي الفرقة حينئذ محمد التازي (الدكتور فيما بعد)، ومحمد الكتاني (عضو الديوان الملكي في عهد الاستقلال)، والمخرج أحمد العبدي الركيبي (نائب مفتش التعليم العربي في المكتب التربوي الذي كنت أشرف عليه قبل خروجي من المغرب). وتجربة أخرى لي في نفس المرحلة الشبابية في مجال التدريب على رياضة الكاراتي ببعض نواديها.
مناسبة ما ذكرت أنني عند ما كنت أجالس خلية معلمي مدرسة أبي ذر الغفاري بحي درب مارتيني التي أسسها ويشرف عليها الأخ محمد الرامي وكان من كرام إخوتنا جدية وحياء وثقافة وتضحية، وجرى الحديث عن الانفتاح على المجتمع اكتشفت أن معنا في الخلية أخوين أحدهما ممثل في فرقة مسرحية رائدة وله علاقة صداقة بمدير المسرح البلدي الوحيد بالدار البيضاء المقام منذ عهد الاستعمار، والثاني مدرب كاراتي في بعض نواديه، وتمخض الحديث بيننا في الخلية على أن يقوم الأخ الممثل بتكوين فرقة مسرحية تعرض فصلا من فصول مسرحية “ملحمة عمر بن الخطاب” لعلي أحمد باكثير، وأن يضاف إلى ذلك عرض لرياضة الكاراتي تقوم به مجموعة من الإخوة المعلمين يدربون عليها. على أن يقوم الأخ الممثل بتذليل صعوبات الحصول على موافقة مدير المسرح البلدي وتساهله في قضية الرسوم المادية المقررة للعروض المسرحية عادة، إلا اننا وجدنا عند المدير أكثر مما أملناه إذ أعفانا من جميع الرسوم المستحقة، فتمت العروض المسرحية والرياضية على شكل أعراس امتلأت بها أركان المسرح البلدي وضاقت على سعتها بآلاف الحضور الذين سعدوا برؤية شكل جديد من الفن الإسلامي الملتزم.
إلا أن هذين النجاحين كان لهما عواقبهما الإيجابية والسلبية، في المجال السياسي لدى الأحزاب القائمة، ولدى الأجهزة الرسمية عليا ودنيا، وعلى صعيد المؤسسات التعليمية بين الطلبة والأساتذة والمديرين، مما قد تتاح ظروف شرحها مستقبلا إن شاء الله.
( الحلقة العاشرة)
كان زخم معاداة النظام الملكي يشتد تصاعديا، ويظهر أثره بين طلبتنا في الثانويات وبعض الجامعات، ولكنهم لا يجدون جوابا عند الإخوة المعلمين المشرفين عليهم، لا سيما ومستوياتهم السياسية ما ذكرت في حلقة سابقة، وإذ يرفع الطلبة اليساريون بدائل الصراع الطبقي وحكم الطبقة العاملة (البروليتاريا)، لا يجد أبناؤنا لدى المشرفين على تربيتهم بديلا سياسيا إسلاميا مقنعا، أو تسفيها لمقولات اليسار مُقْنعا، سوى السخط الأبكم على النظام القائم، فلجأت إلى تكوين لجنة من نابهي الإخوة المعلمين لمدارسة الجانب السياسي في الإسلام، لأنه كان موضوع الحوار الحاد بين طلبتنا والطلبة اليساريين، وكانت النتيجة أن اكتشفنا فقرا سياسيا رهيبا في الفكر السياسي لدى المسلمين، واضطررنا لمراسلة بعض الحركات الإسلامية في المشرق فأمدونا ببعض دراساتهم الداخلية حول الشورى فإذا هي بعيدة عن روح الإسلام إذ تجعل كلها الشورى غير ملزمة، وتعد الأمة بيد الحاكم بمثابة الفتاة البكر بيد وليها، إذنها صماتها، والنظام السياسي لديهم ما بين ديمقرطية متأسلمة أو إسلام مُدَمَقْرَط، فعكفنا على مراجعة للفكر السياسي الإسلامي أعد لها كل نصف شهر دراسة نناقشها فيما بيننا كي يتبين للجميع الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
ثم حاولت أن أفتح ثغرة على الصحافة الإسلامية في المشرق علها تفتح لأبنائنا مجالات للتفاعل الفكري مع إسلاميي العالم، فكان أن اتصلت برئيس تحرير مجلة المجتمع الكويتية الأستاذ بدر القصار للاشتراك فيها ولكنه تطوع بإرسال عشرين نسخة كل أسبوع من أي عدد يصدر، نوزعه على إخوتنا الطلبة والمعلمين، واتصلت بمدير تحرير صحيفة الشهاب الأسبوعية اللبنانية الأستاذ إبراهيم المصري فتطوع بإرسال عشرين عددا من صحيفته كل أسبوع مجانا، واقترح بعض الإخوة بدل توزيع الصحيفتين مجانا بيعها في مكتبة الأخ سعيد أصواب وإنفاق ثمنها على الحاجات الدراسية لطلبتنا الفقراء، فتم ذلك.
إلا أن تبني الصحيفتين وبيعهما أثار علينا كذلك ما كنا نتلافاه من حساسية الصراع بين التوجه الإسلامي لدينا والزخم اليساري السائد، ظهرت هذه الحساسية لدى بعض شبابنا من الذكور والإناث، فجاءني أحدهم غاضبا وفي يده مجلة المجتمع مزدانة بصور أمير الكويت وعبارات الولاء له، مستنكرا تبني هذه المجلة، فبينت له خلفية بيعها في مكتبة محسوبة علينا، وأنها لا تمثل نهجنا، وأن ظروف كل حركة تقتضي سياسيا مواقف خاصة ومنهجا معينا يناسب أهدافها ومجتمعها وجمهورها، وكذلك الموقف لدى الجناح النسائي إذ جاءت إحداهن إلى زوجتي التي تشرف عليها بنفس الموقف ونفس الاستنكار.
أما الحساسية الثانية التي أثيرت فحين شاركت في مؤتمر الندوة العالمية للشباب الإسلامي بالرياض وانتخبت عضوا في أمانتها الدائمة ونشر الخبر في صحيفة الشهاب التي تأتينا نسخ منها قبل عودتي إلى المغرب، فأغضب حضورى شابا من خيرة شبابنا في إحدى ثانويات عين الشق، وعندما أعرب أثناء غيابي بالسعودية عن عدم رضاه بمشاركتي، وسأل أحد كبار إخوتنا كذب عليه مستصغرا وعيه زاعما أن الاسم المنشور في صحيفة الشهاب لوزير خارجية اليمن محمد صالح مطيع، وكانت بذلك أول كذبة ارتكبت وأخلت بما ندعو إليه، وعندما عدت من السعودية، وسمعت الخبر سعيت إلى الشاب وكان قد انقطع عن حضور خليته، فوجدت أن الأمر بينه وبين إخوته قد تطور إلى عدوان عليه بتحريض ممن تضايق بملاحظته، فبذلت جهدى لاسترضائه وتطييب خاطره ببيان حقيقة مشاركتي ومبرراتها واعتذاري عما وقع بما لم يقنعه، فلم أفلح، وخسرنا شابا يافعا من خيرة الشباب، أسأل الله له التوفيق والنجاح ومزيد الصدق إن كان في الحياة، والرحمة والمغفرة إن كان الله قد توفاه إليه. وكانت هذه الحادثة فرصتنا لأخذ درس عملي من خطإ عضو قيادي كبير السن مُقتدَى به وصواب طالب صغير السن يجب احترام عقله وفهمه ومواقفه، واستخلاص العبرة من محاولة علاج أي خطإ بالكذب، والاستفادة العملية مما نبهنا عليه فيما بيننا من ضرورة تحري الصدق. وعلى رغم ما وقع، فقد واصل أخونا تلفيق بعض المعاذير لحل أي إشكال يواجهه مع الشباب، مما اضطرني إلى تعنيفه مرة، فكف عن ذلك، رحمه الله وغفر له وجعل الجنة مثواه، ولكن لاحظت بعد ذلك أن بعض من كان يرعاهم ظهرت عليهم نفس الأعراض فعولجت في حينها. نسأل الله لنا ولهم المغفرة إن كانوا في الحياة والرحمة إن كانوا أمواتا، وإنما ذكرت هذه الحادثة على رغم أن أهلها صححوا وتابوا تنبيها وتحذيرا من (عاهة الكذب) و(آفة التبرير السفسطائي) التي يستدرج الشيطان أولياءه السياسيين إليهما، أسأل الله العفو والعافية. .
======
ملاحظة وتنبيه حول توثيقي لتأسيس الحركة الإسلامية المغربية:
قصدي من توثيق التأسيس أمران أولهما أن يتلافى الجيل الحالي أخطاء الماضي وأن ينهض لتلافيها والتوبة عنها، وثانيهما أن ينهض جيل جديد يستفيد من التجربة فيتلافى أخطاءنا عند محاولة تجديد الحركة بأمتن مما بنيناها عليه، فلا أتحمل مسؤولية أخطائنا ومسؤولية من قلدنا