المذاهب الأدبية الغربية الحديثة وأثرها في الفكر الغربي
سُهَيْلة زين العابدين حماد
الحلقة الأولى
إن المتتبِّع للحركة الأدبية في عالمنا العربي – منذ حملة نابُليون بونابرت على مصر في أواخر القرن الثامن عشر حتى وقتنا الحاضر – يجد أن أدبنا قد تأثر تأثراً جدُّ كبير بالفكر الغربي ؛ إذ تبنَّى معظم أدبائنا العرب جميع المذاهب والتيارات الفلسفية الغربية الحديثة من كلاسيكية ورومانسية ورمزية وفُرويدية ووجودية وسريالية وبرناسية وبِنْيوية وواقعية بكل أنواعها وأشكالها كالواقعية الغربية والواقعية الماركسية والواقعية السحرية .. الخ .
لقد أصبح أدبنا العربي – في بعضه – ملحداً ماركسياً , وفي بعضه الآخر جنسياً إباحياً , تظلله وثنية الإغريق وأساطيرهم لافتتان معظم الأدباء بالأدب الإغريقي , وانبهارهم بأساطيره , إضافة إلى تسليطهم الأضواء على جانب مُعْتِم في تاريخنا السياسي والأدبي , وذلك بإبراز الزنادقة الملحدين والماجنين والمتصوفين , ممن لهم انتماءات تنتهي إلى الحركات الباطنية والماسونية , وكأنَّ تراثنا لا يمثله إلا هؤلاء ! , ونتيجة لهذا فقد أدبنا العربي هويته الإسلامية , فالذين كتبوه مسلمون , ولكنهم تجردوا من إسلامهم وعقيدتهم حين دوَّنوه , مستجيبين لمقولة الدكتور طه حسين : “إن الإنسان يستطيع أن يكون مؤمناً وكافراً في وقت واحد , مؤمناً بضميره , وكافراً في عقله” ! . وهذه ازدواجية يرفضها العقل والمنطق ؛ لأنها تجمع بين نقيضين أو ضدين , والنقيضان والضدان لا يجتمعان , هذا أولاً , وثانياً لا يمكن فصل العقل عن الضمير , فإذا كان العقل كافراً كيف يكون الضمير مؤمناً ؟! .
إن ما يكتبه الأديب – سواء أكان شعراً ونثراً – إنما يمثل عقيدته ؛ إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال فصْل عقيدته عن فكره وعن عطائه الفكري.
هذا , ولما كان عطاء الأديب الفكري يعكس للمتلقي عقيدة هذا الأديب , فيتأثر به , ومن ثم يردد ما يقول , ويؤمن به , فتصبح عقيدته كعقيدة الأديب المتأثر به , فإنه من الضروري وضع مقياس لتقديم العطاء الفكري يوافق عقيدتنا نحن المسلمين , ويكون هذا المقياس هو الضابط الذي نضبط به درجة ما نأخذه من الآداب والثقافات والفلسفات الأخرى , فما يوافق منها عقيدتنا الإسلامية – ونظرة الإسلام إلى الإنسان والكون والحياة – نأخذه , وما يخالف ذلك نبعده , وبذلك نحمي أنفسنا من الوقوع في مزالق الكفر والإلحاد , فنحن لو فصلنا عقيدتنا الإسلامية عما نتلقاه – أو نفكر فيه , ونكتبه – فلن يكون هناك فارق بيننا وبين ماركس وإنغلز وسارتر وهيغل ونيتشه وفرويد وديكارت ودوركايم وليفي شتراوس ورولان بارت , بل نجمع بين هؤلاء جميعاً – على الرغم مما في فلسفاتهم من تناقض – ونعيش في فوضى فكرية وعقائدية كما هي حالنا الآن , أجل , فنحن نعيش الآن في فوضى فكرية وعقائدية ترتَّب عليها انعدام الأمن واختلال النظام في جميع شؤوننا المعاشية .
إن كل ما في الكون يسير وفق نظام يضبطه ؛ فالكون له نواميسه وسُنَنه , فإذا ما حدث خلل في هذا النظام حدثت الزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات التي تدمر البيوت والمحاصيل , فيتساقط الألوف من القتلى أو الغرقى من جرائها , هذه الكوارث الطبيعية هي – بلا شك – تدمر وتهدم في لحظات ما بناه البشر في سنين .
والفكر جزء من هذا الكون لا بد أن يكون هناك ضابط يضبطه , ويكبح جماحه ؛ لئلا يدمر صاحبه , ويدمر معه الآخرين , والضابط الذي يضبط الفكر هو العقيدة ؛ لذا نجد أن الصهيونية العالمية كانت وراء هذا الفوضى الفكرية والعقائدية التي تجتاح العالم ؛ لتقوض الأديان حتى يسهل عليها السيطرة على العالم .
نشأة المذاهب الغربية :
إن المذاهب الغربية التي نشأت في أوروبا – ابتداءً من الكلاسيكية والرومانسية إلى الفرويدية والرمزية والوجودية , والواقعية على اختلاف مسمياتها , والسريالية والبرناسية وغيرها – كان ظهور كل مذهب منها نتيجة للأوضاع الدينية والاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية التي شهدتها أوربا , فهي تعبر عن عقيدة الإنسان الغربي وصراعاته النفسية والاجتماعية والفكرية , وما يعانيه من ضياع وخواء روحي , وهذا لا ينطبق علينا ؛ فهي لا تعبر عنا .
إن ديننا ومعتقداتنا وتاريخنا وظروفنا الاجتماعية وأحوالنا النفسية تختلف كل الاختلاف عن الغرب ؛ فالغربيون يعانون خواءً روحياً ؛ لتعقُّد ديانتهم بسبب ما نالها من تحريف , ورجال الكنيسة فيها نصبوا أنفسهم وسطاء بين الناس وبين الله , فتمرد الناس على الدين , وقاوموه , وأصبحوا يرفضون كل ما هو ديني , وجاءوا باللادينية التي انبثقت منها جميع المذاهب المادية التي أنكرت وجود الله , ونظرت إلى الإنسان والحياة نظرة مادية بحتة , وغالت في تعظيم الإنسان والعلم , حتى وجدنا بعضها قد ألَّه الإنسان , وبعضها الآخر قد ألَّه العلم ! .
ولكن ديننا الإسلامي لم تَنَلْهُ أيدي التحريف {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] , وهو دين سهل وواضح , الحلال فيه بيِّن والحرام فيه بين , ولا حاجة لنا فيه إلى وساطة تكون بيننا وبين خالقنا , بل نهى ديننا عن هذه الوساطة , وديننا الإسلامي دين مُصلح لكل زمان ومكان ؛ لذا نجده قد فتح باب الاجتهاد في المتغيرات دون المساس بالثوابت , فلماذا ننقم على الدين مثلهم ؟! , ونأخذ هذا الموقف المعادي منه أحياناً , المتخوف أحياناً أخرى ؟! , بل يصاب البعض منا “بأرتكاريا” كلما يُذكر الإسلام , ويرمز إلى كل ما هو إسلامي بالتخلف والرجعية , وكبت الحرية والإبداع !.
تعالوا معاً نُطِلْ إطلالة سريعة على بعض هذه المذاهب ؛ لنعرف ظروف نشأتها , وموقفها من الله – جل شأنه – ومن الإنسان والكون والحياة , وهل هذه النظرة تتفق مع ديننا , وكيف تأثر بها كبار أدبائنا , وطُبع أدبهم بها ؟! .
1- الكلاسيكية :
الكلاسيكية – كما لا يخفَى عليكم – هي أقدم المدارس الأدبية الغربية , ولقد نشأت هذه المدرسة في فرنسا خلال المدة الواقعة بين عام 1630-1660م , والسبب في نشأتها أن كبار الأدباء الفرنسيين عندما قرأوا الآثار القديمة لقدماء اليونان والرومان – ووازنوا بينها وبين فنون الشعر الشعبي لأدباء القرون الوسطى – فبهرتهم روعة الآثار القديمة لهوميروس وأرسطو , وأرادوا أن يسيروا على منهج أرسطو , ومنهج أرسطو ينطلق من تصوره الوثني لله والإنسان والكون والحياة , وهو يختلف تماماً عن التصور الإسلامي , فهو يَدين بتعدد الآلهة , ويؤمن بالصراع القائم بينها من جهة , وبين الإنسان من جهة أخرى , ونحن نؤمن بإله واحد لا شريك له , فهو خالقنا {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ}[البقرة:255] , {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}[الإخلاص] , {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11] , وعلاقة الخالق بالإنسان ليست علاقة صراع وعداء – كما هي في عقيدة الإغريق – وإنما هي علاقة محبة ورحمة وتكريم وتكليف وتمييز عن سائر مخلوقاته ؛ فلقد ميَّزه بالعقل (مناط التكليف) ؛ ولذا كلفه بأمانة الاستخلاف , وجعله خليفته في أرضه , وميَّزه بالإرادة والاختيار والتمييز بين الخير والشر {وَهَدَيْنَاهُ النَّجدَيْنِ} [البلد:10] , {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)}[الشمس] , وكرمه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] , وقد أرسل له الرسل والأنبياء ؛ ليرشدوه طريق الخير والهداية , وسخر له كل ما في الكون من مخلوقات , وحثَّه على استغلال عقله ؛ ليُحسن استغلال ما سخر له في الكون , وبذلك استطاع أن ينشئ العلوم الحديثة , وبهذه العلوم استطاع الإنسان الوصول إلى ما أنجزه من اختراعات , إلا أن عليه أن يدرك أن هذا العقل – وجميع قوى الإنسان – هبة من الله (تعالى) , فلا يغتر بعقله , ولا يظن أن بعقله يستطيع أن يصل إلى كل شيء , فينفصل عن خالقه ؛ فهدف القرآن من التصور الإنساني هو التوازن في الطبيعة البشرية بين العقل والقلب , والروح والنفس والجسد , فالإنسان قوة من قُوى هذا الكون , ومن ثم فإن صلته بالله يجب أن تكون على أساس العبودية .
إن الكلاسيكية الإغريقية تتنافى تماماً مع عقيدتنا الإسلامية , بل تتنافى مع الأديان السماوية , حتى أن النصارى رفضوها عندما أعلن شاتوبريان – المتوفَّى سنة 1848م – رفضه للمذهب الكلاسيكي ؛ لأنه استقى أصوله من الأدب الإغريقي القائم على الوثنية , ودعا إلى صبْغ الأدب الرومانسي بالصبغة النصرانية , وألَّف لهذا الغرض كتاباً سماه “العبقرية المسيحية” , وقد استجاب لدعوته كثير من أنصار الرومانسية , فوجهوا آثارهم الأدبية وجهة نصرانية .
وعلى الرغم من كل هذا نجد بعض أدبائنا أخذوا بها , بل فُتنوا بها , وأحيَوْا بعض الأساطير الإغريقية في آدابهم , والأكثر من هذا أن نجد لها أثراً على فكرهم , وفي مقدمة المفتونين بالعقلية الإغريقية وأساطيرها وفكرها الأستاذ “توفيق الحكيم” .
أثر الكلاسيكية الإغريقية في فكر الأستاذ توفيق الحكيم :
عند دراستنا لمسرح الأستاذ توفيق الحكيم نجد أن للأسطورة مكاناً بارزاً في مسرحه ؛ إذ بلغ عدد مسرحياته الأسطورية خمس مسرحيات هي : إيزيس , الملك أُوديب , براكسا أو مشكلة الحكم , وشهر زاد , وبجماليون , التي تضمنت ثلاث أساطير .
كما نجد أن موضوعات بعض مسرحياته مقتبَسة من أساطير إغريقية كمسرحية “السلطان الحائر” , التي اقتبسها من أسطورة “اختيار هرقليس” , ومسرحية “الطعام لكل فم” التي اقتبسها من الأسطورة الإغريقية القديمة التي صاغ منها إيخلولوس (524 – 456 ق.م.) ثلاثيته المشهورة الإرستيا , ونجده قد حشر الأسطورة اليابانية في مسرحية “أهل الكهف” , وقد اعترف الأستاذ “توفيق” بالأثر الإغريقي في هذه المسرحية , فقال – في مقدمة مسرحية “الملك أوديب” – : “كان الذي قصدته من وضع “أهل الكهف” هو إدخال عنصر التراجيديا في موضوع عربي إسلامي , التراجيديا بمعناها الإغريقي القديم الذي احتفظت به , الصراع بين الإنسان وبين قوة خفية هي فوق الإنسان” .
هذا , ويلاحظ الأثر الإغريقي في كتابه “عصفور من الشرق” , إذْ أورد قصيدة الشاعر الإغريقي “أناكريون” في القرن السادس قبل الميلاد , وعُنوان القصيدة “إلى إيروس” .
ولم يقتصر الأثر الإغريقي على الإعجاب بالأساطير الإغريقية وتطعيم أدبه بها ؛ إذ امتد إلى تأثيرها في فكره , ففي كتابه “التعادُلية” جعل مهمة الإنسان في الحياة محاربة القدرة الإلهية , فيقول في (ص56) – عن موقفه من حرية الإنسان – : “الإنسان – عندي – حر في اتجاهه , حتى تتدخل في أمره قوى خارجية , أسمِّيها أحياناً “القُوَى الإلهية” .. حرية الإرادة في الإنسان – عندي – إذن مقيدة , شأنها في ذلك شأن حرية الحركة في المادة” .
ويقول – في (ص60) – : “قد حاولت تفسير موقفي من حرية الإنسان ووحدانيته فقلت في كتابي “فن الأدب” هذا الموقف من قضية العصر , وقد وقفته , وتأملته .. فالإنسان عندي ليس إله هذا العالم , وهو ليس حراً , ولكنه يعيش ويريد ويكافح داخل إطار الإرادة الإلهية .. هذه الإرادة التي تتجلى للإنسان أحياناً في صور غير منظورة من عوائق وقيود , على الإنسان أن يكافح لاجتيازها , والتغلب عليها” ! ثم يقول : “إن قضية العصر اليوم – وهي التي تقوم على حرية الإنسان , سواء باعتباره فرداً أو باعتباره جماعة – إنما تتحد وتتلاشى في أمر واحد هو إنكار الله , إنكار القوى غير المنظورة التي تؤثر في مصير الإنسان” , ثم يقول – في (ص62) – : “إن فكرة الشعور بالقوى الأخرى التي تواجه الإنسان – وتؤثر في إرادته وحريته – تدفع به في نهاية الأمر إلى أن يحشذ غرائز حربه ونشاطه وكفاحه لا ضد نفسه , بل ضد هذه العوائق المستترة وهذه القوى الخفية , فالشعور بعجز الإنسان أمام مصيره , وهو عندي حافز إلى الكفاح لا إلى التخاذل .. أهل الكهف كافحوا ضد الزمن , ولَبِثَ أحدهم متعلقاً بالحياة بتاريخ الزمن بسيف بتَّار هو القلب إلى آخر لحظة , وشهر زاد جاهدت محاوِلة أن ترد إلى الصواب زوجها الذي أراد أن ينبذ أرضه وآدميته , وأن تعيد إليه إيمانه ببشريته .. و”سليمان” جاهد ضد إغراء القدرة التي كادت تخرس صوت الحكمة ! .. وهكذا كان الإنسان – عندي – يجاهد دائماً ضد العوائق الخفية التي شعر بتأثيرها في حريته وإرادته ومصيره” ! .
هذا بالحرف ما قاله الأستاذ توفيق الحكيم في كتابه “التعادلية” , وهو يعبر فيه عن عقيدة الإغريق في صراع الإنسان مع القوى الإلهية , وهنا ابتعد الأستاذ توفيق الحكيم عن التصور الإسلامي عندما جعل مهمة الإنسان في الحياة الدنيا هي محاربة القوى الإلهية ؛ فالله – سبحانه وتعالى – خلق الإنسان ليس لمحاربته , وإنما لعبادته : {وَمَا خلَقْتُ الجنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] ؛ فمهمة الإنسان العليا هي عبادة الله , وما يعترضه من عوائق وعقبات هي بمثابة امتحان وابتلاء على الصبر على طاعته والبعد عن معصيته , وقدرته على أداء أمانة الاستخلاف التي كلفه الله بها .
ولكن الأستاذ توفيق الحكيم جعل للإنسان إرادة تعادل إرادة الله , وجعل مهمة الإنسان في الحياة هي محاربة ومكافحة الإرادة غير المنظورة , وهي الإرادة الإلهية ! , والغريب أن الأستاذ توفيق يقول – في مقدمته للملك أوديب – إنه قد أسلم هذه الأسطورة , ومن أسلمته لها أنه جعل أوديب يفقأ عينه حزناً على انتحار زوجه , عندما علم أنها أمه , فأراد أن تستمر حياته معها كزوج بعدما علم أنها كذلك , وكأن الإسلام يبيح الزواج من المحرمات ! .
وقد يكون الأستاذ توفيق قد تأثر بالفيلسوف الملحد “نيتشه” , عندما ذكر أن القوى الخفية والقوى الإلهية تضع عوائق أمام الإنسان , عليه أن يجاهدها ويكافحها ويحارب ضدها , وهذا المعنى نجده عند “نيتشه” في حملته على فكرة “الألوهية” ؛ لكوْنها – في نظره – عقبة تحُول دون تأكيد الإنسان لذاته .
هذا , ويظهر التأثير الوثني الإغريقي في فكر الأستاذ توفيق الحكيم في كتابه “راقصة المعبد” ؛ إذ يوجد نص يبين لنا هذا التأثير , فلنقرأ ما كتبه الأستاذ توفيق : “صرت على غير هدى في حانات باريس وملاهيها حتى الهزيع الأخير من الليل .. ولم أجرؤ على العودة إلى السكن قبل الساعة التي قدرت أن النوم يقهرني فيها قهراً , ودخلت , لعت ثيابي تواً .. وألقيت بجسمي على الفراش , غمضت عيني , استعنت بعزيمة ماضية على طلب النعاس , خيِّلَ إليَّ أني نجحت .. فلقد رحت في إغماءة عميقة .. ومضى وقت لست أدرى أهو دقيقة أم ساعة , وإذ أنا أنتفض انتفاضة أيقظتني , وكأنما شيء قد وخزني في قلبي , فقمت أصيح في جوف الظلام : يا إله الفن ! .. لماذا تفعل بي ذلك ؟! , لماذا تصنع بي ذلك دائماً” ! , ثم يقول : لماذا يا إله الفن يروق لك دائماً أن تجرح وتذل هذا القلب الذي هُيئ لخدمتك؟! , وغرقت في الصمت .. ولكن (إله الفن) مازالت تطن في أذني , كان لها حقيقة واقعة .. وطفقت أردد : إله الفن.. نعم , إنه – وحده – الذي أتوجه إليه مستجيراً من أثقال حياة , يقودها بالسلاسل في موكبه الحافل .. ونظرت أمامي في الظلام .. وقلت إنك في المعبد .. آه ! , لو ألقيتَ إليَّ نظرة من فوق عرشك” .
ولعل هذا يفسر لنا أهداف الأستاذ توفيق الحكيم من أحاديثه الأربعة السابقة – بجريدة “الأهرام” – (إلى الله أو مع الله) ؛ فالتأثير الإغريقي الوثني باقٍ وظاهر في حواره مع الله , ويؤكد هذا النص الذي بين أيدينا .
ولم يتوقف التأثير الإغريقي الوثني في فكر الأستاذ توفيق الحكيم عند هذا الحد ؛ إذ نجده قد جعل من الشيطان شهيداً , وذلك في قصة سمّاها “الشهيد” , وفيها يعلن إبليس رغبته في التوبة ! , فيذهب إلى البابا – في ليلة ميلاد المسيح – مبدياً رغبته في التوبة , فيرفض توبته , فيذهب إلى حاخام اليهود , ولكنه يرفض دخوله في اليهودية ؛ لأن اليهود ليس من عاداتهم دعوة الغير إلى دينهم , فيذهب إلى شيخ الأزهر , فيستقبله , ويصغى إلى قوله , ثم يقول له : إيمان الشيطان عمل طيب , ولكن إبليس .. ! , ويرفض شيخ الأزهر طلب إبليس , وعلل الأستاذ توفيق الحكيم رفضه بقوله : “وتأمل شيخ الأزهر العواقب” ! .. لو أسلم الشيطان فكيف يُتلى القرآن ؟! , هل يمضي الناس في قولهم “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” ؟! , لو تقرر إلغاء ذلك لاستتبع الأمر إلغاء أكثر آيات القرآن! .. فإن لعن الشيطان والتحذير من عمله ورجسه وسوسته يشغل من كتاب الله قدراً عظيماً , كيف يستطيع شيخ الأزهر أن يقبل إسلام الشيطان دون أن يمس بذلك كيان الإسلام كله؟!”.
ويصور الحكيم حالة إبليس بأنه توَّاق “للخير والإيمان” , وصعد إلى جبريل – عليه السلام – طالباً منه التوبة , ولكنه حرَّمها عليه .. وختم قصته بقول إبليس : “إني شهيد .. إني شهيد” ! , وهذه القصة تتنافى مع ما جاء في قوله – تعالى – في سورة “ص” : {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجدَ لِمَا خلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خيْرٌ مِّنْهُ خلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخرُج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لأَمْلأَنَّ جهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجمَعِينَ(85)} .
وتأثير الكلاسيكية الإغريقية لا ينحصر في الأستاذ توفيق الحكيم , وإنما امتد إلى صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وأدونيس وغيرهم .
فمثلاً يقول صلاح عبد الصبور في قصيدة “الناس في بلادي” :
الشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم ويقول – في نفس القصيدة – : “كم أنت قاسٍ موحش أيها الإله” ! .
ويقول – في قصيدة سماها “الإله الصغير” ! -: ذات يوم كنت أرتاد الصحاري كنت وحدي حيـث أبصـرت إلهي أسمـر الجبهة وردي ! ورقصنا – وإلهـي – للضحـى خداً .. لخدِّ ! ثــم قمنــــا – وإلهــي – بيـــن أمــواج وود ! وإلهــي كــان طفــلاً , وأنا طفــلاً عبدتــه !
أما أمل دنقل فأعلن أنه في خصومة مع الله , فيقول : “خصومة قلبي مع الله , وليس سواه” , كما مجد العصاة والكافرين بالله ؛ لأنهم عصوا أمر الله مثل ابن نوح ومثل الشيطان , فيقول – في قصيدة “كلمات سبارتكوس الأخيرة” – : المجــــد للشيطــــان معبــــود الريــــاح مَن قال “لا” في وجه مَن قالوا “نعم” مَن علــم الإنســــان تمزيــــق العـــدم مَـــن قــــــــــال “لا” فلــــــم يَمُـــــــتْ وظــــــــل روحـــــــاً أبديـــــة الألـــــــم
أما أدونيس – وهو علي أحمد سعيد , الذي سمَّى نفسه “أدونيس” , وهو يمثل “تَموز” الإله القديم الذي انطلق ما بين النهرين من بابل وآشور , وقد دعاه الإغريق والفينيقيون “أدونيس” – فيقول أدونيس – في قصيدة “الإله الميت” ! – : “وبدلت إله الحجر الأعمى وإله الأيام السبعة بإله ميت” .
ويقول – في قصيدة “موت” – : نمــــوت إن لـــم نخلـــق الآلهــة ! نمــــوت إن لـــم نقتـــل الآلــهة ! يا ملكـــوت الصخــــرة التائهــــــة
ويقول – في قصيدة “هذا هو اسمي” -: طفل يشب وللأرض إله أعمى يموت !
ويقول : ورأيت الله كالشحــــاذ في أرض عـــلي !
ويقول : سقـــــــط الخالــــــــــــق في تابــــوتــــه سقـــــوط المخلــــــــــوق في تابوتــــــه !
هذه نماذج من أثر الوثنية الإغريقية في فكر بعض أدبائنا , وكما رأينا فإن أدبهم يقطر بالوثنية , مع أنهم مسلمون مؤمنون بالله (!!!) , باستثناء أدونيس الذي أعلن أنه “علماني” .
فهؤلاء وغيرهم يكتبون وفق المذهب البرناسي “الفن للفن” , الذي يرجع – في أصوله البعيدة – إلى ما دعا إليه “أرسطو” من وجوب استبعاد الأخلاق من الشعر , وكذلك الإرشاد والتوجيه , فكما رأينا أن منهم مَن مجد الشيطان وجمَّل صورته , وجعله شهيداً مظلوماً , بل صرح بعضهم أنه الخالق , هؤلاء الأدباء يُعَدون من رموزنا الأدبية , فإن عبد بعض أبنائنا “الشيطان” فلِمَ لا نستبعد أن ذلك من أثر ما قرأوه لتوفيق الحكيم وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل وغيرهم , إلى جانب العوامل الأخرى ؟!.