لزكرياء بوغرارة
بقلم جيلالي الحراش
كاتب جزائري
مجموعة قصصية الطبعة الثانية2025
منشورات دار غرب المتوسط للنشر والتوزيع
يُعَدّ أدب السجون من أبرز الأجناس الأدبية التي ارتبطت بالتجربة السياسية والاجتماعية في العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فهو أدب يتأسس على المعايشة المباشرة للقهر والاعتقال، ويجمع بين التوثيق والبوح وبين الإبداع والتاريخ. في هذا السياق، تندرج مجموعة “الأكف الممزقة” التي تمثل شهادة ذاتية صادقة عن تجربة الاعتقال السياسي في المغرب. غير أنّ هذا الصدق الوجودي لا يحجب التوتر الجمالي الكامن في النصوص، حيث يتجاذبها بين الطابع التوثيقي والبعد الفني. من هنا تأتي أهمية قراءة نقدية تفكك عناصر البناء السردي، اللغة، الصوت السردي، والقيمة الفكرية للعمل، لتضعه في موضعه بين الشهادة والتخييل.
أولاً: في إشكالية التجنيس الأدبي
من الصعوبة إدراج “الأكف الممزقة” ضمن جنس أدبي خالص؛ فهي تتحرك بين القصة القصيرة، واليوميات، والخواطر التأملية. هذا التداخل يثري النصوص من جهة، لكنه يُربك المتلقي من جهة أخرى، إذ يفتقد العمل إلى وحدة تصنيفية واضحة. فإذا كانت الهجنة في الأدب الحديث سمة من سمات التجريب، فإنها هنا لا تبدو مقصودة بقدر ما هي انعكاس لانفعال الكتابة في لحظة مأزومة. لذلك يمكن القول إن غموض التجنيس الأدبي يضعف من تماسك البنية الكلية للمجموعة.
ثانياً: البنية السردية وتماسك النصوص
النصوص موزعة على شذرات متفاوتة الطول، يغلب عليها الانفعال اللحظي أكثر من التخطيط المسبق للحبكة. ورغم ما تمنحه هذه البنية المفتوحة من صدق عاطفي، فإنها تكشف عن ضعف في النسج القصصي، حيث تغيب الحبكة المحكمة وتظهر التكرارات (العتمة، الجلاد، الأمل). ومع ذلك، فإن قوة النص تكمن في قدرته على اقتناص لحظات الألم بدقة حسية، مما يجعل القارئ شريكًا في التجربة لا مجرد متلقٍ سلبي.
ثالثاً: اللغة والأسلوب
اللغة في “الأكف الممزقة” هي الرهان الأبرز. فهي لغة مشبعة بالشاعرية، قادرة على خلق صور رمزية بليغة (الأبواب، الجدران، الماء، النار)، لكنها في الآن ذاته لا تتخلص من نزعتها التقريرية والخطابية. هذا التذبذب يعكس طبيعة النص بين الأدب والتوثيق. كما أنّ الإفراط في المونولوج الداخلي يُغرق النص في الذاتية، ويحدّ من انفتاحه على دينامية السرد. ورغم ذلك، يبقى البعد الشعري أحد عناصر القوة التي تمنح العمل تأثيره الوجداني.
رابعاً: الشخصيات والصوت السردي
يتكثف حضور “الأنا” الساردة، فيما تغيب الشخصيات الثانوية أو التعدد الصوتي. هذا الاختيار ينسجم مع طبيعة النصوص الاعترافية التي تهدف إلى توثيق تجربة فردية قاسية، لكنه يحرم النص من ثراء درامي كان يمكن أن يضاعف من قيمته الفنية. وهكذا يتحول النص إلى بوح ذاتي أكثر منه سردًا متعدد الأصوات.
خامساً: القيمة الفكرية والتاريخية
بعيدًا عن الجدل الفني، تكتسب المجموعة أهميتها من بعدها التوثيقي والفكري. فهي تمثل شهادة على مرحلة سياسية حرجة في تاريخ المغرب، حيث يتقاطع الأدب مع السياسة والتاريخ. النصوص تقدم مادة خام صادقة عن تجربة المعتقلين، وتثير أسئلة فلسفية حول الحرية والجسد والموت. غير أن بعض المقاطع تنزلق إلى خطاب أيديولوجي، مما يحوّل النصوص أحيانًا إلى خطب فكرية أكثر منها نصوصًا أدبية مفتوحة على تعددية التأويل.
واخيرا…
يمكن القول إن “الأكف الممزقة” نصّ يتأرجح بين الشهادة والخيال، بين التوثيق والفن. قوته الكبرى تكمن في صدقه وشاعريته، وفي تقديمه شهادة إنسانية مؤثرة عن تجربة الاعتقال السياسي. أما ضعفه فيكمن في غياب الحبكة المحكمة، والتكرار اللغوي، وهيمنة البوح الفردي على حساب البناء الدرامي. وبذلك، فإن القيمة الأساسية للعمل ليست في إنجازه الفني الخالص بقدر ما هي في بعده الإنساني والتاريخي، حيث يتحول الأدب إلى طوق نجاة في مواجهة الموت الصامت، وشهادة على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى نص.