شريف محمد جابر (أبو سلمى)
محمد سليم العوّا نموذج للعلماني المتستّر بثوب إسلامي، وأنا أعجب ممّن يعتبره مفكّرا “إسلاميّا” لمجرّد أنّه كتب في الإسلام!
فالرجل كما ظهر في كتاباته قديما وكما يظهر في حواراته يتبنّى نموذجًا علمانيّا في الحكم، بل لا يرى إشكالا في القوانين المعاصرة للدول العربية، ويزعم أنّها مزيج من مصادر شرعية وأخرى تحددها المصلحة، وتغافل عمّا فيها من تبديل الشريعة في أحكام ثبّتها الله في محكم كتابه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأنها قائمة على التشريع بالأهواء وممّن لا علم له بالفقه بل بأسس الشريعة ممّن هبّ ودبّ من أهل البرلمانات.
وهو في خلاصة طرحه يريد أن يقول للمسلمين: امضوا كما يمضي الناس، لا خصوصية لكم، ولم يمنحكم الإسلام معالم واضحة للحكم. يقول في حواره الأخير مع رباب المهدي: “ليس في الإسلام نظام معيّن للحكم، محدد التفاصيل واضح المعالم.. أُمّال فيه إيه؟ في تحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وهذا واجب كل نظام حكم في الدنيا، أيّا ما كانت الأمة التي يحكمها من حيث الدين والثقافة والاجتماع والتقاليد.. أي أمة مطلوب فيها تحقيق المصالح ودفع المفاسد.. أليس هذا ما تقوله كل الدول في العالم؟”.
ثم حين أراد أن يضرب مثالا على ذلك لم يجد أفضل من مثال ترامب وفرضه للقوانين الضريبية على المستورد من الدول الأخرى تحقيقا لمصلحة أمريكا، ومنع المهاجرين من الإقامة في أمريكا تحقيقًا لمصلحة أمريكا.. ويقول: “كل الدعاوى تتحقق في ظل شعار أمريكا أولا.. هذا نفسه هو الذي يجب أن يطالَب به في كل بلاد العالم، بما فيها البلاد الإسلامية، يعني مصلحة بلدي أولا”.
وهذا من أعجب ما يحدث لمن يتنكّب شريعة الله ويتّبع أهواء الناس، فقد وقع الرجل في أول مثال طرحه في مخالفة صريحة لأحد أهمّ المبادئ الإيمانية (لا الفقهية فحسب) في الإسلام، وهو أنّ المسلمين أمّة واحدة من دون الناس، و”المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا.. وشبّك بين أصابعه” صلى الله عليه وسلّم. و”المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله” كما قال عليه الصلاة والسلام. فأمّة المسلمين أولا، ومصالحهم أولا حيثما كان مكانهم في العالم، ولا يجوز تقديم مصلحة قُطر سياسي إذا كان ذلك على حساب إضرار قطاع كبير من الأمة.
والعجيب أنّ العوّا قد استدلّ قبل ذلك بدقائق بوثيقة المدينة، وزعم أنّ “الإسلام لمّا نشأ أقرّ ما كان صالحًا من أعراف النّاس”، وذكر الوثيقة وقال إنّها ضمنت لكل فئة من الفئات (من اليهود والقبائل) حقّها.. ثم انتقل من هذا إلى القول بأنّ أي دولة مسلمة اليوم “ينبغي أن تراعي حقوق الناس، وعاداتهم، وما اتفقوا عليه قبل أن تنشأ الدولة”!
وحين نفتح الوثيقة نجد في أولها ما ينقض غزله كلّه: “هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛ إنّهم أمة واحدة من دون الناس”.
فهل كان هذا هو عُرف الناس في المدينة قبل هجرته صلى الله عليه وسلم؟ أم كانوا قبائل متناحرة تحكمهم العصبيات القبلية؟ وصحيح أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم راعى الأوضاع القبلية التي لا تخالف الإسلام أو “الصالحة” بتعبير العوّا، ولكنّ العوا يستدل بذلك على إقرار أوضاع الدولة القطرية لا كضرورة نتعامل معها إلى أن يأذن الله بتوحيد أكبر قدر من بلاد المسلمين على قدر الاستطاعة، بل يراها من الأعراف التي يجب مراعاتها والعمل بموجبها من مبادئ الوطنية! فهل قبل الرسول صلى الله عليه وسلّم العصبية القبلية التي تُقدَّم فيها مصلحة القبيلة بسبب الانتماء العرقي؟
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
فحين أراد الأنصار العودة بعد التحريش بينهم إلى التعصّب على أساس الانتماءات القبلية والقتال عليها يبتغي كل فريق مصلحة قبيلته نزلت هذه الآيات في آل عمران، وقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذْ أكرمكم الله بالإِسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألّف بينكم؟ ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا، الله الله”. فبيّن أنّ الإسلام جاء بتغيير شيء أساسي من عادات الجاهلية، وهو متعلّق بالانتماء والولاء.
فكيف يقول العوّا إنّ مبدأ “أمريكا أولا” هذا “هو الذي يجب أن يطالَب به في كل بلاد العالم، بما فيها البلاد الإسلامية، يعني مصلحة بلدي أولا”؟!
فهو يريد منّا أن نقول: فلسطين أولا، سورية أولا، مصر أولا، العراق أولا، إلخ.. أي أن نجعل الأولوية في المصالح لأهل كل قُطر سياسي! وهو نوع من الجاهلية التي ذمّها الإسلام في محكم الكتاب والسنّة. والأصل أن تقدّم مصلحة الأمة والولاء لها على كل مصلحة وولاء، سواء كانت حزبية أو عرقية أو قُطرية.
فما يضرّ قطاعًا أكبر من الأمة لكنْ يفيد قُطرا سياسيا (كما يتوهّم بعض الساسة والقادة!) ينبغي شجبُه ورفضُه لأنّ الأولوية لما يحقق المصلحة للأمة، فالمسلمون أمة واحدة، وهذه ليست مجرد عبارة انتماء ساكنة لا أثر لها في الواقع، بل “المسلمونَ تتكافأُ دماؤهُم، ويسعى بذمَّتِهم أدناهُم، ويردُّ عليهم أقصاهُم، وهم يدٌ على من سواهم” كما جاء في الحديث.
وحين أضاع بعض المسلمين هذا الأصل المتين حدثت شروخ كبيرة وتصدّعات على أسس جاهلية شبيهة بِما كان عليه أهل الجاهلية الأولى، بل لعلّها أشد؛ لأنّ الأوس والخزرج أنذاك آبوا حين ذُكّروا برابطة الأخوة الإيمانية إلى الله عز وجلّ وبكوا وعانق بعضهم بعضًا. بينما تجد بعض المسلمين اليوم يحترف التنظير والتفلسف وليّ أعناق النصوص لشرعنة الهوية الوطنية القُطرية وما يترتّب عليها وإثبات عدم مخالفتها للإسلام!
وإنّ مَن قدّم “مصلحة فلسطين” أو “القضية الفلسطينية” ولم يأبه بأنْ يوالي من يذبح المسلمين ويعين الكفّار عليهم في مساحة أوسع من بلاد المسلمين في سورية والعراق واليمن وغيرها؛ أحدث شرخًا بين قطاعات من الأمة وخصوصا بين كثير من المسلمين في سورية والمسلمين في فلسطين، وأسّس لحالة محتقنة من تبادل الاتهامات والتراشق والتعصّب، ولقطاعات تشعر بحساسية تجاه أهل فلسطين وتتعصّب لسوريّتها القُطرية المخترعَة، وإلى نشوء حوار “نحن” و”أنتم” بين أبناء الأمة الواحدة، حتى عند المصلحين الذين يظنّون أنّهم يصلحون بين “شعبين” مختلفين، فقد زادوا الطين بلّة حين أقرّوا بمبدأ شعبين متخيّلين!
وفاقم الأمر ما عاناه مسلمو سورية من عنصرية من بعض القطاعات في المجتمع التركي، تلك القطاعات التي تحمل شعار “تركيا للأتراك” وترى في اللاجئ أو المهاجر شخصًا يريد سلب حقوقهم وامتيازاتهم كما أوهمهم بعض أقطاب المعارضة لغرض إضعاف خصومهم في السلطة! فانعكس ذلك عليهم سلبًا، وحملوا عنصرية شبيهة في بلادهم تجاه الأجانب من كل طيف، إلّا من رحم ربك من أهل الإسلام الذين ينبذون الهوية الوطنية المنحطّة والذين قاوموا بفضل الله هذه العنصريّات ولم يسمحوا لها بأن تصبح التيار الغالب.
والأمثلة واسعة جدا لفساد هذا المبدأ وآثاره النكدة التي نعيشها في المجتمعات المسلمة، ولو قارنّاه بما كان ماضيا قبل أكثر من قرن بقليل من دولة كبيرة تحتمل شعوبًا مختلفة، فيعيش الكردي بجوار العربي، والتركي في الحواضر العربية، ويأتي الشركسي ليبني قراه في أوساط عربية مسلمة، بل يلجأ الأرمنيّ غير المسلم إلى أحضان الحواضر الإسلامية ليجد فيها السكون والاندماج والراحة.. لو قارنّا هذه الأوضاع الوطنية والقومية اليوم بذلك الوضع على اختلاله لأدركنا القاع الذي نعيش فيه!
كاتب ومترجم