بقلم: أبو الهيثم السلفي
مقدمة لا يسع المقلد جهلها.
اعلم أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن حدود الله معلومة، ومعالم شريعته مرسومة، وعادة الله في هاتكي أستارها معلومة، فمن أطلق لسانه فيها بالتأويل، وأجرى أقلامه فيها بالتعطيل، ونصب عقله حاكما بالتحريم والتحليل، فقد نازع في صفات الرب الجليل، ولم يهتد بضوء السنة والتنزيل، ولم يسلك سواء السبيل، فبشرى له جهنم وساءت من سبيل.
لحوم العلماء مسمومة.
قال الإمام الحافظ ابن عساكر: ” اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، فمن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب“.
هذه مقولة الحافظ ابن عساكر لله دره، التي انتشرت وذاعت، وكثر حافظوها، “ورب حامل فقه ليس بفقيه“!!.
إن الغيبة هي أكلٌ للحمِ من اغتبته، فإذا اغتاب المرء العلماء فقد أكل لحومهم فإذا كانت لحموهم مسمومة فقد هلك آكلها، وهذا مراد الحافظ ابن عساكر ومعنى قوله.
فغيبة الأشخاص العاديين والعوام محرمة، فكيف بغيبة العلماء؟ لا شك أنها أقبح وأن إثمها أعظم، فإذا علم أحدنا لعالم معصية – لم يجهر بها – فليستره، فلا ينبغي أن يحدث عنه بما يكره، ولا أن يهزأ به أو ينتقصه، فتحرم الغيبة فضلا عن البهتان.
تقديس الأشخاص.
لا شك أن الإسلام قد رفع العلماء وأكرمهم، وأمر بتقديرهم واحترامهم، وجعل لهم مكانة ومهابة، وكل هذا الفضل وتلك المنزلة، ليست آتية من شخص العلماء وذاتهم، وإنما وجب لهم ذلك، لأجل العلم الذي حملوه، ولفضل الدين الذي فهموه، ولقدر الواجب الذي أوكلوه، فمهمتهم مهمة الأنبياء، ووظيفتهم تبليغ شريعة السماء، وعدم كتمانها أو تبديلها أو تحريفها، ونفي ما علق بها من غيرها، ودوام تنقيحها من كل فكر غريب عنها، أو حكم دخيل عليها.
فتوقيرهم مشروط بهذا، فهم لا يقدرون لذواتهم، وإنما لما يقومون به من حراسة للدين، وذود عن حمى الشريعة.
وهم – أي العلماء- كما قال الشعراني في الميزان: ” الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة “، فلا يفهم مطلقا أن احترامهم الواجب يعني تقديسهم، وجعل الحبل لهم على الغارب، يقولوا ما يشاءون ويفعلوا ما يريدون.
بل هم- فضلا عمن سواهم – أسرى في يد الشريعة، فإذا تخطوا حدودها، وعبثوا بمعالمها، ومزقوا أستارها، أصبحوا عبيدا آبقين من سيدهم.
الحق بدلائله… لا بقائله.
وليحذر المسلمون من سبب ضلال اليهود والنصارى من قبل وهو اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، يحلوا الحرام ويحرموا الحلال فَيُتَّبعوا، قال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } وكان جواب الرسول صلة الله عليه وسلم على اعتراض واستفسار عدي رضي الله عنه – عن الآية -، أن قال :” ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم؟ ” فقال عدي: نعم، فقال : فتلك عبادتكم إياهم“.
فالأمر جلل، وما أجمل أن نسمع الحكمة من أمير البلاغة علي رضي الله عنه حين قال له الحارث بن عبد الله الأعور : أتظن أن طلحة والزبير كانا على الباطل؟ فقال له:يا حارث! إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.
وما قاله جمال الدين القاسمي:” ما أحسن قول أرسطو لما خالف أستاذه أفلاطون:” تخاصم الحق وأفلاطون، وكلاهما صديق لي، والحق أصدق منه“.
أنت أعلم أم الشيخ الفلاني؟
شبهة تسمع دائما عندما يفلس عبدة الأشخاص من الدليل، ويفتقروا إلى الحجة، شبهة قديمة وجديدة، تصدى لها شيخ الإسلام ابن تيمية فاستأصل شأفتها.
قال – رحمه الله – عندما سئل عن رجل تفقه على مذهب من المذاهب، وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فوجد أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا، وذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث، فهل له العمل بالمذهب، أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث؟
فأجاب – رحمه الله تعالى – إجابة وافية، كان منها قوله: ” … وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه معارضة فاسدة… فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر… وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس – رضي الله عنهما – في المتعة ( أي الحج متمتعا )، فقال له: قال أبو بكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! أقول قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر … ( إلى أن قال رحمه الله ) … ولو فتح هذا الباب (يعني المعارضة بـ” أنت أعلم أم فلان”) ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ويبقى كل أمام في أتباعه بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، وهذا تبديل للدين ويشبه ما عاب الله به النصارى في قوله: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله… }”. ا.هـ كلام شيخ الإسلام الإمام تقي الدين ابن تيمية.
قلت: لقد فتح هذا الباب يا شيخ الإسلام وترتب عليه ما ذكرته من إعراض عن أمر الله ورسوله وتبديل للشريعة، وأصبح الدفاع عن هؤلاء على حساب الشريعة وإن خالفوا قطعياتها، والله المستعان على فساد أهل هذا الزمان.
فانظر أخي كيف وصف شيخ الإسلام هذه المقولة، مع أنه سئل عن الترجيح في المسائل الخلافية، فكيف لو سئل عن أقوال بعض المشايخ التي خرقت الإجماع، وخالفت في المسائل التي لا يجوز فيها الخلاف؟؟!!
{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى… } جاء في قاموس الشريعة:- نقلا عن “قواعد التحديث” “لا يصح لامرئ إلا موافقة الحق ولا يلزم الناس طاعة أحد لأجل أنه عالم أو إمام مذهب، وإنما يلزم الناس قبول الحق ممن جاء به على الإطلاق ونبذ الباطل ممن جاء به بالاتفاق“.
وفيه أيضا: ” والذي يحرم على العالم تضييع الاجتهاد والسكوت بعد التبصرة والإقرار بعد القطع“.
أنواع النصوص الشرعية ومنطقة الاجتهاد فيها.
ونصوص الشريعة منها القطعي ومنها الظني، نصوص لا مجال فيها للخلاف، ونصوص لا مندوحة فيها عن الخلاف، فإذا كانت النصوص تحتمل أكثر من فهم، فلا يوصف أي فهم منها بأنه ( رأي الإسلام)، وإنما يوصف بأنه ( رأي إسلامي)، لكي لا ننكر على غيرنا فهمه، ولا نعتبر رأينا هو الوحيد المعتبر، وأن من سار على غيره لم يلتزم بحكم شرعي.
وإذا رأينا أن فهم غيرنا مرجوح ضعيف جاز لنا أن نقول: :” أخطأ فلان ” وفي هذا القسم من الشرع إذا قيل للعالم أخطأت فمعنى ذلك أنه قيل له ” أثبت أجرا واحدا ” – مع احتمال الصواب – فهو ليس ذما له ولا إلحاقا للإثم به مطلقا، بل على العكس.
أما في المسائل والنصوص التي لا تحتمل أكثر من فهم أو معنى فيقال للمعنى المستفاد منها إنه (رأي الإسلام) ، (1) وما عهدنا العلماء الربانيين يختلفون في هذا القسم من الدين، والرأي الخاطئ هنا لا يقال لصاحبه: ” اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد ” فليس هذا موضعه.
وإنما ينكر على صاحب مثل هذا الرأي، ولا يحترم رأيه ولا يعتبر رأيا إسلاميا ويعتبر معصية ولو كان ذلك هو أحد الأئمة كالإمام الشافعي – رحمه الله – .
لا يقال ” اجتهد وأخطأ” لأن الاجتهاد له موضعه، ولا يجوز أن يوجد في ” المنطقة المغلقة ” من الشريعة – كما يقال – وهي التي لا مجال فيها للخلاف.
ونحن لا نجيز لأنفسنا عدم احترام آراء العلماء التي تخالف قناعاتنا ولا نجيز التحذير من آرائهم ونعتها بأنها ليست من الاسلام، ولكننا في الوقت نفسه نرى أن من واجبنا نحو الشريعة عدم احترام الآراء التي تخالف القطعيات وتخرق الإجماعات والتحذير منها، وتبرئة الإسلام منها.
ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة.
عقد الإمام مسلم في مقدمة صحيحه بابا فقال ” باب بيان … أن جرح الرواة بما هو فيهم جائز، بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة ” وذكر في الباب آثارا تدل على هذا المعنى، ومنها ما رواه بسنده إلى عبد الله بن المبارك قال: قلت لسفيان الثوري إن عبّاد بن كثير من تعرف حاله ( يعني في الصلاح والتقوى )، وإذا حدث جاء بأمر عظيم ( أي لسوء حفظه وعدم ضبطه )، فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى، قال عبد الله ( يعني ابن المبارك): فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عبّاد أثنيت عليه في دينه وأقول لا تأخذوا عنه، وذكر بسنده إلى شعبه أنه قال: هذا عباد بن كثير فاحذروه، وبسنده إلى يحيى بن سعيد قال: سألت سفيان الثوري وشعبة ومالكا وابن عينية، عن الرجل لا يكون ثبتا في الحديث، فيأتيني الرجل فيسألني عنه، قالوا: أخبر عنه أنه ليس بثبت.
ثم قال الإمام مسلم رحمه الله :” وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم، فيما قالوا من ذلك وبينوا. وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم خطر، إذ الأخبار في أمر الدين، إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب”.أ.هـ .
قلت: فكما أن سلفنا الصالح قاموا بالكشف عن حال الرواة ووصفوهم بما فيهم من أجل الحفاظ على الحديث النبوي وعدم الزيادة فيه، لما في ذلك من شر مستطير، ولم يتحرجوا من ذلك بحجة أنها غيبة، فكذلك نحن نسير في الذب عن الشريعة.
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كـــل بدعي أتى بالعجائب
ولـــولا رجـال مؤمنون لهدمــت صوامع دين الله من كـل جـانــب
وذكر الإمام النووي – رحمه الله – في رياض الصالحين:” باب ما يباح من الغيبة”. وذكر ستة أسباب تباح بها الغيبة وقال عند السبب الرابع ” الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه… منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك سائر بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة… ومنها إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقة بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة وهذا مما يغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنه نصيحة، فليتفطن لذلك“.
وكذلك قد قام سلفنا بقمع أهل الآراء المبتدعة، والتشهير بهم وانظر لقول ابن المبارك في جهم بن صفوان، قال: عجبت لدجال دعا الناس إلى النار، واشتق اسمه من جهنم، وشهروا كذلك بالجعد بن درهم ودونوا أسماءهم وغيرهم في كتب الجرح والتعديل وعلم الرجال، فمن عُرف بمنهجه الزائغ وتأويله الباطل ( أي اللعب كما يسميه صاحب جمع الجوامع ) فلا يكتم عليه، بل يشهر به.
فنرى عدم احترام العلماء الذين نافقوا حكام الجور وشهدوا شهادات الزور لهم كما قال بعضهم في وصف حكام الجور حكام مصر: ” إنهم لا يردّون على الله حكما، وإنهم يعملون جاهدين على أن تبلغ الدعوة الإسلامية مداها تحقيقا وتطبيقا ” وأيضا: ” ثقتنا كبيرة في دولتنا أن تزداد حرصا على إحقاق الحق وإبطال الباطل وتدعيم الفضائل والقيم الدينية والخلقية” وذلك في بيان المجلس الإسلامي المستقل ” في 1/1/1989 عقب أحداث عين شمس التي زج فيها حملة الدعوة في السجون – انظر ( الحصاد المر للدكتور الشيخ أيمن الظواهري ص 67..
إننا لا نجيز لأنفسنا السكوت عن علماء السلاطين الذين قالوا ما قالوه في وصف حكام مصر، بينما نرى السكر والعُري والفضائح و(السفارة الإسرائيلية)! في مصر، أبعدها نقول ( إنهم لا يردون على الله حكماً و….) أولئك الذين خرقوا الإجماع الحاصل على أن المرتد يقتل بحبسه، وما ذلك إلا رضوخا لـ” حرية العقيدة “- إحدى ركائز الديمقراطية – بقدر المستطاع.
والعجيب أن يصدر هذا الرأي في رسالة سميت “جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة!! “- وهو للمدعو يوسف القرضاوي -، إنها لا تعمى الأبصار عن ضوء القرآن والسنة ولكنها تعمى البصائر.
{ إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}
ونرى البعض يجيز أن يكون في ظل الدولة الإسلامية حزب شيوعي مرخص!!
إننا لا نستغرب أن تصدر هذه الآراء من كُتَّاب وصحفيين علمانيين، ولكننا نستنكرها ونستهجنها عندما تصدر من بعض أهل العلم!.
أيرضى القارئ الكريم أن نحترم مثل هذه الآراء! وأصحابها! ونقول: “لحوم العلماء مسمومة”، فهل أصبح العلماء أغلى من الشريعة، وإذا اعتبر النيل من العلماء جريمة، أليس ما يقوم به البعض من النيل من الشريعة جريمة تستحق أن يعلن الله وجنوده الحرب عليهم؟؟؟
إن الدين أعظم من هؤلاء، وسنتمسك – إن شاء الله – بالكتاب وبالسنة ونذود عن حمى الشريعة، ولا نتباكى على النصوص!!! – كما زعم بعضهم فالله حسيبه والله المستعان -، نسأل الله الثبات والعصمة والسداد.
تم بحمد الله – بقلم: أبو الهيثم السلفي .
(1) – رأي الإسلام خطأ شائع والصواب أن يقال حكم الإسلام وليس رأي الإسلام لأن الرأي يحتمل الصواب والخطأ وهذا غير وارد في أحكام الإسلام. – الأسوة الحسنة –