بقلم الشيخ / أبو إيثار
قبل البيان
ذكرى الشيخ أبي طلال القاسمي رحمه الله كثيرة الشجون فقد حركت في ذاكرتي الغافية الكثير منها عندما عادت بي للوراء سنوات عديدة يوم إستكتبت فضيلة الشيخ محمد مصطفى المقرئ رحمه الله للمشاركة في ملف كنت أعده العام 1997م عن الشيخ أبي طلال من خلال من عرفوه عن كثب .. وكان لي مع الشيخ المقرئ تواصل فلبى الدعوة مشكورا ولم تمر إلا أيام حتى أرسل لي بهذه المقالة التي أعيد نشرها فيما بعد في عدة منابر ومواقع …. بعد أن نشرت أول مرة في صحيفة مغربية كان هذا قبل ان يشتد عود الانترنت ويغزو العالم ويزاحم المنابر الإعلامية الورقية إلى أن أصبح مهيمنا على الاعلام بذيوعه وقوته….
والشيخ أبو إيثار محمد مصطفى المقرئ الشهير في مصر بكشك الصعيد . كان لاجئا في بريطانيا لسنوات… وكان يضطلع بدور هام في الدعوة الى الله إلى جانب عضويته في اللجنة الشرعية للجماعة الإسلامية قبل عودته لمصر عقب سقوط نظام مبارك ثم هجرته من جديد إلى تركيا التي توفي فيها منذ عدة سنوات رحمه الله وهو إلى جانب إهتماماته بالدعوة والتأليف شاعر فذ قوي العبارة جزل الكلمات عميق في البيان…
كان ذات يوم رفيق رحلة الشيخ أبي طلال القاسمي في السجون المصرية التي قضى فيها الشيخين معا سبع سنوات ……
وجدت فيما كتب الشيخ المقرئ عن رفيقه قطعة أدبية ماتعة كعادته… تهز القلوب وتستقر في الوجدانات
ها هي ذي الشهادة الرائعة عن نجم سطع في سماء الدعوة إلى الله تعالى
لاتخلو من دروس وعبر نقدمها من خلال موقع واإسلاماه من جديد
لهذه الأجيال الناشئة .. لعلها تجد فيها من القدوة ما يكفل لها المضي في طريق الله تعالى……
زكرياء بوغرارة
ألفَيتُ القلم عصيباً، وأنا أُراغم نفسي على تلبية رغبةٍ تأزّمت لها مشاعري، إذ طلب إليّ بعض إخواني أن أكتب عن أستاذ صديق، كان بكلّ المقاييس فوق العادة، وكذلك كان حادث تغييبه كما العهد بكلّ معالم سيرته.
إنّه الداعية المجاهد، والكاتب الأديب، والمربّي والخطيب طلعت فؤاد قاسم، الشهير بأبي طلال القاسمي.. كذلك كانت كنيته وبها كان يناديه إخوانه وتلامذته صغيرهم وكبيرهم، فيشرق وجهه بابتسامة وضيئة، مع كلمات من الإجابة والبشر..
بدأ أبو طلال القاسمي حياته عاشقاً للأدب منذ صباه، وكانت له محاولات أدبيّة وإنتاج واعد في دراسته الثانويّة، حتّى التحق بكليّة الهندسة جامعة المنيا، وهناك -كما كان الحال في كلّ جامعات مصر في منتصف السبعينات- أخذت الصحوة الإسلامية تبعث ضياءها في جنبات البلاد طولاً وعرضاً، ومع أنّ الصحوة كانت لا تزال غضّة طريّة إلا أنّها بدت فتيّة صلبة العود منذ نشوئها، فراح الشباب يتصدّى لمظاهر العصيان باللسان وباليد أيضاً إن لزم الأمر، يدفعه إلى ذلك إيمان خالطت بشاشته القلوب والتزامٌ صادف قلوباً على الفطرة، وعقولاً وجدت ضالّتها بعد حقبةٍ من التيه والحيرة، وبعدما أعلنت كلّ الأطروحات اليساريّة والعلمانيّة إفلاسها وعجزها.
كان التنامي المطّرد للجماعات الإسلامية في جامعات مصر، مع تميّزها الواضح عن الاتجاهات الموجودة يومئذٍ؛ حدثاً حرّك في نفسيّة القاسمي روح التأمّل والتقويم، ثمّ جاءت حركة التغيير الاجتماعيّة داخل مجتمع الجامعة على يد الإسلاميين لتصادف نفسيّةً جسورة توّاقة وقلباً جريئاً غير هيّاب، يعرف ذلك عن أبي طلال كلّ من عاشره.
فسرعان ما دلف الرجل إلى حياة الالتزام، وقد كان لنشأته الدينيّة دور كبير في تهيئته لسلوك هذا الطريق، وما أن خطى فيه الخطوة الأولى حتّى هرول متقدّماً الصفوف، أهَّله لتلك المكانة الخاصّة قوّة الحافظة، وفصاحته الخطابيّة، وشخصيّته الآسِرَة التي حازت احترام إخوانه ومحبّتهم منذ عهده بالالتزام.
فتولّى مسؤولية الجماعة الإسلامية بكليّته ثمّ أميراً لجامعة المنيا كلّها في الفترة ما بين 79-1981م، وكانت جامعات الصعيد قد توحّدت تحت مجلس شوري واحد برئاسة د. ناجح إبراهيم، واختير طلعت قاسم ليكون أحد أعضاء المجلس المختار على مستوى الجامعات، وكانت جماعة الإخوان المسلمين استطاعت في ذلك الوقت أن تستقطب بعض القيادات الطلاّبية من الإسلاميين، حيث كانت قيادات الإخوان حديثة عهد بالخروج من السجن، وكانوا إلى هذا الوقت يقضون أحكاماً مؤبّدة ومؤقّتة منذ محاكمات الحقبة الناصريّة الجائرة، فأرادوا أن يعودوا إلى ساحة العمل الإسلامي من خلال شباب الجامعات الذي استطاع أن يشقّ له طريقاً إلى قلوب الناس، وأن يتحوّل إلى تيّار جماهيري امتدّ إلى خارج أسوار الجامعة.
ولقد كان للقاسمي دور كبير في الحفاظ على التوجّه السلفي للجماعة الإسلامية داخل جامعة المنيا في حين كانت القيادات القديمة للجماعة ألحقت بعض مساجد الجامعة المنتشرة في المدينة بجماعة الإخوان. كما كانت للقاسمي محاولات لإقناع القيادات المستقطبة بالعدول عن قرارها بدخول جماعة الإخوان، ولكنّ كان الأمر قد خرج من يدهم.
وفي سنة 1981 وبالتحديد في الخامس من سبتمبر أصدر الهالك السادات قرارات التحفّظ الأخيرة، وكان القاسمي وقت ذاك طريح الفراش وقدَمُه بالجبس فلم يتمكّن من مغادرة بيته رغم تسريب خبر التحفّظ عبر أحد ضبّاط الأمن المتعاطفين في رسالة يحذّر فيها قيادات الجماعة من القبض عليهم خلال أيّام، حيث سارعت كلّ القيادات إلى الاختفاء إلا القاسمي الذي أقعده المرض حتّى قُبِضَ عليه، وكأنّ الأقدار ادّخرته لأمر آخر، إذ كان وجوده في السجن أثناء عمليّة اغتيال السادات سبباً في تخفيف الحكم عليه إلى سبع سنوات وعدم دخوله في قضيّة الاغتيال أصلاً، وإلاّ فإنّه كان من الطبيعي أن يشمله قرار الاتهام باعتباره عضو مجلس شورى التنظيم السرّي للجماعة.
عقب خروج القاسمي من حبسه بعد قضاء سبع سنوات هي مدّة العقوبة المحكوم عليه بها، لم يكد يستقرّ في بيته حتّى انطلق بحماسته المعهودة يدعو إلى اللـه، وينظّم أمور الشباب في مختلف محافظات مصر حتّى قُبِض عليه بعد بضعة أشهر فقط من خروجه من السجن، وأثناء ترحيله من أحد السجون تمكّن من الهروب بعد أن غافل حارسه، تاركاً معه حقيبته الخاصّة التي جعلت الرجل يطمئنّ إلى أنّه سيعود حتّى بعد أن انقضى على هروبه عدّة أيّام (!!).
وتمكّن القاسمي من إعداد أوراق سفر بشخصيّة أخرى، ليغادر مصر مودّعاً لها بعاطفة مشبوبة، بينما هو يحلم باللحظة التي تتحرّر فيها من قبضة الطغاة، وتعود الكنانة ضاحكة السن بسّامة المحيّا.
لقد كان على موعد مع الجهاد في سبيل اللـه، وهناك فوق أرض أفغانستان المسلمة ضمّ إلى صدره البندقيّة، قد كان ذلك حلمه وأمله، وانطلق يجمع مع قيادات الجماعة إخوانه من شتّى بقاع الأرض عازمين على أن يعودوا رجال مصر الفاتحين، وعلى يد بعض من شارك في إعدادهم كان هلاك رفعت المحجوب في عملية متقنة رفيعة المستوى أدهشت العالم وأطاشت عقل النظام.
ومن فوق أرض أفغانستان إنطلقت أوّل مجلّة دورية سيارة تتحدّث باسم الجماعة الإسلامية، وقد اختار لها أبو طلال اسم “المرابطون”، وكان يكتب أكثرها، ليمنحها من دمه روائع صياغاته وبليغ عباراته، وسرّاً آخر من كتاباته يجعلها نافذة إلى الأسماع موضوعاً لها القبول في قلوب الخلق.
وبعد أن تغيّرت الأوضاع في أفغانستان، اضطرّ الرجل إلى الرحيل وطاف بعدّة بلدان باحثاً عن مأوىً لدعوته، حتّى استقرّ به المقام في دولة الدانمارك، وهناك حصل على حقّ اللجوء السياسي، ومن خلال تواجده هناك بدأ ينشط في دعوته حتّى سلّمت له منابرها بالريادة والأستاذيّة، رغم أن غيره من الدعاة بها كانوا أسبق عليه. وفي نقلة نوعيّة فذّة، بل في طفرة قويّة، استطاع ذلك الطامح أن يؤسّس أوّل برنامج تلفزيوني إسلامي تمكّن من خلاله من عرض فكر الجماعة الإسلامية بمصر، وبيان منهجها ومشاريعها التغييرية في صفائها ونقائها وأصالتها، بعيداً عن تشويه الإعلام الرسمي وتزويره وتشنيعه.
فلم يكن غريباً بعد كلّ هذا أن تضيق به قوى الكفر والردّة فتمالأت عليه خمسة أجهزة مخابرات بقدّها وقديدها ليسلّموه إلى عصابة الحكم في مصر، وليكون آخر حدث نشهده لأبي طلال ككلّ وقائع سيرته ولن يكون الأخير. فإن يكونوا قتلوه فإلى اللـه مع الخالدين -نحسبه كذلك- وإن يكن حيّاً فهو لم يزل كذلك بأعماله وتلامذته ورجاله..
فأبشر أبا طلال…