في عامِي الخامس عشر في رحلة الظلم والقهر، وفي منتصف العِقد الثاني مِن مِشوار القَيد والحَيف، أكتبُ أنا المعني بالأمر هذه الرسالة لعلّها تُصادف ضميرا حياً يَلتفت إلى مأساتي ويُحس بمعاناتي… لِتَخْليصي من كَمَّاشة الجَوْر التي تَأَبَّى ستارها على الإنسدال وتَمَنَّعَتْ حلقاتها على الإنتهاء ولعلّها تَطْرُق واقعاً جديدا أَمْلَتْهُ الجائحة يُصْلِح أخطاء الماضي ويَقْطَعُ مع تجاوزات السَّالِف فالظّرفُ ظرفُ تصفية المظالم وَرَدِّ الإعْتبار للمظلومين وتَنقِيَة السِّجِلاَّت مِن أَغلاط أَنْكَت في الأفراد والجماعات.
مضى عقدٌ ونصفه والأقْبيَة تتقاذَفُني وَقَارِبُ تطوافِ الفجيعة يَلْفِظُني لِمُدْلَهَمِّ السجون وعَاتي السَّراديب بِدون جِناية جَنَيْتُها أو جُرْمٍ اقترفْتُه..
عقد ونصفه وأعوام الإفك والبُهتان تُدَحرِجُ المُنْفَقَ من عُمري في تَعَرُّجات مَحْكوميَة جائرة، نُسِجَت لِيُجْهَزَ عَلَيَّ بِبَطِيءِ الفَتْكِ وَعَلِمَ قاصي الناس قبل دانِيهم أن الذمَّة بريئة والصّحيفة بيضاء نقية وَصَكُّ الإتهام وَاهٍ منهار لَمْ يُؤسَّس على براهين ولمْ يُعْلَ على بيِّنات ولمْ يُمَكَّن له بدامغ حُجَج وكلّ ما فيه مَسطور لم يَسْتَحْضِر رَبَّه عندما انسكب ولم يُرَاعِ لقاءَه عندما تَقاطَر حِبْرُه مُلَطِّخاً ذات اليمين وذات الشمال بِزائِف التُّهَمِ وغليظ الفِرى.. لم أُحَرِّض على تفجير ولم أُجَيِّش لِنَسْفٍ وتدمير ولم أُفْتِ بِحَزِّ رؤوس وقَطع رقاب، وكِفاف التَّطفيف لم تُثبِت فلساً مسروقا ودم بعوضة مُراق، والحمد لله على سلامة المَرء من جنايات احتِطابه لحقوق الناس وَوُلوغِه في دمائهم وأعراضهم وأموالهم فَلَظى القيد إلى انتهاء وإن طال وعُسْر الدنيا إلى زوال وعند الله تجتمع الخصوم، وإنني لن أشهدَ على نفسي بإجرام ولن أُدينَها بسوء فهم ولن أرتضي لها فَرِيَّة تكفيرِ مجتمعٍ مسلمٍ أنا منه وإليه، ومن يَعنيهم الأمر يعلمون براءتي من الغلو وعلى أعينهم دارت مُساجَلات رَدِّ عادياتِ التَّنَطُّعِ والدَّموية، تقرباً للباري جَلَّ شأنه وليس لَهثا خلف فَرَجٍ بيده سبحانه، وَلِي آراء في الحكم والسياسة والإجتماع وأنماطِ التَّديُّن وطرائق التدبير لا أتنَصَّلُ منها ولا أنخلِع من تَبَنِّيها بل أَزُجُّ بها في سُوح التَّداوُل والتَّلاقُح أَعرِضُها على أعيان الفقه ورُواد الفكر وأعلام السياسة والإجتماع وَلِي مواقف من جُملة قضايا أبتَغي من ورائها رِفعَة الأمة ونهضتها وانبعاثها من رَقدَتها لا أَزُفُّها تحت أَزِيز مِدفَعٍ ولا أُرَوِّجُ لها تخْوِيفا بلمعان مُدْيَة ولا أَسُوقُها خلف قرقعة ناسِفٍ، أضعُها على طاولات المُطارَحَة للأخذ والردّ دون زَعْمٍ لطهرانيّةِ تَوَجُّهٍ أو ادعاء لِيَقينيَّة اختيار، بل إشخاصٌ تحت مجهر نقدِ النبلاء، لعلّي أُسهِم في جلب نافع ودَرْء ضارٍ، والوحي هو المعصوم وآراء الناس وإن علت مراتبهم واتسعت مداركهم مُتأرجحة بين الخطأ والصواب والتوفيق والخذلان، والحوار الهادئ هو حَلبة كل نقاش مُثمِر بعيدا عن زعيق الجاهلين وضجيج المُنتحِلين.
عقد ونصفه وقد استهلَكَت السنين من زهرة العمر واقْتاتَت على شباب أُحرِقَ في تَنُّورِ القهر.. يُغادِر القَتلَة ويُخلَى سبيل قُطَّاع الطُّرق وتُشرَعُ الأبواب أمام النَّاهِب والمغتصِب وتَغدُو عليَّ الأعوام وتَروح في دِهليز الغُبن، أُشَيِّعُ أقْفِيَة المُغادرين وأُطالِع صفحات وجوهِ العائدين، أحقّاً تصالَحنا مع ماضينا وأَنْصَفنا مظلومينا؟ لم تَشفع الشواهد العليا التي لا تُحصى ولا تُعَد ولم يَنفع سلوك مِثالي جَاوَزَ الحدّ فما المطلوب حتى تخفف العقوبة أو يفك الوثاق؟
هذا والذِّمّة مُخلاة من كل جُرمٍ والعاتق مُبَرَّأٌ من كل تَبِعَة، هي أفكار أُقبِرَت وراء الأسوار لم تُزرَع بِلُغْمٍ ولم تُسْقَ بدم ولم تَترعرع بتدمير وهدم، وآراء صِيغَت في قوالب النُّصح لكنها أُلبِسَت ثوب الإجرام وأُدينَت بقوانين الإرهاب وأُوصِدَ على صاحبها إلى حين ممات وربنا الرحمن المستعان..
عقد ونصفه ولم يُراعَ في المُعيل عظمٌ واهِنٌ وسنٌّ طاعنٌ وجَيْبٌ مُنهَك..
عقد ونصفه تَيَتَّمَ الوَلَد وأُثكِلَ مَن وَلد والفقيد مَيتُ أحياءٍ تُراوح أنفاسه مكانها بين ظُلمَة الأقبِيَة ووَحشَة الألْحاد الإسمنتية ولو كان على الكاهل جناية مُستحَقة لَقُلتُ هو الجزاء الوِفاق والعقاب العادل المهراق..ولو تَلَطَّختُ بدمٍ وأفتيتُ بعظيم جُرمٍ فَدُوني أعوادُ المشانق وحادُّ شفراتِ المَقاصِل، فقط يُثْبَتُ عرشُ الإدِّعاء ويُنقَش عليه المُستَحَقّ من العقوبات، بَرِيءٌ أمام الله، وأمامه سبحانه المُثُول حيث لا نفس أُزهقت ولا عِرض انتُهِكت ولا قِرش صَدِءٌ اختُلِسَ، بريء أمام كل خَلقِه والحمد له وحده فهو العاصم من ظُلم العباد واستباحة أبشارهم وهتك أستارهم والجَرَاءة على حميميِّ أوكارهم، وإنها الجائحة تدعونا جميعا إلى وقفات وَوقفات.. إلى التقاط أنفاس تحت ظلال أَوْبَةٍ صادقة، أوبة نُقَلِّبُ فيها مامضى من صفحات ونُصحّح من خلالها ما اجترَحنا من مظالم واقترفنا من آثام نَمسَح على رؤوس من آذيناهم وآلمناهم ونُنصف من دُسْناهم وهضمناهم..لقاح هذا الكوفيد العنيد ربانيٌّ قبل أن تُنجِبَهُ المختبرات وتُقَطّرَه الأنابيب فما نَزَلَ عقاب إلا بذنب وما ارتفع إلا بتوبة وأي ذنب أعظم من إقْبار العقود وطَمر الأحياء ظلماً في اللُّحود..هي دعوة مِنِّي إلى من يعنيهم الأمر أن كفى والله كفى.