أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم، الشيخ الإمام العالم العلامة المفسّر المحدّث المجتهد الحافظ شيخ الإسلام، نادرة العصر فريد الدهر تقي الدين أبو العباس ابن الشيخ شهاب الدين ابن الإمام مجد الدين أبي البركات بن تيمية سمع من ابن عبد الدايم وابن أبي اليسر والكمال ابن عبد وابن أبي الخير وابن الصيرفي والشيخ شمس الدين والقاسم الأربيلي وابن علان وخلق كثير، وبالغَ وأكثر وقرأ بنفسه على جماعة وانتخب ونسخ عدة أجزاء وسنن أبي داود، ونظر في الرجال والعلل وصار من أئمة النقد ومن علماء الأثر مع التدين والتألُّه. ثم أقبل على الفقه ودقائقه وغاص على مباحثه. تحوّل به أبوه من حرّان إلى دمشق سنه سبع وستين وستمائة. ويتيمة لقب لجده الأعلى. تمذهب للإمام أحمد ابن حنبل فلم يكن أحد في مذهبه أنبه ولا أنبل، وجادل وجالد شجعان أقرانه، وجَدَّ لخصومه في وسط ميدانه، وفرج مضايق البحث بأدلة قاطعة، ونصر أقواله في ظلمات الشكوك بالبراهين الساطعة. كانت السُّنَّة على رأس لسانه، وعلوم الأثر مساقة في حواصل وجدانه، وأقوال العلماء مجلوّة نصب عيانه. لم أرَ أنا ولا غيري مثل استحضاره، ولا مثل سبقه إلى الشواهد وسرعة إحضاره، ولا مثل عزوّه الحديث إلى أصله الذي فيه نقطة مداره. وأما علم الأصلين فقهاً وكلاماً، وفهماً وإعلاماً، فكان عجباً لمن يسمعه، ومعجزاً لمن يعد ما يأتي به أو يجمعه. ينزل الفروع منازلها من أصولها، ويردّ القياسات إلى مآخذها من محصولها. وأما الملل و النحل، ومقالات أرباب البدع الأُوَل، ومعرفة أرباب المذاهب، وما خُصُّوا به من الفتوحات والمواهب، فكان في ذلك بحراً يتموّج، وسهماً ينفد على السواء ولا يتعوّج. وأما المذاهب الأربعة، فإليه في ذاك الإشارة، وعلى ما ينقله الإحاطة والإدارة. وأما نقل مذاهب السلف، وما حدث بعدهم من الخلف، فذلك فنه، وهو في وقت الحرب مجنّه، قَلَّ أن قطعه خصمُه الذي تصدّى له وانتصب، أو خلص منه مناظره إلا وهو يشكو من الأين والنصب. وأما التفسير فيده فيه طولى، وسرْده فيه يجعل العيون إليه حولا، إلاَّ أنه انفرد بمسائل غريبة، ورجح فيها أقوالاً ضعيفة عند الجمهور مُعيبة، كاد منها يقع في هُوّه، ويسلم منها لما عنده من النيّة المرجُوّة، واللَّه يعلم قصده، وما يترجّح من الأدلة عنده. وما دمّر عليه شيء كمسألة الزيارة، ولا شنَّ عليه مثلها إغارة. دخل منها إلى القلعة معتقَلا، وجفاه صاحبه وقلا، وما خرج منها إلا على الآلة الحدباء، ولا درج منها إلا إلى البقعة الجدباء، والتحق باللطيف الخبير، وولّى والثناء عليه كنشر العبير. وكان ذا قلم يسابق البرق إذا لمع، والودق إذا همع، يملي على المسألة الواحدة ما شاء من رأس القلم، ويكتب الكراسين والثلاثة في قعدة. وحدّ ذهنه ما كلّ ولا انثلم. قد تحلّى بالمحلّى، وتولى من تقليده ما تولى، فلو شاء أورده عن ظهر قلب، وأتى بجملة ما فيه من الشناع والثلب. وضيَّع الزمان في ردِّه على النصارى والرافضة، ومن عاند الدين أو ناقضه، ولو تصدّى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم، لَقَلَّدَ أعناق أهل العلوم بِدرِّ كلامه النظيم [2].وكان من صغره حريصاً على الطلب مجداً على التحصيل والدأب، لا يؤثر على الاشتغال لذّة، ولا يرى أن تضيع لحظة منه في البطالة فذة. يذهَل عن نفسه ويغيب في لذة العلم عن حسِّه، لا يطلب أكْلاً إلا إذا حضر لديه، ولا يرتاح إلى طعام ولا شراب في أبرد به. قيل إن أباه وأخاه وأهله وآخرين ممن يلوذون بظله، سألوه أن يروح معهم يوم سبت ليتفرج، فهرب منهم وما ألوى عليهم ولا عرّج، فلما عادوا آخر النهار لاموه على تخلُّفه، وترْكه لتباعهم وما في انفراده من تكلفه، فقال: أنتم ما تزيّد لكم شيء ولا تجدَّد، وأنا حفظت في غيبتكم هذا المجلد، وكان ذلك كتاب «جنّة الناظر وجنة المناظر» وهو مجلد صغير؛ وأمره شهير، لا شك أنه كان في أرض العلوم حارثاً وهو همّام، وعلومه كما يقول الناس تدخل معه الحمام. هذا إلى كرم يضحك البرق منه على غمائمه، وجود ما يصلح حاتم أن يكون في فصّ خاتمه، وشجاعة يفر منها قسورة، واقدام يتأخر عنه عنترة. دخل على محمود غازان وكلّمه كلاماً غليظاً بقوة، وأسمعه مقالاً لا تحكله الأبوّة من البُنُوّة. وكان في ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وستمائة قد قام عليه جماعة من الشافعية وأنكروا عليه كلاماً في الصفات وأخذوا فتياه الحموبة وردّوا عليه فيها وعملوا له مجلساً فدافع الأفرمُ عنه ولم يبلغهم فيه أرباً، ونودي في دمشق بإبطال العقيدة الحموية، فانتصر له جماعات المشد، وكان قد مُنِع من الكلام ثم أنه جلس على عادته يوم الجمعة وتكلم ثم حضر عنده قاضي القضاة إمام الدين وبحثوا معه وطال الأمر بينهم ثم رجع القاضي إمام الدين وأخوه جلال الدين وقالا: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئاً عزّرناه. ثم إنه طُلِب إلى مصر هو والقاضي نجم الدين ابن صصرى وتوجها إلى مصر في ثاني عشر شهر رمضان سنة خمس وسبع مائة فانتصر له الأمير سيف الدين سلاّر وحطّ الجاشنكير عليه وعقدوا له مجلساً انفصل على حبسه فحُبِسَ في خزانة البنود، ثم نُقل إلى الإسكندرية في صفر سنة تسع وسبع مائة، ولم يمكن أحد من أصحابه من التوجه معه، ثم أفرِج عنه وأقام بالقاهرة مدة ثم اعتُقِل أيضاً ثم أفرِج عنه في ثامن من شوال سنة تسع وسبعمائة، أخرجه الناصر لمّا ورد من الكرك، وحضر إلى دمشق فلما كان في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبعمائة جمع الفقهاء والقضاة عند الأمير سيف الدين تنكز وقرأ عليهم كتاب السلطان وفيه فصل يتعلّق بالشيخ تقي الدين بسبب فتياه في مسألة الطلاق وعوتب على فتياه بعد المنع وانفصل المجلس على توكيد المنع، ثم إنه في يوم الخميس ثاني عشري شهر رجب المفرد سنة عشرين وسبعمائة عقد له مجلس بدار السعادة وعاودوه في فتيا الطلاق عليها وعاتبوه لأجلها ثم أنه حُبِس بقلعة دمشق فأقام بها إلى يوم الاثنين يوم عاشور سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، فأخرج من القلعة بعد العصر سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبعمائة في أيام قاضي القضاة جلال الدين القزويني تكلموا معه في مسألة الزيارة وكُتِب في ذلك إلى مصر، فورد مرسوم السلطان باعتقاله في القلعة، فلم يزل بها إلى أن مات، رحمه اللَّه تعالى في ليلة الاثنين عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بقلعة دمشق في القاعة التي كان بها محبوساً. ومولده بحران سنة إحدى وستين وستمائة.
وأول ما اجتمعت أنا به كان في سنة ثمان عشرة أو سبع عشرة وهو بمدرسته في القصاعين بدمشق المحروسة، وسألته مسألة مشكلة في التفسير ومسألة مشكلة في الإعراب ومسألة مشكلة في الكنى، والحاجب في الحنبلية، فكنت أرى منه عجباً من عجائب البر والبحر، نوعاً فرداً وشكلاً غريباً.
وكان ما ينشد قول ابن صردر:
تموت النفوس بأوصابها * ولم تشكُ عوّادُها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي* أذاها إلى غير أحبابها
وينشد أيضاً:
مَنْ لم يُقَد ويُدَسّ في خَيْشومه * رَهْجُ الخميس فَلَنْ يَقود خميسا
رأيته في المنام بعد موته رحمه الله تعالى كأنه في جامع بني أمية، وأنا في يدي صورة عقيدة ابن حزم الظاهري التي ذكرها في أول كتاب «المحلّى» وقد كتبتها بخطي وكتبتُ في آخرها:
وهذا نَصّ ديني واعتقادي * وغيري ما يرى هذا يجوز
وقد أوقفته على ذلك فتأملها ورآها وما تكلم بشيء».
[بعد ذلك ذكر الصفدي مؤلفات شيخ الإسلام رحمه الله وسردها في ثلاث صفحات تقريباً. ثم أورد أشعاراً في رثاء شيخ الإسلام بالاضافة إلى رثائه فيه]، ثم قال:«وعلى الجملة فكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية أحد الثلاثة الذين عاصرتهم ولم يكن في الزمان مثلهم، بل ولا قبلهم من مائة سنة، وهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، وشيخنا العلامة تقي الدين السبكي. وقلت في ذلك:
ثلاثة ليس لهم رابع * فلا تكن من ذاك في شكِّ
وكلُّهم منتسبٌ للتُّقى* يقصُر عنهم وصفُ من يحكي
فإن تشأْ قلت ابن تيمية * وابن دقيق العيد والسبكي» اهـ
[1] نقلاً عن مخطوط مصور في جامعة أوهايو – كولومبس. [2] هذا هو رأي الصفدي رحمه الله، حيث أن علماء زمانه كانت همة كثير منهم وضع الشروحات والحواشي والاختصارات.. ولم يتصدَّ كثير منهم للضلالات والبدع والصوفيات والفرق المنحرفة التي ضعضعت كيان الأمة. فكلام ابن تيمية -رحمه الله- وجهاده ومناظراته وردوده على اليهود والنصارى والشيعة والفلاسفة والباطنية وغيرهم، مع إثباته لعقيدة السلف الصالح، إنما ردَّ للسنة ومنهج أهلها مكانتهم الحقيقة، وجدد للأمة دينها؛ فرحمة الله عليه من عالم عامل مجاهد.°°°°°
مختصر الوافي بالوفيات للصفدي[1]