الإسلام في أفريقيا بين ماضيه ومستقبله (1/2)
بقلم الأخ / محمّد الحلبي
تعتبر أفريقيا أوّل منطقة وصلتها الدعوة الإسلامية بعد مكّة المكرّمة، وذلك حين هاجر إليها ثلاثة وثمانون صحابيّاً مع عائلاتهم رضوان الله عليهم أجمعين، وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب وعثمان بن عفّان رضي الله عنهما إلى الحبشة فارين بدينهم من بطش قريش وخشية الفتنة. وممّا لا شكّ فيه أنّ احتكاك الصحابة بالسكّان النصارى هناك، والذين كانت كتبهم تنبّئ بقدوم نبيّ جديد تنطبق صفاته على نبيّ الرحمة e ومطابقة ما بين أيديهم من الكتب وما أنزل على النبيّ e… كما ورد في الأثر حين قرأ جعفر بن أبي طالب t صدر سورة مريم على النجاشيّ وأساقفته، بكى النجاشيّ حتّى اخضلّت لحيته، وبكى أساقفته حتّى بلّلوا مصاحفهم.. وقال النجاشيّ كلمته المشهورة «إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة». لقد أدّى هذا الاحتكاك إلى نتيجة حتميّة بدخول بعض السكّان الإسلام واعتناقه ديناً لهم. وممّا يقوّي افتراضنا هذا هو صلاة الغائب التي أقامها النبيّ e على النجاشيّ عند وفاته.
بداية الفتح
إلاّ أنّ انتشار الإسلام بنطاق واسع في أفريقيا بدأ بعد الفتح الإسلامي لمصر عام 20هـ على يد عمرو بن العاص t. وحين تمّ الأمر للمسلمين في مصر توجّهت جحافل النور تنشر دين الله في الشمال الأفريقي، وأوّل جيش وُجِّه إلى تلك المناطق كان جيش عبدالله بن سعد بن أبي سرح عام 27 ه، ففُتِحت طرابلس وجزء من المغرب، وتوقّف الفتح مؤقّتاً هناك حين اضطرّ عبدالله بن سعد إلى الانسحاب لمصر لصدّ هجمات النوبة في جنوب مصر. وفي عام 41 ه توجّه عقبة بن نافع أمير برقة ليتمّ فتح الشمال الأفريقي أو ما يُعرف اليوم بالمغرب العربي، في حين توجّه عقبة بن عام t باتّجاه الجنوب الغربي حتّى وصل إلى الْتِقاء نهرَي النيجر والسنغال (حدود مالي اليوم)، وبنى المساجد هناك وبدأ الدعاة بنشر الهداية. ولم يأت عام 62 ه حتّى كان الإسلام قد وصل إلى المحيط الأطلسي غرباً (موريتانيا اليوم)، وعندما تولّى قيادة الجيش الإسلام حسّان بن النعمان الغسّاني t عام 72هـ، بدأ بالتوغّل جنوباً وغرباً، واستطاع التغلّب على أكبر عقبة في طريقه، فقضى على الكاهنة في جبال الأوراس وجيوشها والتي كانت تحكم قبائل البربر عام 82 ه، وبإحسانه للبربر ورؤيتهم لعدل الإسلام ورحمته أقبلوا يدخلون في دين الله أفواجاً، وكانوا في مقدّمة الجيوش الإسلامية التي كانت تحت موسى بن نصير والتي فتحت الأندلس… ولقد كان لاتّصال موسى بن نصير وجنوده من البربر بقبائل الملثّمين (الطوارق) في الصحراء الغربية دور رئيسي في انتشار الإسلام بينهم وفي وسط أفريقيا، حيث بُنيت المساجد في الصحراء الغربية الكبرى، وكانوا خير رسل دعوة بين قبائل الزنوج في أفريقيا الغربية.. وقد انتشر الإسلام في ربوع أفريقيا بطريقتين رئيسيّتين: بالجهاد، وبالدعوة. ولقد كان الجهاد عاملاً أساسيّاً في الغرب والوسط الأفريقي، بينما كانت الدعوة الأساس في شرق أفريقيا. ولذلك لا بدّ لنا من أن ندرس كلّ قسم على حدّة لنفيه حقّه.
أفريقيا الغربيّة والوسطى
لقد ارتبط الإسلام في أفريقيا الغربية والوسطى وتأثّر تأثّراً مباشراً بما كان يحدث في الشمال الأفريقي وفي الأندلس، وبما كان يدور في عواصم الخلافة في الشرق آنذاك.. ولقد بدأ المدّ الإسلامي في تلك البقاع مع بداية عام 140 ه حين تولّى القائد عبدالرحمن الفهري (حفيد الفاتح الأوّل عقبة بن نافع) أمر أفريقيا. فاستهلّ عهده بتأمين المياه في الصحراء الكبرى، فحفر الآبار وبنى الطرق للربط بينها وبين الواحات المتواجدة هناك لتسهيل الأمر على الدعاة لنشر الحقّ وعلى جنود الإسلام لرفع الظلم عن العباد. ولقد أدّى عمله الفريد هذا إلى دخول الكثير من قبائل الزنوج مظلّة الإسلام.. وفي عام 172 ه وصل إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسين بن علي y من الجزيرة عام 169 ه بعد نجاته من معركة الفخّ في الجزيرة إلى المغرب، فأسّس دولة الأدارسة.. ولحبّه للجهاد بدأ دولته بالغزو باتّجاه الجنوب الغربي، وكان دخول قبائل صنهاجة الإسلام وانخراط أفرادها في جيوشه دافعاً قويّاً لتحرّك الجيوش حتّى وصلت إلى حدود إمبراطوريّة غانا، والتي تعتبر أكبر امبراطوريّة عرفتها أفريقيا. واستطاع التغلّب على جيوشها وفتح بعض أقسامها، إلاّ أنّ اتّساع رقعتها وكثرة عددها لم يمكّن الجيوش الإسلامية من القضاء عليها قضاءً تامّاً حتّى قدَّر الله عام 223هـ أن اعتنق أحد ملوكها، وهو ملك التكرور، الإسلام فنشره في ربوعها وبُنيت المساجد في عاصمتها، وأسِّست بذلك أوّل دولة إسلاميّة في الوسط الأفريقي.
وحين عاود الخلاف الظهور بين الحكام المسلمين في المغرب العربي، خفّف ذلك من انتشار الإسلام في تلك البقاع، وكان هذا الخلاف بين الحكّام يجرّ الويلات على المسلمين، حتّى يسّر الله مُخلِصين وجدوا أنّ اقتتالهم لا يؤدّي إلاّ إلى ضعف صفّهم، فاتّفق قائدان من عائلة واحدة (دولة «المرابطون») أن يوجّها قوّتهما باتّجاه أعدائهما عوض التناحر فيما بينهما، وهذان القائدان هما يوسف بن تاشفين وابن عمّه أبو بكر بن علي، حيث اتّجه الأوّل شمالاً لنصرة المسلمين في الأندلس، واتّجه الثاني جنوباً ففتح السنغال ودعا كبرى قبائلها (قبيلة الفولاني) للإسلام عام 469هـ فاعتنقوه، وبقيت قوّة الإسلام هناك حتّى ضعفت دولة «المرابطون» وبدأت الدول والقبائل بالاستقلال عنها، وكان ممّن استقلّ عنهم قبيلة السونكي التي جدّت واجتهدت في نشر الإسلام حتّى أصبحت كلمة سونكي تعني داعية، وطبّق ملوكهم الشريعة الإسلامية في تلك البقاع وأجبروا شعوبهم على لبس العمامة لتمييز المسلمين عمّن يجاورونهم من الوثنيين، ولا زال المسلمون حتّى عصرنا هذا يتميّزون عن غيرهم في تلك البقاع بلبس العمامة.
ثمّ شاءت إرادة الله أن تضرب المنطقة سنوات عجاف، فهاجرت بعض قبائل الفولاني واتّجهت نحو الغرب، وأسّسوا مملكة الصوصو عام 600هـ في منطقة مالي اليوم، وقضوا على حكّام تلك المنطقة -الذين كانوا هم أيضاً من المسلمين- وقتلوا ملكها وأولاده جميعاً إلاّ صغيرهم سندياتا الذي ما لبث أن أسّس جيشاً قويّاً وبدأ بحرب مملكة الصوصو ثأراً لأهله، واستطاع في عام 633هـ أن يقتل ملك الصوصو ويستولي على أملاكه، وتابع جهاده حتّى استطاع أن يؤسّس أعظم مملكة إسلامية في وسط أفريقيا وغربها، ولم يأت عام 637هـ حتّى كانت مملكته تضمّ كلاًّ من موريتانيا، السنغال، غامبيا، غينيا، مالي، ساحل العاج، ليبيريا وسيراليون، ووصلت جيوشه إلى حدود نيجيريا واستمرّ بالتوغّل في أفريقيا الجنوبيّة حتّى وفاته. وقد كانت تلك المملكة ملاذاً للمسلمين الفارّين من بطش الصليبيين في الأندلس. بقيت هذه الأسرة تحكم حتّى عام 894هـ حيث قضت عليها مملكة الصنغاي التي استقلّت عنها وضمّتها لأملاكها. ومملكة الصنغاي عبارة عن مجموعة من القبائل الزنجيّة التي كانت تعيش غرب نهر النيجر، واستفادت هذه القبائل من ضعف مملكة مالي وتناحر ملوكها فيما بينهم لتوسيع أملاكها على حسابهم. وبقضائها على مملكة مالي أصبحت من أكبر الممالك هناك. وأشهر من حكمها محمد بن أبي بكر الشهير ب«أسكيا محمّد» الذي بلغت مملكة الصنغاي في عهده أوج قوّتها وقام بواجبه الإسلامي فجهّز الجيوش فور عودته من الحجّ عام 901هـ وأعلن الجهاد ضدّ قبائل الموش الوثنيّة، فحاربهم وانتصر عليهم، وامتدّت دولته من المحيط الأطلسي غرباً إلى السودان شرقاً، ومن تشاد شمالاً إلى النيجر جنوباً، وقد حارب البرتغاليين في أكثر من موقعة. وحين دبّ الضعف ثانية في أرجاء تلك الامبراطورية، تكالب عليها الأعداء من كلّ مكان: فمن الشمال كانت على حرب دائمة مع المغاربة، والبرتغاليون في السواحل الغربية، وانفصلت بعض أجزائها عنها، ممّا أدى إلى تقوية مطامع الصليبيين في ضمّ أملاكها إليهم، خاصّة وأنّهم قضوا على المسلمين في الأندلس. وقد كانوا في هجماتهم الأولى يتّبعون سياسة الأرض المحروقة أو التطهير العرقي، فيقتلون كلّ من يقع تحت أيديهم من المسلمين مطبّقين سياسة أعداء الله في الأندلس. ففي عام 848هـ حين احتلّ البرتغال جزيرة أرغن، نظّفوها من المسلمين، ولم يكن الهولنديون بأرحم منهم حين احتلّوا جزيرة غوركيه.
ولم يكن لدولة المماليك أثر يذكر في أفريقيا الغربية حيث شغلتهم الحملات الصليبية المتتالية على الشرق الإسلامي عنها. ولكن حين ساق الله لهذه الأمّة الخلافة العثمانيّة، حاول العثمانيون تخفيف الضغط عن المسلمين في الأندلس، وذلك على مراحل أولاها التوسّع الإسلامي غرباً باتّجاه أوروبا الصليبية، وثانيها بالتوجّه إلى أفريقيا -إلاّ أن توجّههم إلى أفريقيا صُدَّ من قبل بعض الدول الباطنيّة التي استعانت بالصليبيين والإسبان ووقفت في وجه المدّ الإسلامي العثماني، كما حصل في تونس حين سلّم الحسن الحفصي بعض أملاكه للإسبان مقابل وقوفهم في وجه السلطان سليمان القانوني.
ولقد كان لخير الدين باربروس القائد البحري العثماني دور في وقف المد الصليبي وتأخيره، ولكنّ الإسبان والبرتغاليين لم يلبثوا أن استولوا على بعض المناطق كجزر الفيرو التي حوّلها البرتغال إلى مستعمرة وقاعدة لبحريّتهم، وقضوا على الإسلام فيها نهائيّاً، وقتلوا كلّ من لم يتحوّل عن دينه. كما استولوا على المناطق الغربيّة موريتانيا وساقية الذهب وغينيا باسكو وساحل السنغال وغيرها من الدول الساحليّة، إلاّ أن مقاومة السكّان المستمرّة لهم وضعف إمبراطوريّاتهم أبقى للإسلام وجود في أكثر هذه المناطق. ولمّا تبادل الصليبيون الأمكنة وسيطرت كلّ من فرنسا وبريطانيا على هذه الأجزاء بدأ الاستعمار الصليبي بدفع المسلمين إلى الهجرة، وذلك بارتكاب المجازر كمذبحة كبكب التي قام بها الفرنسيون حين جمعوا أربعمائة عالم من مختلف أنحاء تشاد وساقوهم إلى مدينة بشر وقتلوهم بالساطور إرهاباً للسّكان وقتلاً لروح المقاومة عندهم، فأضعفوا بذلك شوكتهم وقسّموا بلادهم.
تمكين النصارى في العصر الحديث
حكم الاستعمار تلك المناطق مستغلاًّ خيراتها ومستعبداً شعوبها، ولمّا شعر بيقظتهم وبداية ولادة روح التحرّر لديهم، وأنّه لا محالة راحل عن تلك البقاع، بدأ بتسليم أتباعه من النصارى الحكم في أغلب المناطق وإن كان أكثر سكّانها من المسلمين، كما حدث في جمهورية بنين التي يقطنها فرع من قبيلة الفولاني الإسلامية، إلاّ أن الحكم بيد النصارى الأقلّية، والأمر أوضح بالنسبة لبوركينا فاسو حيث أنّ نسبة المسلمين هناك 60% والنصارى أقلّ من 15%، إلاّ أنّ الرئيس نصراني. والكامرون تُحكَم من قبل نصراني بعد خلع الرئيس المسلم، مع أنّ أكثر من نصف السكّان من المسلمين. وإذا نظرنا إلى تشاد ذات الأغلبية المسلمة نجد أنّ فرنسا وعميل الاستعمار القذّافي أشعلوا فيها الحرب الأهلية ليمكّنوا بعض النصارى المهاجرين من السودان ووسط أفريقيا من الحكم، ولقد كان لمأساة المسلمين في غامبيا أمر آخر، فلقد كانت محطّة لخطف المسلمين الزنوج هناك وبيعهم كعبيد ليعملوا في مزارع أمريكا التي كانت قد اكتشفت حديثاً آنذاك. وبذلك استطاعوا أن يضربوا عصفورين بحجر واحد، الأوّل إخلاء البلاد من المسلمين، والثاني تحويل العبيد في أمريكا إلى النصرانيّة.
وفي غانا كان لإجبار السكّان المسلمين على ترك دينهم بعض الأثر، إذ تحوّل قرابة ثلث السكّان إلى النصرانية، وحُكموا من قبل رئيس نصراني، وفي غينيا حيث يشكّل المسلمون نسبة 80% من السكّان، والنصارى أقلّ من 1%، إلاّ أن البلاد تُدار بأيد نصرانية تشجّع التنصّر وتضطهد المسلمين تحت مظلّة الشيوعيّة. ولا يقلّ الأمر سوءاً في غينيا باسكو التي يزيد عدد المسلمين فيها على النصف ويشكّل النصارى فيها 6% فقط، ولكنّها تحكم من قبلهم.. وفي ساحل العاج حيث تقطن قبائل الفولاني المسلمة والتي تشكّل الأغلبية، ولكنّ الرئيس نصراني ويعمل على نشر دينه هناك.. والعجب العجاب في ليبيريا، حيث أنّ دين الدولة الرسمي هو المسيحيّة مع العلم بأنّ نسبة المسلمين هناك تزيد عن نسبة النصارى من السكّان. وفي مالي حين قام المسلمون -الذين تزيد نسبتهم عن 95%- بالاحتجاج على وجود حركات التنصير في بلادهم، قامت السلطات بالقبض على بعض القيادات الإسلامية وسجنها بحجّة زعزعة أمن البلاد… والنيجر الإسلامية لا تختلف عن سابقتها إذ أنّ عمليات التنصير تجري على قدم وساق.. أمّا في نيجيريا ذات ال100 مليون نسمة وأغنى دولة بثرواتها الباطنية، فعلى الرغم من أنّ نسبة المسلمين هناك تزيد على 60%، والنصارى تقلّ عن 35%، إلاّ أن النصارى ما زالوا يسيطرون على مقدّرات البلاد. وفي سيراليون، يبلغ المسلمون هناك عشرة أضعاف الأقليّة النصرانية، إلاّ أنّ الرئيس جوزيف مومه -وهو المسيطر هناك- يعمل على توسيع النشاط التنصيري..
بهذه النظرة السريعة على المناطق الإسلامية في وسط وغرب أفريقيا نجد أنّ الأكثرية الإسلامية تُضّطهد من قبل الأقليّات النصرانيّة. أمّا في المناطق التي تسكنها نسبة النصارى عالية كوسط أفريقيا والكونغو وغيرهما، فإنّ المسلمين هناك يذبحون بشكل دائم وبدون سبب إلاّ لأنّهم يرفضون تغيير دينهم.. وعلى الرغم من أنّ النصارى قد قرّروا في أكثر مؤتمراتهم تحويل أفريقيا السوداء كما يطلقون عليها إلى إمبراطورية نصرانية بحلول عام 2000، إلاّ أن الإسلام هناك في توسّع وانتشار، والمستقبل فيها بإذن الله للإسلام.. خاصّة وأنّ الوعي الإسلامي بدأ في الانتشار في وسط أفريقيا وغربها، كما يحدث في تشاد ومالي والسنغال.
{ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} n
المراجع: تهذيب سيرة ابن هشام، عبدالسلام هارون w التاريخ الإسلامي، محمود شاكر ج7-8 w تنصير العالم، الطبعة الرابعة w تاريخ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد بك.