بعض الحقائق الغائبة في موضوع الأرمن
أثار الرئيس الأمريكي بايدن غضب تركيا باعترافه بأن ما يقال عن مذبحة الأرمن قبيل سقوط الخلافة العثمانية هو “إبادة جماعية”، وهو تصنيف تجنبه الرؤساء الأمريكيون لفترة طويلة خوفاً من الإضرار بالعلاقة الأمريكية التركية.
وجاء القرار بعد حملة ضغط قام بها أعضاء في الكونجرس وجماعات أمريكية أرمينية، تحرض على استخدام البيت الأبيض لهذا المصطلح.
وتعني هذه الخطوة الرمزية تغيراً جذرياً في سياسة شديدة الحذر تبناها البيت الأبيض منذ عقود، وسوف يحتفي بها الأرمن في ظل صدام بين أنقرة وواشنطن بشأن عدد آخر من الملفات.
وقد انتقدت تركيا قرار الرئيس الأمريكي وقالت: إنه ليس له أي أساس قانوني “وسيفتح جرحاً عميقاً” في العلاقات الثنائية، ويقوض الصداقة والثقة المتبادلة بين الطرفين، ورفضت الخارجية التركية البيان واستنكرته “بأشد العبارات”.
ويبدو أن الأرمن وجدوا مساعدة هائلة من الغرب بحكم العداء القديم للعثمانيين خاصة والإسلام عامة، فروجوا لمقولات الأرمن، وصدقها قطاع عريض في العالم بما فيه تركيا والعالم العربي، الذي تبنى فيه كثير من الكتَّاب العلمانيين الأتراك والعرب وجهة النظر الأرمنية دون أن يطلوا على الجانب الآخر الذي يكشف حقائق المسألة، ويوضح طبيعة الدور التآمري الخياني للأرمن في تقويض الخلافة العثمانية بالتحالف مع دول أوروبا واليهود.
لقد صدرت بعض الدراسات المنصفة التي تكشف حقائق الغدر الأرمني وجرائم الأرمن ضد العثمانيين، وسط طغيان خطاب الكراهية الذي تنتجه السياسة الغربية والأرمنية، وتتحدث هذه الدراسات عن خيانة أرمنية تسببت في مذابح رهيبة للأتراك الذين احتضنوا الأرمن طويلاً وأحسنوا إليهم وأدمجوهم في الحياة العامة فتولوا الوظائف العليا، واستثمروا وجودهم في الدولة العثمانية للغنى والثراء، وعاشوا يستمتعون في إسطنبول وغيرها مع بقية الأعراق والفئات غير التركية الإسلامية بأكثر مما يستمتع به بعض الأتراك أنفسهم.
هناك دراسة طويلة بعنوان “الطرد والإبادة مصير المسلمين العثمانيين 1821-1922م”، أعدها باحث أمريكي اسمه جستن مكارثي، ونشرتها جمعية أتراك السعودية، تلقي مزيداً من الضوء على الظلم التاريخي الذي لحق بالأتراك المسلمين لحساب الأرمن.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دعم الرسميون الأرمن العلمانيون والمؤمنون الغزو الروسي لمناطق المسلمين في القفقاس والإطاحة بحكامها المسلمين، في الوقت ذاته عمل الأرمن جواسيس للروس ضد حكامهم المسلمين.
فعلى سبيل المثال، كانت المدينة العثمانية دربند تحت الحصار الروسي عام 1796م، فأرسل سكانها الأرمن إلى الغزاة الروس معلومات عن مصادر الإمداد المائي للمدينة، مما أتاح للروس أن يهزموا حاكم المدينة العثماني.
وصرح رئيس أساقفة أرمني اسمه أرجوتنسكي دولجوروكوف علانية في تسعينيات القرن الثامن عشر بأمله وإيمانه أن الروس “سيحررون الأرمن من حكم المسلمين”.
واستمر الأرمن في إرسال رسائل إلى المسؤولين الروس يشجعونهم فيها على الاستيلاء على المناطق التي يحكمها المسلمون وإنقاذ الأرمن من اضطهاد المسلمين!
وقام الرعايا الأرمن المقيمون تحت حكم الدولة العثمانية إضافة إلى الأرمن الرعايا تحت حكم الروس، بالقتال إلى جانب الروس ضد الإمبراطورية العثمانية في الحروب بين عامي 1827-1829م وحرب القِرْم.
كما قاموا بالتجسس لحساب الروس وإرشاد جيوشهم في الأناضول للمواقع الحساسة في الجيوش العثمانية، وحوّل رئيس دير للرهبان أحد الأديرة الأرمنية على الحدود العثمانية الفارسية إلى مستودع أسلحة، وجعله نقطة تسلل لثوريين أرمن يعملون ضد الإمبراطورية العثمانية.
وعندما استولى الروس على مدينة قارص العثمانية، لاحظ المراسل تشارلز وليامز أن الأرمن ساعدوا أصدقاءهم الروس في قتل الجرحى من الأسرى العثمانيين!
وحينما استولى الروس على مدينة أرضروم العثمانية، عيّنوا أرمنيًّا في منصب قائد الشرطة.
وقام الأرمن بالإفادة من وجود الروس فعاملوا المسلمين بقسوة وأهانوهم، كما يقول السفير ليرد.
وعندما عادت المدينة للمسلمين استطاع العثمانيون أن يحافظوا على النظام، وقاموا بحماية الأرمن من ثأر المواطنين المسلمين.
كانت الأحزاب الأرمنية الثورية -كما يقول جستن مكارثي- مستعدة للتضحية بأرواح أرمنية أو مسلمة في سبيل تحقيق أهدافها، كان المخطط العام لخطتهم محاكاة الانتفاضة البلغارية الناجحة عام 1876م، وتحريض أرمن محليين على مهاجمة مسلمين، أو القيام بذلك بأنفسهم، محرضين بذلك على قتل الأرمن، مما سيؤدي إلى تدخل أوروبي لمصلحة قيام دولة أرمنية.
لقد شاعت تمردات الأرمن على الحكومة العثمانية في كل أنحاء الشرق بعد عام 1890م، وشكّل الأرمن عصابات لقتال المسلمين، وسقط كثير من القتلى من الجانبين، ووصل الأمر لمحاول الأرمن اغتيال السلطان العثماني عام 1905م.
وفي 14 أبريل 1909م بدأت الهجمات الأرمنية على المسلمين في منطقة أطنة، متأثرة برجل الدين المسيحي الأسقف موستش، الذي بشر بأمة أرمنية مستقلة، ومات قرابة 20 ألفًا من الطرفين، يقول جستن مكارثي: “كانت أحداث عام 1890 وعام 1909م مهمة في تهيئة المناخ النفسي لعام 1915م”.
وفي عام 1914م اندلعت الحرب العالمية الأولى، وأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، كان الأرمن قبلها ينظمون أنفسهم في فرق لحرب العصابات ضد العثمانيين، فقاموا بتكديس مخازن احتياطية من الأسلحة بتمويل من روسيا، وحين أُعلنت الحرب دخل أرمن الأناضول -الذين رحلوا إلى روسيا في السابق- إلى الإمبراطورية العثمانية من جديد، وقادوا فرق رجال العصابات، وانضم إلى العصابات عدد كبير من الأرمن الذين فروا من الجيش العثماني، الذين شكلوا عصابات قطاع طرق ولصوصية في الأناضول، ثم انضموا إلى القوات الروسية والأرمنية، قدّرت الحكومة العثمانية أن نحو 30 ألف رجل مسلح من إقليم سيواس وحده انضموا إلى القوات الأرمنية، وهو ما يدل -كما يقول مكارثي- على ثورة كبيرة يُخطط لها منذ زمن بعيد.
بدأ الأرمن الهجوم على الوحدات العسكرية العثمانية، وعربات توزيع البريد، ومواقع الدرَك (الشرطة)، ووحدات التجنيد، في مناطق كثيرة، وقطعت خطوط البرق في شرقي الأناضول، وجرت مواجهات عسكرية بين المتمردين الأرمن والقوات العثمانية، وقام الأرمن بمهاجمة قرى مسلمة وقتلوا العديد من المسلمين، ونُفذت خطط الأرمن في الاستيلاء على مدن شرقية حال اندلاع الحرب.
ويشير جستن مكارثي إلى أنه يجب إدراك أن اعتداءات الأرمن جرت قبل إصدار أي أوامر بترحيل الأرمن بمدة طويلة! وأن ثورات الأرمن وهجماتهم على القوات العثمانية في وان وزيتون وموش والرشادية وكواش ومدن وبلدات أخرى، تمت قبل صدور أوامر العثمانيين بالترحيل.
وبداية من عام 1915م ازدادت وحشية وجرائم الأرمن بحق المسلمين سعيًا منهم للاستقلال عن الدولة العثمانية، مستغلين انشغال العثمانيين بالحرب العالمية الأولى، وكانت أعمال الاغتصاب الوحشية -كما يقول مكارثي- جلية في كل مكان، كما شاعت أعمال التعذيب قبل القتل شائعة، ويبدو أن هجمات الأرمن على مسلمي الشرق في أثناء الحرب العالمية الأولى تركزت على القتل بدلًا من الدفع إلى الفرار!
وقد أتى مكارثي بأدلة موثقة كثيرة في كتابه الرائع الفذ على مذابح الأرمن ووحشيتهم وجرائمهم بحق المسلمين العثمانيين، وهذا مثال واحد يخص إقليمًا واحدًا فقط، وهو إقليم وان (Van).
يقول مكارثي: في 20 أبريل (عام 1915م) بدأ الأرمن في وان بإطلاق النار على مخافر الشرطة ومساكن المسلمين، مع تقدم الأرمن وتغلبهم على قوات الأمن العثمانية، أحرقوا الحي المسلم وقتلوا المسلمين الذين وقعوا في أيديهم، كان من ضمن الذين قُتلوا جنود عثمانيون جرحى أو مرضى جاؤوا إلى وان للنقاهة، ودُمرت قُرى زفيه، وملا قسيم، وشيخ قرة، وشيخ عينة، وزورياد باكس، وخضر، وعمق، وآيانس، وورندز، وحرويل، ودير، وزيوانا، وقرقر، وقرى كثيرة لم تُحدد بالاسم، دُمر كل شيء إسلامي في وان باستثناء ثلاثة مبان أثرية، جرى إحراق أو هدم جميع المساجد، دُمر الحي المسلم كاملًا، حين انتهت مهمة الأرمن والمعركة بين العثمانيين والأرمن، بدت وان أقرب إلى خرائب قديمة منها إلى مدينة، وهاجمت العصابات الأرمنية على الطرق كثيرًا من أولئك الذين استطاعوا الفرار، وكانوا يقتلون جميع المسلمين الذين يمرون قريبًا منهم، وقام الأرمن بسرقة ما يحمله المسلمون الفارون، واغتصبوا كثيرًا من النساء.
كان الرد العثماني -كما يقول المؤرخ الأمريكي جستن مكارثي- على الثورة الأرمينية طبيعياً ومشابهاً لرد حكومات القرن العشرين الأخرى التي تواجهها حرب العصابات، وذلك بعزل العصابات عن الدعم المحلي والتخلص من الحاضنة المحلية، وقرر العثمانيون ترحيل السكان الأرمن من المناطق العسكرية الفعلية أو المحتملة، وإعادة توطينهم سلميًّا، وقد أدى القرار إلى تضاؤل هجمات الثوار الأرمن.
ويقول مكارثي: إن قرار إجبار الأرمن على الرحيل صحيح باللغة العسكرية المحضة، لكنه سبَّب متاعب ووفيات كبيرة بينهم، وهذا يبعث على الأسى، ومع ذلك أدى القرار إلى النتيجة المرجوة: تضاءلت هجمات الثوريين الأرمن! وتزايدت متاعبهم ووفياتهم بسبب عنف هؤلاء الثوار ومناصريهم الروس.
ويتجاهل خصوم الإسلام أن المتاعب المفترضة التي جرت للأرمن عند الترحيل جرت في عهد الاتحاديين العلمانيين، بعد أن انقلبوا على الخليفة عبدالحميد الثاني عام 1908م، وجعلوا الخلافة مجرد سلطة روحية، ما لبثوا أن ألغوها تمامًا وعزلوا الخليفة العثماني، وطردوا أفراد الأسرة العثمانية خارج البلاد!
إبان الثورة البلشفية في روسيا عام 1917م تفكك الجيش الروسي وترك الميدان للعصابات الأرمنية التي تقهقرت أمام الجيش العثماني، فخربوا البلاد التي كانوا يحتلونها وقتلوا مسلميها وارتكبوا الفظائع؛ وقال تقرير القائد العثماني “وهيب باشا”: إن الأرمن قتلوا كثيرًا من المسلمين وألقوا بجثث بعضهم في الآبار، وأحرقوا جثثًا أخرى، ومثّلوا ببعض الجثث، وشقّوا بطون المسلمين في المسالخ، ومزقوا أكبادهم ورئاهم، وعُلقت النساء من شعورهن بعد أن كن عرضة لجميع الأفعال الشيطانية، وغير ذلك.
وينتهي جستن مكارثي إلى أن “هجمات الأرمن على المسلمين لم تؤخذ في الحسبان إلا ما ندر، هجمات المسلمين على الأرمن هي التي يهتمون بها فحسب، كان من السهل على المعلقين أن يصوروا المسلمين متوحشين شعروا بين فينة وأخرى بالحاجة إلى قتل المسيحيين!
وقد أعلن الكاتب الفرنسي إيف بينارد أخيراً، رفضه لادعاءات الأرمن حول أحداث عام 1915م، مشيرًا إلى أن دولًا مثل فرنسا وبريطانيا وروسيا ترفض المطالب المتعلقة بفتح أرشيفاتها، لأنها تخشى من حقيقة عدم ارتكاب تركيا لأي إبادة بحق الأرمن.
وأضاف الكاتب في حديثه لمراسل الأناضول عن كتابه الجديد المعنون بـ “نظرة جديدة على وجهات النظر التركية الأرمنية”، أن الأرمن لم يكونوا “القط الوديع”، خلال أحداث 1915م، مشيرًا إلى أنهم ارتكبوا الفظائع بحق المسلمين ما بين سنوات 1914-1915م.
وأضاف: “الثابت بالدليل القاطع هو أن الأتراك كانوا ضحايا المذابح التي ارتكبها الأرمن في الأناضول، تركيا لم ترتكب إبادة جماعية بحق الأرمن”.
ولفت بينارد إلى وجود حملة تضليل يتعرض لها الشعب الفرنسي حول أحداث عام 1915م، مشيرًا إلى عدم وجود أي وثائق تشير إلى ارتكاب الأتراك مجازر ضد الأرمن.
وطالب بينارد الحكومة الأرمينية بفتح دار المحفوظات (الأرشيف) الخاص بها إذا كانت جادة بمزاعمها، وقال: “الحكومة الأرمينية لا تقول الحقيقة لذلك هي لا تريد فتح المحفوظات”.
وهذا ما تأكد رسمياً فيما بعد، فقد شهد عام 2009م أهم تطور من أجل تطبيع العلاقات بين تركيا والأرمن، حيث وقع الجانبان اتفاقين من أجل إعادة تأسيس العلاقات الدبلوماسية، وتطوير العلاقات الثنائية، في أكتوبر، بمدينة زيورخ السويسرية، ويقضي الاتفاقان بإجراء دراسة علمية محايدة للمراجع التاريخية والأرشيفات، من أجل بناء الثقة المتبادلة وحل المشاكل الراهنة، فضلًا عن الاعتراف المتبادل بحدود البلدين، وفتح الحدود المشتركة. وأرسلت الحكومة التركية، الاتفاقين إلى البرلمان مباشرة من أجل المصادقة عليهما، فيما أرسلت الحكومة الأرمنية، نصيهما إلى المحكمة الدستورية من أجل دراستهما، وحكمت المحكمة أنهما لا يتماشيان مع نص الدستور وروحه.
وأعلنت أرمينيا تجميد عملية المصادقة على الاتفاقين، في يناير 2010م، وسحبتهما من جدول أعمال البرلمان في فبراير 2015م. (راجع: صحيفة رأي اليوم الإلكترونية، 16/12/2017) والرابط هو: http://www.raialyoum.com/?p=796411
ولا ريب أن الأرمن يريدون أن يتخذوا من هذه المسالة مسمار جحا ليرتبوا عليها نتائج لا يعلم إلا الله ما هي!–