في هذا الزمن الرديء حيث تختلط الرؤى والتصورات فيقف الانسان المسكين مشدوهاً لا يدري أين يسير ولا أي اتجاه يختار في هذه الحياة ، هذه الحياة التي تتميز بالتمرد البشري على خالقه وخروجه عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، هذه الحياة حيث التيه والضلال هو الطابع العام الذي يصبغ حياة البشر، ويقف الانسان القاصر الناقص الضعيف يشرع من دون الله ، انطلاقاً من هواه ، ويسطر معالم الطريق بنفسية متغطرسة لكي يقود نفسه ومن معه إلى الهاوية وإلى بئر عميق تسمى ” الحياة المادية الغابوية” ، حيث القوي يأكل الضعيف ، وحيث الملكية المادية الفردية والاستعلاء المادي هما اللذان يحددان قيمة الإنسان .
في هذا الزمن حيث يعيش الاسلام غربته الثانية كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، يقف المسلم الواثق في ربه بإيمانه وحده ، يواجه هذا الواقع الفاسد، ويبحث عن السبل التي تخرجه من هذه الضبابية ومن هذه الحلقة المفرغة، ولا شك أن المهمة صعبة والعراقيل متعددة ومعقدة ، ولكن لابد مما ليس منه بد ، لابد من المضي قدماً لاختراق هذا الباطل وهدمه من أجل إقامة الحق وإحقاقه في واقع الناس ، ستكون الرحلة طويلة وشاقة ومكلفة إلى أقصى حد، ولكنه الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى الهدف المنشود.
لقد سبقنا وسار فيه رسل الله الكرام وسطروا لنا معالم هذا الطريق لكي لا يبقى هناك ثمة شك في صحته واستقامته ومن ثم الاقتناع بأن الطرق الأخرى لن تؤدي إلا إلى التيه والضياع { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون }.
القـــاعدة الصلبة :
إن هذا الدين بناء شامخ وثقيل وهو بحاجة – لكي يقوم – إلى قاعدة صلبة متينة تحمله لكي يؤدي دوره في هذه الحياة ، هذه سنة الله في خلقه فلن تجد لسنته تبديلا ولن تجد لسنته تحويلاً ، ولقد كان هذا هو الهدف الأول وبداية كل مسيرة نبوية من قبل ، وسيظل الهدف نفسه لكل طليعة مجاهدة تسعى من أجل إقامة هذا الدين وإرجاعه إلى حياة الناس من جديد.
” إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلّص الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها، والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً. ذلك مع الحذر الشديد من التوسع الأفقي قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة ، فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ماحق يهدر وجود أية حركة لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى، على أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتكفل بهذا لدعوته فحيثما أراد لها حركة صحيحة ، عرض طلائعها للمحنة الطويلة، وأبطأ عليهم النصر وقللهم وبطأ عنهم الناس حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا وتهيأوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة ، ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده – سبحانه – والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ” (1).
والحركة الإسلامية اليوم وهي تقاوم الجاهلية من حولها، لابد أن تحرص كل الحرص -وقبل التفكير في أي شيء آخر- على إقامة هذه القاعدة ولو طال بها المقام في عملية بنائها، لأن هذه القاعدة هو الضمان الوحيد – بعد عون الله ومدده – لاستمرار العمل وفاعليته في ساحة الصراع، وكل الهزات والهزائم التي منيت وتمنى بها الحركة الاسلامية في كل زمان ومكان عبر تاريخها الطويل، إنما كانت بسبب غياب هذا الأساس أو بسبب هشاشته على الأقل.
إن القاعدة الصلبة لا تقاس قوتها وصلابتها بكثرة أفرادها وإمكاناتها المادية بقدر ما تقاس بقوة إيمان هؤلاء الأفراد ومدى استعدادهم للتضحية والمقاومة ولو بوسائل مادية محدودة، وهذه هي خاصيات هذه القاعدة عبر تاريخ الدعوات كلها، والحق لا يقوم إلا على أكتاف القلة القليلة ، كما أن الكثرة دائما على الباطل ويغلب عليها الطابع الغثائي رغم مظهرها المزيف الذي يوحي بالعكس تماماً، وهذه حقيقة قرآنية تتراود كثيراً في كتاب الله عز وجل، لكي لا يدخل اليأس إلى نفوس هذه الزمرة الطيبة الصادقة، القليل عددها ، وهي تقوم لله تقاوم الباطل المتبجح من حولها، يقول عز من قائل { وقليل من عبادي الشكور }، { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم }،
{ وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين }، { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وهذه إشارات إلى قلة عدد هذه الطليعة المؤمنة المجاهدة التي تتحمل أعباء الدعوة والجهاد في سبيل الله إعلاء كلمة الله { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله }. يقول سبحانه وتعالى { وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين } وقوله { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين } ليؤكد سبحانه وتعالى أن النصر يكون دائماً حليف هذه الزمرة المختارة.
دور هذه القـــاعدة الصلبــة :
إن هذا الدور يكاد يلخصه قول الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه، رسول سعد بن أبي وقاص إلى قائد الفرس، حينما سأله هذا الأخير عن سبب مجيء المسلمين إلى أرض فارس ” ما الذي جاء بكم؟ فأجابه الصحابي الجليل بلغة الفقه والوعي العميق لدوره كمسلم في هذه الحياة وكجندي في صفوف الجيش المجاهد ” إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب الله وحده ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
إن الناس اليوم في جاهلية عمياء، جاهلية الاعتقاد والعبادة والتشريع سواء ، والذين الذي يسير حياتهم هو دين البشر، الذي يوافق الهواء ويصطدم مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلابد إذن من عملية ابتعاث جديدة لهذا الإنسان لكي يعود إلى ربه ويكف عن هذا التمرد ، فيدخل في دين الله من جديد كما خرج منه، رغم مظهره الكاذب والخادع الذي يوحي لهم بأنهم مسلمون ، فالإسلام ليس لافتة او شعاراً يرفعه الإنسان ، إنما التزام وأداء وتجسيد وتضحية مستمرة ، وخضوع واتباع لأوامر الله وانتهاء عن نواهيه مهما تناقضت مع الأهواء والشهوات النفسية.
” إن على طلائع البعث الإسلامي ( القاعدة الصلبة) أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرّة أخرى والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها ، على أن تحدد للبشرية مدلول الإسلام الأساسي وهو الاعتقاد بألوهية الله وحده، وتقديم الشعائر التعبدية لله وحده والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها لله وحده ، وأنه بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام ولا تحتسب للناس صفة المسلمين ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك ، وأن تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعاّ، يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية” (2).
إن القاعدة الصلبة تعتبر النواة التي يجتمع حولها أولئك الذين اهتدوا إلى الطريق السوي ودخلوا في دين الله، وهي التي توجههم وتوظفهم داخل لتجمع الجديد الذي التحقوا به لكي يحققوا نصر الله ، ولكن هناك ثمة غموض عن حقيقة النصر ومفهومه الحقيقي لدى الكثير من المسلمين ، وثمة خلط بين النصر الحقيقي النهائي والنصر المؤقت والمزيف، الشيء الذي يؤدي إلى ظهور تصورات غريبة في النفوس تزعزع الصفوف وتؤدي بالتالي إلى الفشل والإحباط.
فما هو مفهــوم النصر وأنــواعه ؟
إن مفهوم النصر الحقيقي هو انتصار العقيدة وتمكينها في القلوب ، وما التمكين المادي الظاهري إلا صورة وتجسيد محسوس لهذا النصر الحقيقي، ولكن الناس بتصورهم القاصر المحدود ، يهتمون بالمظهر ويسعون إلى تحقيق التمكين المادي الظاهري ولو في غياب الجوهر..
” إن الناس يقيسون بظواهر الأمور ويغفلون عن قيم وحقائق كثيرة في التقدير ، إنهم يقيسون بفترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان وهي مقاييس بشرية صغيرة ، فأما المقياس الشامل فيعرض القضية من الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان ، ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك ، وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها.
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم ولكن صور النصر شتى، وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة، إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها، أكان موقف نصر أم موقف هزيمة؟ ما من شك – في منطق العقيدة – أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار،كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار، هذه صورة وتلك صورة، وهما في الظاهر بعيد من بعيد، فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب، والحسين رضوان الله عليه وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب آخر، أكانت نصراً أم هزيمة ؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة، فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً، فما من مشهد وما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه، وكالموقف الذي وقفه، وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده ، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز بالألوف إلى العمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الخيرة التي يكتبها بدمه فتبقى حافزاً متحركاً محركاً للأبناء والأحفاد وربما كانت محفزاً ومحركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال “.
” ما النصر ؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور ومن القيم قبل أن نسأل. أين وعد الله لرسله وللمؤمنين في الحياة الدنيا ، على أن هنالك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة، ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة، لقد انتصر محمد صلى الله عليه وسلم في حياته لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض، فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعاً ، من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة ، فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة، ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، واتخذت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية وفق تقدير الله وتربيته”.
” وهناك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك، أن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها، وحقيقة الإيمان كثيراً ما يتجوز الناس فيها، وهي ى توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في صورة من صوره وأشكاله ، وإن هنالك لأشكالاً من الشرك خفية لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده ويتوكل عليه وحده ويطمئن إلى قضاء الله فيه وقدره عليه، ويحس أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله، ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول، وحين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي الله ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر او صور الخير ، فسيكل هذا كله لله ويلتزم زيتلقى كل ما يصيبه على انه الخير وذلك معنى من معاني النصر ، النصر على الذات والشهوات، وهو النصر الداخلي الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال” (3)
فلا بد إذن من الربط بيم مفهوم القاعدة الصلبة لقليلة العدد وبين مفهوم النصر الحقيقي وأنواعه لكي نفهم أن النصر لا يعتمد على الكثرة ولا على المظاهر المادية بقدر ما يعتمد على القوة الروحية وعلى تمكين العقيدة والمبادئ في النفوس ثم في الواقع.
وهناك حقيقة لا بد أن تكون من الوضوح والجلاء – عند هذه القاعدة الصلبة – بحيث لا تشك فيها قي أنملة ، وهي أن” هذه الدعوة ليست تجارة قصيرة الأجل إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض ، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة، والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل، إنما ينبغي لأه أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الناس ( الجماهير ) حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود، ويملكون تأليب هذه الجماهير على أصحاب الدعوة إلى الله باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات { إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف وان الانضمام إليها في مواجهة الجاهلية كثير التكاليف أيضاً، وأنه من ثم لا تنضم إليها – في أول الأمر – الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا، وان عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جداً، ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق بعد جهاد يطول أو يقصر ، وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً ” (4).
وهذا هو نصر الله الحقيقي والشامل ، الذي يجمع بين التمكين المعنوي ( انتصار العقيدة والمبادئ الربانية ) ، وبين التمكين المادي الظاهري ( وهو خضوع المجتمع البشري لشريعة الله ).
{ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب }.