عرب وبربر مؤامرة لتنصير المغرب واحتلاله
الحلقة الثالثة
للشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي الحسني”
أهداف الفرنسيين من الاحتلال وأساليبهم 2/2
ثم عزز الفرنسيون هذه الخطوة في أول عهد السلطان محمد بن يوسف (محمد الخامس) قبل أن يلتقي بالحركة الوطنية الاستقلالية وينخرط فيها، فاستصدروا باسمه وتوقيعه ظهيرا آخر سنة 1930م، هو ما دعي تاريخيا بالظهير البربري، شرَّعوا بمقتضاه قانونا يفصل بين من صنفوهم عربا، عن من صنفوهم بربرا، واعْتُـبِر بمقتضى هذا القانون أن الإسلام واللغة العربية خاصان بسكان السهول وهم وحدهم العرب والمسلمون، وأن سكان الجبال غير عرب وغير مسلمين، وأوجب لذلك أن تؤسس في مناطقهم محاكم لا تطبق الشريعة الإسلامية ومدارس لا تدرس إلا اللغة الفرنسية.
ثم خطت السلطة الفرنسية خطوة ثقافية أخرى في المناطق التي تعدها وحدها عربية مسلمة بأن قررت فصلهم تدريجيا عن لغة القرآن، بتخصيص حصص في المدارس الرسمية لتعليم اللهجة العربية الدارجة التي استحدثت لها قواعد نحوية وصرفية وتعبيرية، وشهادات ابتدائية وثانوية، ودبلوما عاليا يفتح للحاصلين عليه آفاقا واسعة للتوظيف والترقية.
يقول شارل أندري جوليان [30]: ( بدأت السياسة البربرية باحتشام، بالظهير البربري سنة 1914م، ثم أخذت فجأة صورة علنية بالظهير الصادر في 16 مايو 1930م، وقد أمضاه السلطان الفتي محمد بن يوسف (محمد الخامس)، وهو يقر الصلاحية العدلية للجماعات العدلية التي أنشأها ليوطي، وينشئ محاكم لا تحكم بالإسلام وإنما بالعرف، مركبة من الأعيان ومكلفة بالحكم في جميع القضايا المدنية والتجارية وقضايا المنقولات والقضايا العقارية، وفي كل مادة تتعلق بالأحوال الشخصية أو نظام الميراث، كما تؤسس بمقتضى هذا الظهير محاكم استيناف لا تحكم بالشريعة الإسلامية وإنما بالعرف أيضا، باستثناء الأحكام الاستينافية المتعلقة بالقضايا الجنائية حيث نص البند السادس على أن للمحاكم الفرنسية صلاحية البث في الجنايات المرتكبة بالبلاد البربرية مهما كانت وضعية صاحب الجناية وكل ذلك عملا بالخطة التي وضعت منذ انتصاب الحماية لتكريس العرف وإلغاء الشريعة . ثم أمر السلطان بأن يتلى الظهير الشريف في المساجد والأسواق والأماكن العامةوأن تسرع السلطة الفرنسية إلى تنفيذه في جميع ربوع المغرب.)
وقد برهن إصدار الفرنسيين لهذا الظهير وتوقيع السلطان عليه على مدى الضغط الممارس على السلطة المغربية وممثلها الذي لم يكن يملك من أمره شيئا، وفي هذا يقول “BOBINBIDWELL”:[31] ( ولم يحتج إلى سلطته – أي سلطة السلطان- إلا خلال الاضطرابات التي وقعت عقب صدور الظهير البربري، كما م يحتج لرسائله الشريفة إلا لتزكية قراءة الظهير في المساجد…. إنه يمكننا الترحيب بمواقف السلطان محمد الخامس في السنوات الأولى للثلاثينات، فسلطات الحماية لم تمرنه على السلطة، كما أن الجنرال” Spilman” اقترح أن يروض السلطان على النظر إلى الفرنسيين كأعضاء أوفياء ومخلصين، وأن يروع ويخوف من وجود شباب مغربي في مثل عمره يشجبون ويستنكرون بعنف توقيعه للظهير البربري).
وعن هذا الظهير الذي استصدر لخدمة أهداف الاستعمار والكنيسة الصليبية يقول ” ويلفريد ناب”:[32]( في عام 1930م نفذ الفرنسيون قانونا جديدا على شكل ظهير، والظهير هو المصطلح الذي يطلق على الطريقة العادية التي ينهجها السلطان لوضع التشريعات ذات الصبغة الدينية، وأعطى هذا الظهير شرعية قانونية للمحاكم القبلية التي شكلت للبربر، وبذلك وضعت قبائل البربر تحت حاكمية القوانين الفرنسية…) ثم يضيف: ( ويمكن وصف هذا الظهير بأنه هجوم على الإسلام ومحاولة لتقسيم البلاد).
لقد كان هذا الظهير كما يقول شارل أندري جوليان[33]: ( لصالح الدعاية الكاثوليكية التي يتزعمها حينئذ الأسقف “هاري فيال”، وتنادي بها صحيفة “لو ماروك كاثوليك – المغرب الكاثوليكي”، والمجلة التاريخية لبعثات التبشير ” لا ريفو ديستوار دو ميسيون”، واتهم الإصلاح – أي الظهير البربري – بأنه ظهر في وقت تفاقمت فيه الدعاية التبشيرية الفرنسية ونشطت فيه جهود ضابط فرنسي هو ” الكومندان ماتي” لنشر نسخ من كتاب عن حياة المسيح باللغة العربية، وتنصيب مغاربة من القبائل متنصرين ككتبة بمحاكم الجماعات).
ولذلك قام المغاربة عن بكرة أبيهم في الجبال والسهول والصحارى لمقاومة هذه المؤامرة الفرنسية كما وصف ذلك شارل أندري جوليان[34] قائلا: ( وكان للحملة على الظهير البربري انعكاسات عميقة، فلقد انطلقت الحركة من مساجد سلا حيث ظل دعاء أيام الخطب ” يا لطيف” يذكر عقب كل صلاة ويختم بهذه الجملة” اللهم إنا نعوذ بك من غضبك فلا تفرق بيننا وبين إخواننا البربر”، ودوى جامع القرويين بهذا الذكر ، وأقبل الجمهور على حرم مولاي إدريس يردد نفس الذكر، فكانت بذلك مظاهرة شعبية جعلت السلطة تحرك الباشا، ولتوقيف الإضرابات استقبل الباشا وفدا يتألف من عشرة أعضاء، فلم يقتصر على اعتقالهم بل سلط عليهم عقوبة الجلد…كما لم يهتم أحد أو يتأثر بقراءة رسالة السلطان التي يدين فيها حركة الشباب الاحتجاجية، ويبرر سياسة تكريس العرف البربري).
هكذا عبدت طريق الغزاة الفرنسيين كي يعملوا على تقسيم المغاربة المسلمين إلى طائفتين عرقيتين، عرب وبربر، ويعملوا على تنصير سكان الجبال تمهيدا لتنصير المنطقة كلها، ويؤسسوا مدارس بربرية فرنسية، تستبعد لغة القرآن الكريم مطلقا، وتقطع جذور السكان عن أصولهم الدينية وأنسابهم وأقاربهم في المناطق الأخرى، وتؤلبهم على إخوة الدين والرحم من عرب السهول بدعوى أنهم جنس غريب عن المنطقة، وأن دينهم الإسلامي خاص بجزيرة العرب، وأن الدين الوطني للمغرب هو المسيحية.
ثم أسسوا أديرة وكنائس ومآوى في الجبال ألحقوا بها الأطفال الأيتام والمشردين واللقطاء وعزلوهم عن المجتمع المسلم واقتصروا في تعليمهم على اللهجة البربرية واللغة الفرنسية والدين المسيحي، وكونوا من خريجي هذه المراكز قيادة فكرية وسياسية لتيار جديد في المنطقة مركزه في باريس تحت عنوان” معهد الدراسات البربرية” تسيره الاستخبارات العسكرية الفرنسية مباشرة، بتوجيه من الكنيسة وقسسها، وغايته تحويل شمال إفريقيا – المغرب وتونس والجزائر وليبيا- إلى مستعمرة فرنسية ممسوخة دينا وجنسا ولغة وهوية. ثم تحويل المنطقة كلها إلى قاعدة عسكرية لحرب صليبية تشن على باقي الوطن العربي والعالم الإسلامي. وقد حقق الفرنسيون بتأسيسهم هذه الأديرة والكنائس والمآوى نجاحا لا ينكر، وكانت أكثر النتائج من نصيب كنيسة “تيومليلين” في ضاحية آزرو، بمأواها ومدرستها التي كانت تستوعب أطفال المأوى، وتدرسهم حسب الخطة الاستعمارية المرسومة، لاسيما بعد أن أسسوا لتلامذتها ” جمعية قدماء تلامذة مدرسة آزرو”، ومن هذه المدرسة تخرج منظر هذا التيار المدعو” محمد شفيق”. وكثير من زملائه، وفي هذه الجمعية كان نشاطهم.
وحرصا منهم على تمييع الغيرة الدينية والنخوة الوطنية واغتيال روح المقاومة في مجتمع سكان الجبال الذين أبلوا البلاء الحسن في مقاومة الفرنسيين، أجبروا شباب الأطلس المتوسط – وكانوا شوكة في خاصرة الاستعمار – على الانخراط في الجيش الفرنسي وكونوا منهم لفيفا أجنبيا حكموا بجنوده بلادا إسلامية أخرى، وقاوموا بهم الاحتلال الألماني لفرنسا، فلم يبق في المنطقة إلا الأطفال والشيوخ والنساء، وسلطوا على الأطفال الأديرة والقسس والرهبان، أما النساء فنشروا الفاحشة بين كثير منهن، اختطفوهن واستباحوا أعراضهن للجيش الفرنسي الغازي، وكونوا منهن فرقا للغناء والرقص في المناسبات والاحتفالات والأعراس الفرنسية، بدعوى أن هذا هو الفن الراقي الأصيل الذي ورثه البربر عن آبائهم وأجدادهم، وليس العلم والفقه وعقيدة النخوة والإباء والجهاد، واستمر استغلال هذا العفن الدخيل واستثماره سياحيا في مجتمعاتنا على يد حفنة من المتاجرين بأعراض الأمة وكرامتها بعد الاستقلال، إلى أن شاعت ظواهر يندى لها الجبين، أعراسا علنية وسرية للشذوذ، وأقراصا مدمجة للمخنثين والداعرات، توزع في كافة أنحاء العالم للتسلية والترفيه على غير المغاربة وغير المسلمين، موازاة مع تغييب تراث علماء البربر وفقهائهم ومجاهديهم، حتى لم يعد يذكر عن كثير من مناطق البربر إلا رقص المخنثين من الذكور والإناث ومنكرات الفاحشة والانحلال، وغاب ذكر أفذاذ العلماء والفقهاء والمجاهدين أمثال أبي الحسن اليوسي وعبد العزيز بن إدريس الزموري من الأطلس المتوسط، أوعبد الكريم الخطابي وعبد الله كنون من الريف، أو الفقيه الصالح عبد الله بن حسين المغاري والعالم الجليل المختار السوسي من سوس، أو الأصولي البارع عبد الواحد الونشريسي شهيد محراب العلم بفاس، وامحت من الذاكرة مراكز للعلم كتابا وسنة وفقها وأصولا وأدبا وتاريخا وفلسفة، مبثوثة منذ فجر التاريخ الإسلامي في الجبال والأودية والصحارى، بها عشرات آلاف المخطوطات النادرة، مثل زاويتي تانغملت وتامكروت ومكتبتيهما، وعشرات غيرهما.
وبعد أن أتم الفرنسيون مؤسساتهم الاستعمارية التنصيرية انتقلوا إلى مرحلة جديدة موغلة في المكر، فأخذوا يمهدون لتجاوز السلطان نفسه، والضغط عليه إن تردد في مساعدتهم ومسايرتهم نحو أهدافهم، وظهرت أصوات مسموعة تتساءل عن جنسية السلطان، هل هو عربي أم بربري؟ وعن مدى شرعية جلوسه على عرش المغرب، وأن عليه أن يختار بين صفتي العروبة والبربرية، إذ لكل صفة نتائجها وعواقبها، إن كان عربيا فلا يحق له أن يبقى سلطانا على أرض بربرية، وإن كان بربريا فعليه أن يساهم في تصفية الإسلام واللغة العربية والجنس العربي من البلاد، وفي هذا يقول” BOBIN BIDWELL” [35]: ( واختلف كيرنير وفونتين في ملاحظاتهم حول السلطان، يقول فونتين:” إن السلطان باعتباره عربيا لا يمتلك الحق في حكم مناطق البربر، بينما يعتقد كيرنير أنه مادام السلطان من البربر فلا ينبغي له أن يغازل العرب).
إلا أن هذا المشروع الاستعماري الفرنسي أصيب بنكسة أفقدته صوابه، وذلك بعد اللقاء التاريخي بين السلطان محمد الخامس وبين الحركة الوطنية الناشئة، واتفاق الطرفين على النضال المشترك ضد الحماية الفرنسية ومخططاتها العدوانية على الشعب والوطن والدين والهوية، فكان النصر والاستقلال سنة1956م.
وعلى الرغم من اندحار المشروع الصليبي التنصيري المرتبط بالاستعمار، فإنه ظل بعد الحصول على الاستقلال، ولحد الساعة، يرفض إعلان هزيمته واللحاق بأوليائه ومؤسسيه في فرنسا، بل ويحاول دائما التماسك وتجديد الأساليب وتطوير الوسائل والتمويه على الأهداف، والتسلل إلى الساحة عبر الثقافة والسياسة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، محافظا على قنوات الدعم الأجنبي ماديا ومعنويا ولوجيستيكيا، مرتبطا ارتباطا وثيقا بالاستخبارات الأجنبية، مستغلا تناقض المصالح الحزبية وتضارب التوجهات الفكرية والعقدية، يمارس الابتزاز على كل ساحة وبكل سبيل، مما لا تتسع لشرحه هذه الدراسة الموجزة.
ولئن كان النظام المغربي يعتقد أنه يستطيع احتواء هذا التيار بمثل الأساليب الممارسة حاليا، فهو مخطئ، لأن الفرنسيين والكنيسة الصليبية لن يترددوا في الإطاحة به وإحلال بديلهم الاستعماري العرقي مكانه، إذا ما تأكدوا من قدرة بديلهم العرقي هذا على السيطرة والصمود، لأنه هو الوحيد الذي لا يتورع عن إعلان الردة الرسمية عن الإسلام، وتنفيذ كل ما تريده فرنسا والكنيسة، والتنكر لكل القيم .