*خارطة النقد الحديثي*
الشيخ الدكتور خالد الحايك
إنّ كثيراً من المشتغلين بالحديث في زماننا يهجُمون على النقد الحديثي دون أدوات أو مؤهلات عندهم! وكلّ واحد منهم يريد أن يصبح من أهل العلل والنقد، وهذا حقّ وأُمنيةٌ لأيِّ أحَدٍ، لكن لا بدّ أن يكون عند من يتصدى لذلك ما يؤهله لولوج هذا الباب والتصدر فيه.
في الحقيقة ليجلس كلّ واحد مع نفسه، ويتحاور معها، ويرى ما عنده، ورحم الله تعالى امرأً عَرف قَدر نفسه.
إنّ مَلكَة النقدِ موهبة من الله تعالى في المقام الأول، وجدٌّ واجتهاد من صاحبها، ولهذا لم نجد من أهل النقد عبر العصور إلا القليل مع أنَّ من خاضوا في الحديث ودرسوه وصنفوا فيه كانوا عشرات الآلاف!
إنّ النقد الحديثي طريقه وَعر، وهو يحتاج إلى الصّدق، والإخلاص، والدُربة، والمِراس، وصفاء الذهن، والتفرّغ، حتى تتحَصَّلَ الملكة التي تؤهلُ المرءَ لأن يكون مُتكلمًا فيه.
كما وينبغي أن يكون أمام الناقد خارطة حديث فيها كل ما يتعلق به كخارطة العالَم، ينظر فيها، ويعرف الطرق المؤدية إلى كل بلد، وتقاطع الطرق بينها، وما فيها من حديث وعلماء، فربّما يجد شيئاً في أقصى بلد ما ما يفتحُ عليه أبواباً أخرى في بلد آخر؛ إذ قد ينزل الراوي بلداً ويكون قد سمع أحاديث كثيرة في بلده، فيحدّث بتلك الأحاديث في ذلك البلد الذي نزله، ثم ينشتر تلاميذه في بلدان أخرى وكل واحد معه ما لا نجده عند غيره، بل لا نجده في بلده الأصلي عند الرّواة الذين سمعوا الحديث مع شيخهم هناك، مع ما نجد عندهم من الفوائد والأخبار والحكايات التي لا يَستغني عنها الناقد فيعرفُ بها علل الأحاديث، وكيف تقع الأوهام والأخطاء.
ومما ينبغي التنبيه إليه أنَّ تتبعَ رحلاتِ المُحدّثين وكيفية سماعهم وروايتهم الحديث، ومعرفة ما حصل معهم من أحداث يعدُ أساس هذا العلم؛ فإذا أردنا مثلا تتبع رحلات الإمام البخاري، ومتى دخل كل بلد؟ وكيف سمع من الشيوخ؟ وكيفية كتابته الحديث، ومعرفة مقدار الحديث الذي كتبه عن كل أحد، وعلاقاته مع شيوخه، ثم علاقاته مع تلاميذه، وكيف أخذوا عنه، ومتى؟ فكل ذلك سيعطي الناقد خارطة واسعة تكون أمامه يبحث فيها عن جزئيات لا يراها أيّ أحد، فيخرج بأشياء لا تخطر على بال، ولعلها لا توجد عند أحد.
من هنا يتضح لكل ذي لبٍّ أنَّ الأمر جِدّ مُعقد، وليس بالسهل والهين، وما نراه من فوضى علمية – وخاصة فيما يسمى بالبحوث المحكّمة – يُشوّه هذا العلم الجليل الدقيق؛ حيث لا تكاد تجد إلا الجمع من هنا وهناك مع الولع في تسمية كثير منها: “دراسة نقدية حديثية”! فإذا ما نظرت فيها لا تجد نقداً!
نعم. إنّ الجمع مهم وفيه فائدة، لكن الأكثر أهمية استثمار هذا الجمع، وحُسن استنطاق النصوص على نحو يمكن الناظر في كل ذلك من الخروج بنقد ليس موجوداً في الكتب، ولهذا فإنَّ ما نراه عند الكثيرين هو من باب التقليد! وهذا لا يُنقص من قيمة تقليد العلماء في نقدهم، وكلامنا ليس بخصوص هذا، لا بل في الدخول في صفِّ هؤلاء النقاد، وتعرف طرائقهم، والمقارنة بينهم، والبناء على بنيانهم، على نحو يصبح عند المرء المشتغل بذلك الشأن المَلكة النقدية التي لا يستطيع المرء أحياناً التعبير عنها من خلال ما عنده من شبكة كبيرة من المعلومات على تلك الخارطة التي أمامه، فيأتي بأشياء يحاكي فيها أئمة النقد قديمًا، وحينها سيَلحقُ بركابِهم بعون الله تعالى.
إنّ ما نراه الآن مما قيل إنه من النقد الحديثي أكثره ليس نقداً، ولا يصنع الناقد الحقيقي، وإنما هو محاولات لدخول هذا الباب العَسِر دخوله إلا من هيأ الله تعالى له مفاتيح الدخول.
وفي الختام نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل العلم والفهم، وأن يحفظ لنا هذا العلم، وينفي عنه عبث العابثين.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.