وقفة مع كتاب الأغاني وإشادة العلمانيين به
د. هاني السباعي
قبل الشروع في التعليق على كتاب الأغاني وصاحبه الأصفهاني سنتكلم بإيجاز عن البيئة السياسية التي ظهر فيها هذا الكتاب على النحو التالي:
البيئة السياسية التي ظهر فيها كتاب الأغاني[2] :
لقد ظهر كتاب الأغاني في عهد دولة بني بويه (320 هـ إلى 477 هـ)؛ هذه الدّولة الخبيثة تحتاج إلى إعادة تقويم لما جرّته من ويلات على تاريخ المسلمين، وقد تولّت هذه الدّولة كبر حملة تشويه الصّدر الأوّل من الإسلام.. فلأول مرّة تظهر الكتابات الشُّعوبيّة التّي تطعن على جنس العرب بل وتُشكّك في الإسلام، وتُعظّم الفرس.. أمّا عن نشأة هذه الدّولة المنحرفة: “وظهر بنو بُويه في عالم التّاريخ الإسلاميّ في أوائل القرن الرّابع الهجريّ من خلال ذلك الغموض الذي اكتنف تاريخهم قبل ذلك (..) وإن نسب هذه الأسرة مسألة يحوطها الشكّ، الملوك والأمراء الذّين تظهر عظمتهم مرة واحدة”[3] لذلك لا غرو أن نجد تاريخ الإسلام مشوّهاً إلى بداية عهد بني بُوية 320 هـ.. وسبب ذلك أنّ هذه الدّولة البُويهيّة كانت مكروهة لدى عامة المسلمين وخاصّتهم.. وكان النّاس يحتجّون عليهم بسيرة السّلف الصالح، وضاق بنو بُوية ذرعا من هذا الاحتجاج.. فظهر شعراء وكتّاب شعوبيّون حاقدون على جنس العرب، بل وعلى أهل الإسلام وذلك بإيعاز من السلّطة الحاكمة لأنّ الخليفة العبّاسيّ لم يكن له إلا الاسم فقط؛ فقد ذكر ابن خلدون في تاريخه حالة الضّنك والخراب الذي عمّ المسلمين في عهد بني بُويه.. فليراجع (تاريخ بن خلدون الجزء الرّابع).. “إنّ آل بُويه قد اشتروا ضمائر أهل الطّمع، والانتفاع الشّخصيّ، من ضعفاء النّفوس، فراحوا يكيلون لهم المديح جزافاً حتى جاوزوا المقدار. هذا أبو هلال الصّابي، يضع كتاب <التّاجي> وهو سجين، وقد مرّ به بعض أصحابه فسأله فقال: ((أباطيل أُنمّقها وأكاذيب أُلفّقها في تاريخ آل بُويه”[4] حتى علماء النّحو تقرّبوا إليهم مثل أبي عليّ الفارسيّ عالم اللّغة والنّحو “ففي سنة 341 هـ جاء إلى حلب؛ إلى بلاط سيف الدّولة استدعاه إلى شيراز ليؤدّب أبناء أخيه خُسْروَهْ (كسرى) فنال حظوة عند عضد الدّولة وألّف له الإيضاح والتّكملة”[5]
وهذا أبو الفرج الأصفهاني (ت 356 هـ) يؤّلف كتابه الضّخم <الأغاني> للوزير أبي الحسن محمّد بن الحسن المهلّبي.. ورغم أنّه كتاب أدب وشعر وليس كتاب تاريخ بالمعنى الاصطلاحيّ.. إلاّ أنّ هذا الكتاب كان تكأة المستشرقين والعلمانيّين وضعاف النّفوس في النّيل من تاريخ الإسلام وأهله.. وصار عمدة في تقييم التّاريخ الإسلاميّ.. وجلّ حجّتهم البالغة هذه القصص والحكايات التي ذكرها الأصفهاني عن المغنّيين وأهل الطّرب والمجون، حيث صار تاريخ السّلف الصالح إلى سنة 289 هـ عبارة عن مجموعة من المتاّمرين سفاكي الدماء.. ومجموعة من الحمقى همّهم القصف واللّهو.. هذا هو تاريخ الإسلام الذي قدّمه الأصفهاني للتاريخ لينال حُظوة آل بُويه.. ورغم أنّ أعلام المسلمين وأهل الحديث الموثوق في أمانتهم العلميّة قد فضحوا هذا الكتاب وحذّروا منه.. إلاّ أنّ هناك إصراراً عجيباً من قبل الدّارسين في هذا الزّمن من علمانيّين ومن على أشكالهم على الاعتماد عليه في كثير من تحليلاتهم المهترئة.
قال عنه الحافظ أبو الفرج بن الجوزي: في ذكر من توفي في سنة 356هـ قال: “علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان، أبو الفرج الأصبهاني وكان يتشيّع ومثله لا يوثق بروايته، فإنّه يصرّح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، وتهّوين شرب الخمر وربّما حكى ذلك عن نفسه ومن تأمّل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر”[6] وليس هذا رأي ابن الجوزي فقط بل جمهرة علماء الأمّة كالخطيب البغدادي وابن كثير وابن تيمية وغيرهم.. “وعلى كل حال فإنّ كتاب الأغاني كُتب في عهد آل بُويه، وتناول الغناء وما يتعلّق به مع أخبار شائنة منذ الجاهليّة إلى عهد الخليفة المعتضد بالله المتوفّى سنة 289 هجرية، وسكت عمّا بعد ذلك فهل انقطع الغناء؟ أم أنّه أراد أن يسكت قبل مجيء العهد البُويهي، لئلا يضطر إلى ذكر أشياء قبيحة لا يحسن ذكرها؟ لذلك نال الكتاب رضا آل بُويه، واتّفق مع رغبتهم وهواهم في تشويه تاريخنا، والدسّ والافتراء والكذاب على آل البيت النّبوي الشّريف، وعلى الأمويّين، وعلى أعلام أمّتنا ولذلك كان عضد الدّولة البُويهي لا يفارق كتاب الأغاني“[7]
كان أبو الفرج الأصفهاني مع كونه من صميم بني أمية، متشيعاً فقد قال عنه التنوخي: “ومن المتشيعين الذي شاهدناهم أبو الفرج الأصبهاني، كان يحفظ من الشعر والأفغاني والأخبار، والآثار المسندة والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله”[8]
وقال عنه ابن الأثير وهو يعدد الذين ماتوا في سنة 356هـ: “وفيها توفي أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصبهاني الأموي/وهو من ولد محمد بن مروان بن الحكم الأموي/وكان شيعياً، وهذا من العجب”[9].
وقال ابن شاكر في عيون التواريخ: “إنه ظاهر التشيع”[10].
وقل محققا كتاب الأغاني: “يجمع كل الذين تحدثوا عن النواحي الخلقية لدى أبي الفرج علي أنه لم يكن له عناية بنظافة جسمه وثيابه، فقد كان وسخاً قذراً في ثوبه وفعله، وكان الناس يحذرون لسانه ويتقون هجاءه، ويصبرون في مجالسته ومعاشرته ومشاربته، وكان أكولاً نهماً، وكان إذا ثقل الطعام في معدته تناول خمسة دراهم فلفلاً مدقوقاً ولا يؤذيه ولا تدمع عيناه.”[11]
أما عن الرواة الذين اعتمد عليهم الأصفهاني في سرد مروياته فهم طبقاً لمنهج الجرح والتعديل؛ كذابون مجروحون ولنأخذ عينة من هؤلاء:
الأول: محمد بن السائب الكلبي:
قال عنه الجوزجاني: “الكلبي محمد بن السائب: كذاب ساقط. حُدثتُ عن المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: كان بالكوفة كذابان، فمات أحدهما، والسُدِّيُّ والكلبيُّ. حُدثتُ عن علي بن الحسين بن واقد حدثني أبي قال: قدمتُ الكوفةَ ومُنْيَتي لقيّ السدي، فأتيتُه فسألتُه عن تفسير سبعين آية من كتاب الله تعالى فحدثني بها، فلم أقم من مجلسي حتى سمعته يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فلم أعد إليه. وأما الكلبي فالأمر فيه أطمُّ وأعظمُ. سمعت سليمان بن معبد يقول: حدثنا الأصمعي قال: سمعتُ قُرَّةَ بن خالدٍ يقول: كانوا يرون أنَّ الكلبي يُذَّرَفُ. قلتُ للأصمعي: ومالتذريف؟ قال: الزيادةُ.”[12]
قال عنه الحافظ ابن حجر: “”متهم بالكذب، ورمي بالرفض. قال ابن حبان: كان الكلبي سبئياً من أولئك الذين يقولون إن علياً لم يمت وأنه يحتاج إلى الإغراق في وصفه. قال ابن معين: ليس بثقة. وقال الدارقطني: متروك”[13]
الثاني: محمد بن أحمد بن مزيد ابن أبي الأزهر البوشنجي: قال عنه الحافظ ابن حجر: “فيه ضعف، وقد تُرك، واتُهم في لقائه أبا كريب ولُينا. مات سنة خمس وعشرين وثلاث مئة. وقيل: بل هو متهم بالكذب فقط. روى المعافى بن زكريا، عن ابن أبي الأزهر محمد بن مزيد حديثاً موضوعاً في فضل الحسين رضي الله عنه. قال حدثنا علي بن مسلم الطوسي، حدثنا سعيد بن عامر، عن قابوس بن أبي ظَبيان، عن أبيه، عن جده عبد الله، وقال مرة: عن أبيه عن جابربن عبد الله رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفحِّج ما بين فخذي الحسين، ويقبل زُبَيْبَتَه ويقول: لعن الله قاتلك، قلت: ومن هو؟ قال رجل من أمتي يبغض عِترتي، لا تناله شفاعتي، كأني به بين أطباق النيران). قال الخطيب: وما يبعُد أن يكون ابن أبي الأزهر وضعه، فقد وضع أحاديث، ويروي عنه الدارقطني، اتهى. وقال الخطيب: غير ثقة، يضع الأحاديث على الثقات. وقال الدارقطني: كان ضعيفاً في ما يرويه، كتبت عنه أحاديث منكرة. وقال الحسن بن علي البصري: ليس بالمرضي. وقال المرزباني: كذَّبه أصحاب الحديث، وأنا أقول: كان كذاباً، قبيح الكذب، ظاهرَهُ.”[14]
الثالث: الهيثم بن عدي الطائي توفي 206هـ:
“قال البخاري: ليس بثقة، كان يكذب. وروى عباس، عن يحيى: ليس بثقة، كان يكذب. وقال أبو داود: كذاب. وقال النسائي وغيره: متروك الحديث. قلت: وكان إخبارياً. قال عباس الدوري: كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب؟! وقال النسائي: الهيثم منكر الحديث. وقال أبو حاتم: متروك الحديث، محله محل الواقدي. وقال أبو زرعة: ليس بشئ. وقال العجلي: كذاب، وقد رأيته. وقال يعقوب بن شيبة: كانت له به معرفة بأمور الناس وأخبارهم، ولم يكن في الحديث بالقوي، ولا كانت له به معرفة، وبعض الناس يحمل عليه في صدقه. وقال الساجي: سكن مكة، وكان يكذب. وقال الإمام أحمد: كان صاحب أخبار وتدليس. وقال الحاكم والنقاش: حدث عن الثقات بأحاديث منكرة، زاد الحاكم: وذلك مع علمه ومحله. وذكره ابن السكن وابن الجارود، والدارقطني في الضعفاء. وقال ابن يونس في تاريخ مصر: الهيثم غير موثق. وقال محمود بن غيلان: أسقطه أحمد، وابن معين، وأبو خيثمة. وقال أبو نعيم: يوجد في حديثه المناكير.”[15]
الرابع: أبو توبة القاص: “شيخ بصري، ضعفه الدارقطني. وقال الساجي: بصري كذاب.”[16]
الخامس: عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب:
قال خلف الأحمر: “كان يضع الحديث. وقال البخاري وغيره: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال عبد الواحد بن علي في مراتب النحويين: كان يضع الشعر، وأحاديث السمر، كلاماً ينسبه للعرب، فسقط علمه، وجُفيت روايتُه، وكان شاعراً وعلمه بالاخبار أكثر. وقال الآجُرّري عن أبي داود: سمعت أبا حاتم عن الأصمعي قال: قال لي خلف الأحمر: آفتُنا بين المشرق والمغرب: ابن دأب يضع الحديث بالمدينة، وابن شَوْكَر يضع الحديث بالسِّند.”[17]
وبعد: “فهذه طائفة من الرواة الذين اشتهروا بالكذب، وعُرفوا بالوضع، والدجل، يعتمد عليهم أبو الفرج، ويروي عنهم الروايات الكثيرة، التي تسئ إلى تاريخنا، وأدبنا، ورجالنا، وأعلامنا.. وإذا كان هؤلاء الرواة يتجرؤون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالكذب، فهم أشد جرأة في الكذب على سائر الناس. ورب سائل يقول: إن أخبار الأدب والغناء والسمر، لا تُشْتَرَطُ فيها شروط التوثيق الواردة في الحديث الشريف والسيرة النبوية الكريمة، وإن علماءنا كانوا يتساهلون في الرواية لغير أحاديث الأحكام والعقائد. فنقول: ذلك صحيح، عندما يكون الرواة من المعروفين بالعدالة والثقة، وأما الرواة المجروحون والمطعون عليهم، فكان العلماء يجتنبون الرواية عنهم في كل شئ، لأنهم غير مأمونين. ومع ذلك فقد يتساهلون في رواية أو روايتين، أما أن تبلغ الروايات عنهم عدة مئات، وتمتلئ صفحات الكتاب بأسمائهم البغيضة، فهذا ما لم نعهده عند الحريصين على تاريخنا وأدبنا وقيمنا… وإنما نجد ذلك عند الهدامين، والشعوبيين، والدجالين، والمشعبذين والمستشرقين، والحاقدين، الذين أعماهم الحقد على هذه الأمة المجيدة، وتاريخها المشرق الوضاء، وأدبها الكريم، وطبعها السليم، فأكل قلوبهم الحسد… فتحروا الأخبار الواهنة ليملأوا بها صفحات سوداء مظلمة، تسئ الصديق وترضي العدو.”[18]
هكذا استبان لنا كتاب الأغاني على حقيقته؛ رواة كذابون، ومؤلف مستهتر يصرح عن نفسه باقتراف المحرمات. ورغم ذلك يصر طه حسن وحسن مروّة، وشفيق جبري، وأحمد علبي وبقية الطابور العلماني في العالم الإسلامي يصرون على أن كتاب الأغاني هوالصورة الحقيقية للمجتمع الإسلامي في خير القرون خاصة القرنين الأول والثاني الهجري! فالمجتمع الإسلامي في هذه القرنين وما بعدهما إلى سنة 289 هـ طبقاً لكتاب الأغاني: عصر المتناقضات: فقه + أصحاب شك + مجون وخلاعة + إلحاد وزندقة + شعوبية + مغنى وطرب + عشق للنساء والغلماء = الدين الإسلامي في صورته الحقيقية!! هكذا يصورون لنا ديننا!! فديننا الحنيف صار يؤخذ من كتاب الاغاني وغيره من الكتب التي تنتسب إلى علم الأدب! فديننا يؤخد من المصدر الأول للتشريع (القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة)، يؤخذ من كتب الصحاح والسير الموثوقة!! لكنهم لا يزالون يمجدون في كتاب الأغاني! والعجيب! أنهم في الوقت الذي يوثقون روايات صاحب الأغاني! نجدهم يشككون في كتب الصحاح التي تلقتها الأمة بالقبول!
فهؤلاء القوم لديهم جرأة غريبة على عقائد الإسلام، فالسيرة النبوية على حد زعمهم مشكوك فيها وحتى لو كانت في البخاري!! والقرآن منتج ثقافي! والوحي خيال فلسفي والنبوة أشبه بالكهانة! سبحانك هذا بهتان عظيم! فمعاولهم في هدم بنية الإسلام ولحمته لم تفتر ولم تكل سواعدهم ولم تخف بعد أمداد أقلامهم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32).
وعلى نفس الوتيرة الحاقدة يعزف المستشار سعيد العشماوي من خلال مجموعة من الكتب والمقالات، فلا تجد مرجعية ولا ضابطاً علمياً يوقف هذا القاضي عن شطحاته وتأويلاته، فالعشماوي مفسر ومحدث وفقيه ومؤرخ وعالم لغة!! فالرجل هيئة علمية ومجمع علمي وغير شرعي!! فالعشماوي يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو رواه البخاري نفسه مثل رده حديث مقتل كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق..إلخ وإذا قبل الحديث فإنه يؤوله تأويلاً يفوق تأويلات الباطنية! ولم يسلم القرآن الكريم من تأويلاته! فهذا الرجل له جرأة عجيبة على القرآن وصحيح السنة النبوية! وكل كتبه محشوة بهذا الهراء الذي يسميه فكراً مستنيراً!! إذ لا يهم العشماوي تعديل الراوي أو تجريحه، فعلم الرجال لدى هؤلاء قيد وحكر للإبداع الفكري والتقييد العلمي!! ونختار أنموذجاً من ترهات العشماوي لتوضيح الصورة:
يقول العشماوي: “فبعض الفقهاء ـ الذين أثروا على العقل الإسلامي ـ قالوا: (أو يقولون) إن الصلة بين الإسلام وغيره من الدول أو المجتمعات هي الحرب دائماً، وأن السلم ليس إلا هدنة مؤقتة ريثما يتهيأ المسلمون للحرب. وزاد البعض فرأى أو (يرى) أنه من غير الجائز لإمام المسلمين (أو الرئيس أو ملك لهم) أن يتعاقد على سلم دائم مع بلد من بلاد الحرب (أي البلاد غير المسلمة التي تقع خارج الديار الإسلامية أو العالم الإسلامي، أو دار السلام) لأن في مثل هذا السلم بإلغاء لفرضية الجهاد”[19]ويستطرد العشماوي: “وهم يركنون في ذلك إلى آية قرآنية وإلى حديثين: فالآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123). أما الحديثان: فأولهما: ما قالوه النبي صلى الله عليه وسلم لبعض القرشيين عندما استشاروه: (أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح). أما ثانيهما فهو: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله.”[20] فماذا كان رد المفسر الكبير سعيد العشماوي؟!
يقول: “والواقع أن الآية القرآنية ـ السالف بيانها ـ لا تقصد قتال الكفار أي غير المسلمين الذين لم يؤمنوا بمحمد وبرسالته، على ظهر الأرض أو في كل الديار غير الإسلامية باعتبارها ـ في رأي الفقهاء ـ دار حرب، في حين أن الديار الإسلامية دار سلام أو دار إسلام، وإنما تعني الآية محاربة الكفار (أي الذين كفروا برسالة محمد) ممن كانوا يجاورون المسلمين يلونهم في المكان. فالآية بذلك أدنى إلى التنظيم الحربي الذي يأمر بتطهير الأماكن المجاورة للمجتمع حتى يأمن هذا المجتمع كل تهديد ويتقي شر أي إيذاء، وحينذاك ينتهي الأمر ولا يكون ثم مبرر ولا واجب لأي قتال.”[21]
أما تعليق العشماوي على الحديثين:
“أما قول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض القرشيين: (أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح).. هذا القول ليس من الأحاديث الصحيحة، وإذا كان صحيحاً ـ وهو غير صحيح ـ فإنما هو خطاب من النبي وحده لبعض بني قريش بالذات دون غيرهم وهو قول في لحظة إثارة وليس وحياً معصوماً.”[22]
سبحانك هذا بهتان عظيم! أخطر ما في مقولة هذا الرجل قوله: (وهو في لحظة إثارة وليس وحياً معصوماً)!! فالعشماوي يصور الرسول صلى الله عليه وسلم في حالة غضب فيتوعد كفار قريش (جئتكم بالذبح).. أي أنها مجرد كلمة لحظة غضب وليس وحياً منزلاً!! وهل يوقف هذا العشماوي قول الله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم:3).. وهل سيرد العشماوي عن غيه وضلالاته حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: “قال كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد أن أحفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شئ تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في بشر يتكلم في، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اكتب! فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق.”[23] إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بحق يغضب ويحمر وجهه كأنه قد فقئ فيه حب الرومان، ولكن إذا انتهكت المحارم ورأى منكراً، كان يغضب ولا يقول إلا حقاً، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعي ما يقول جيداً، وكان أملك لنفسه فلم لا.. وهو مؤيد بروح القدس؟! لم لا والوحي يتنزل عليه؟! فكلامه في الرضا والسخط حق وتشريع لأمته (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(الحج:46).
أما قول العشماوي إن حديث (جئتكم بالذبح) غير صحيح! فلا يلتفت إلى قوله، فالعشماوي يضعف ويصحح ما يوافق مزاجه النفسي حسب نوع الكتاب! وطبقاً لمنهجه العلمي الذي كرس حياته لخدمته!. ولن نطيل في الرد عليه في تصحيح الحديث المذكور. ولكن نشير في عجالة إلى أصل الحديث كما في المسند:
“عن يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى قَالَ قُلْتُ لَهُ مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشاً أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ. قَالَ حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْماً فِى الْحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلاَمَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ. أَوْ كَمَا قَالُوا. قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَقْبَلَ يَمْشِى حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفاً بِالْبَيْتِ فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ. قَالَ فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِى وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِى وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَقَالَ « تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ ».[24]
وهكذا تكمن القوة الذاتية لهذا الدين العظيم الذي يسري في عروق الأمة جيلاً إثر جيل؛ يحفظون سيرة نبيهم، لا ينسون مولده ولا مبعثه، ويعيشون مغازيه وجهاده، ويعتبرون برسائله إلى الملوك والأمراء، لا ينسون استعلاءه بإيمانه على الكفر وملته، يعلمون عدد أزواجه وأولاده وأحفاده، يحبون أصحابه ولا ينسون أسماءهم وبلاءهم في نصرة هذا الدين! وهذا ما يغيظ أعداء الإسلام فهم يريدون محو ذاكرتنا! ولن يحقق الله كيدهم! فعلم الرجال في نحورهم!!
ملحوظة هذا المقال جزء من كتابي قراءة في مصادر السيرة النبوية[1]
[1] كتاب قراءة في مصادر السيرة النبوية: د. هاني السباعي ـ دار هادف للنشر ـ القاهرة ـ الطبعة الأولى عام 2011 [2] مقال لنا بعنوان إعادة النظر في كتابة التاريخ الإسلامي/مجلة المنهاج/صفر 1417هـ/من ص68 إلى ص74 [3] دكتور حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والإجتماعي/دار الجيل/بيروت/ ج4 ص43. [4] وليد الأعظمي: السيف اليماني في نحر الأصفاهاني/ دار الوفاء/مصر/ص65. [5] دكتور عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي/دار العلم للملايين/بيروت/ ج2 ص537. [6] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوكوالأمم/ تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطع/دار الكتب العلمية/بيروت/ ج14 ص 185. [7] وليد الأعظمي: السيف اليماني ص70. [8] الأصفهاني: أبو الفرج: الأغاني: تحقيق عبد الأمير علي مهنا وسمير جابر/دار الفكر بيروت/ط1/1407هـ/ج1 من المقدمة ص (د). [9] الأغاني: ج1 من المقدمة ص (د). [10] الأغاني: ج1 من المقدمة ص (د). [11] الأغاني: ج1 من المقدمة ص (هـ). [12] الجوزجاني: أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب المتوفى 259هـ: أحوال الرجال/تحقيق السيد صبحي البدري السامرائي/ مؤسسة الرسالة/ ط1/1405هـ/ص54. [13] الجوزجاني: أحوال ارجال/ منقول عن المحقق هامش ص54 . [14] ابن حجر: لسان الميزان/ تحقيق عبد الفتاح أبو غدة/ دار البشائر الإسلامية/ بيروت/ ط1/ 1423هـ/ مج3 ج7 ص500، ص 501. [15] ابن حجر: لسان الميزان/مج3 ج8 ص359: ص363 بتصرف. [16] ابن حجر: لسان الميزان/مج3 ج9 ص بتصرف34. [17] ابن حجر: لسان الميزان/مج2 ج6 ص287، ص288 بتصرف.. [18] الأعظمي: وليد: السيف اليماني في نحر الأصفهاني/ص42 ، ص43. [19] العشماوي: محمد سعيد: الإسلام السياسي/سيناء للنشر/القاهرة/ط2 لسنة 1989/ص103. [20] الإسلام السياسي ص151. [21] الإسلام السياسي ص102. [22] الإسلام السياسي ص103. [23] الخطيب البغدادي: تقييد العلم/تحقيق يوسف العش/دار إحياء السنة النبوية ط2/1974م ص80 ، ص81. الحديث ذكره الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح برقم 6666 ورقم 6977. وفي سنن أبي داود في كتاب العلم الحديث رقم 3648. [24] مسند أحمد الحديث رقم 7233. وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر.