الرئيسية / المنبر الحر / إضاءات حول أسباب سقوط الدولة الإسلامية الموحدة وآثاره ونتائجه الحلقة الثانية

إضاءات حول أسباب سقوط الدولة الإسلامية الموحدة وآثاره ونتائجه الحلقة الثانية

إن من لا يعرف الماضي لا يبني المستقبل

إضاءات حول أسباب سقوط الدولة الإسلامية الموحدة وآثاره ونتائجه

الحلقة الثانية: فترة الرشد السياسي لدى المسلمين /

الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي الحسني الهاشمي يكتب:

كان الرشد أول عهد المسلمين بأمر الحكم؛ فالقرآن الكريم جعل أمرهم شورى بينهم، لا فرق بين عربي وأعجمي أو أبيض وأسود وأحمر، إلا بالتقوى. والرسول صلـى الله عليه وسلم عندما حضرته الوفاة لم يستخلف أحداً؛ وكل ما قيل أو روي في موضوع الاستخلاف لا يثبت عند السبر والنقد. والثابت أن المسلمين تركوا أحراراً في اختيار القيادة الجديدة. إلا أن ولاءهم كان موزعاً بين عدة مراكز للاستقطاب العائلي والقبلي، كما هو شأن المجتمعات القبلية ذات العصبية.

فكان أولاهم بالأمر، بمقياس العلم والفقه والعصبية الدينية والعائلية والقبلية والقرب من بيت النبوة، علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لدى بني هاشم وقريش والمسلمين؛ وبمقياس عصبية القبيلة والنصرة سعد بن عبادة لدى الخزرج، وأسيد بن حضير لدى الأوس؛ وبمقياس عصبية الأسرة والقبيلة والطموح للرئاسة في الجاهلية دهاة بني أمية، أبو سفيان ومعاوية ومروان بن الحكم وحليفهم عمرو بن العاص. وكان حرياً بكل قبيلة أن تتخذ من زعيمها – إن بويع بالخلافة – جسراً لاحتكار السلطة وتداولها بعد وفاته. وكانت قبائل من العرب – ضمنها أهل مكة أنفسهم – يتململون نحو الردة. فلو اجتمعت فتن الردة، والصراع على السلطة، والتشوف لاحتكارها، على المسلمين، لكانت الطامة الكبرى على الإسلام نفسه. وهذا مفتاح فهم تصرفات قادة الصحابة المبرزين بعد وفاة الرسول صلـى الله عليه وسلم، علي وأبي بكر وعمر– رضي الله عنهم – .

في هذه الفترة الحرجة قيض الله للأمة هؤلاء الأقطاب الثلاثة، أمدهم بالرشد والوعي، وبعد النظر، وإيثار بقاء الإسلام على تحقيق أي مكاسب دنيوية.

أما الأول ، علي بن أبي طالب ، المعروف ببعد نظره، وعلمه وفقهه وفضله وأحقيته، فقد اتضح له ما يراد بالإسلام، وما ينتج عن دخوله في التنافس على السلطة فاحتفظ بكامل رشده، لم يستفزه الحزن لوفاة الرسول صلـى الله عليه وسلم، ولم يستثره الطموح إلى الزعامة، ولم يستغفله دعاة الشر والكيد للأمة، وآثر بقاء الإسلام على بقاء نفوذ آل البيت الأكرمين، والتمكين للإسلام على التمكين للعترة الطاهرة الشريفة، واشتغل بالإشراف على غسل الرسول صلـى الله عليه وسلم ، وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وتنظيم مراسم التعزية والمواساة؛ فلم يحضر سقيفة، ولم يجار أحداً في حديث عن الخلافة، وفسح المجال بذلك لقيام مؤسسة الخلافة الراشدة، التي هي أمر للمسلمين كافة، والتي هي المحجة السياسية البيضاء في الكتاب والسنة.

حرضه عمه العباس على أن يسأل الرسول صلـى الله عليه وسلم عند احتضاره، عن الأمر فيمن تركه؟ فأبى علي وقال: “والله لا أسألها رسول الله أبداً ” وعرض عليه العباس ثانية بعد وفاة الرسول صلـى الله عليه وسلم صلـى الله عليه وسلم وقبل السقيفة ، أن يبايعه على ملأٍ من الناس ، فيقولون : ” عم رسول الله بايع ابن عمه “، فلا يختلف عليه أحد، فرفض ذلك أيضاً.

وعندما بويع أبو بكر أتى أبو سفيان علياً – كرم الله وجهه – وقال له: ” إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم ؟، أين المستضعفان؟ أين الأذلان ، علي والعباس ؟ ما بال الأمر في أقل حي من قريش ؟ “. ثم قال لعلي: “ابسط يدك أبايعك، فوالله لو شئت لأَمْلَأَنَّها عليه خيلاً ورجلاً “، فأبى علي – رضي الله عنه- ، فتمثل أبو سفيان بشعر المتلمس:

ولن يقيم على خسف يراد به

إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته

وذا يُشَجُّ فلا يبكي له أحد

فزجره علي وقال : “والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شراً، ولا حاجة لنا في نصيحتك ” .

وعندما مارس أبو بكر مهامه في تسيير أمر المسلمين ، وخرج شاهراً سيفه للمشاركة عملياً في حرب الردة، كان علي – كرم الله وجهه – أشد الصحابة حرصاً على أمنه وسلامته ، لما في ذلك من أمن للإسلام وبقاء له . اعترض سبيل أبي بكر وثناه عن عزمه قائلاً: ” شِمْ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أُصِبْنا بك لا يكون للإسلام نظام” ، فرجع أبو بكر وأمضى الجيش .

وعندما بايع الناس عثمان قال له عبد الله بن عباس: ” قد خدعوك حتى رضيت بخلافة عثمان ” ، فقال علي : ” إنهم لم يخدعوني ، بل إني رأيت الجميع راضون به، فلم أحب مخالفة المسلمين حتى لا تكون فتنة بين الأمة ” .

وبعد مقتل عثمان – رضي الله عنه – ، اجتمع أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فأتوا علياً فقالوا له : ” إنه لابد للناس من إمام ” ، فقال : ” لا حاجة لي في أمركم ، فمن اخترتم رضيت به ” ، فألحوا عليه فبالغ في الرفض وقال : ” لا تفعلوا ، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ” ، فقالوا : ” والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ” ، فقال : ” لا حاجة لي في البيعة ، دعوني والتمسوا غيري . ” ولما بالغوا في الإلحاح قال لهم : ” عليكم بطلحة والزبير” ، ثم ذهب معهم إلى طلحة وطلب منه أن يبسط يده ليبايعه الناس فرفض وعرض الأمر على الزبير فرفض ، وأصر الجميع على مبايعة علي .

بهذه الروح العالية ، والنظرة البعيدة ، والتقوى العميقة ، نظر الإمام علي إلى أمر الحكم ، فجنب المسلمين كوارثَ وفتناً ، ما لبثوا أن وقعوا فيها بإرادة من جاء بعد صفوة الصحابة ممن ملأ حب السلطة قلوبهم .

وليس بغريب هذا الرشد وعلو الهمة من الإمام علي، فهو نتاج تربية النبوة ، وهو الذي لم يسجد لصنم قط، وهو الصبي الذي نشأ في عبادة الله، فلم يختلط في قلبه وذهنه أبداً جاهلية بإسلام .

عن habib

شاهد أيضاً

《 السيف والقلم 》 . ( رحلتي مع الجماعة الإسلامية )5

《 السيف والقلم 》  ( رحلتي مع الجماعة الإسلامية ) 5 الشيخ عاصم عبد الماجد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *