إعراض ما بعد الخمسين
خالد القاضى
منذ بلغت الخمسين وأنا أشعر بحالة غريبه من الإعراض عن أشياء كثيره في حياتي، ولم أعد أعبأ بامور كانت تشغلني فيما مضى ومنها على سبيل المثال:
1/إثبات أني على حق في أمر ما، لم يعد هذا الأمر ذا بال، في نقاش أو حتى موضوع أو موضع أو مال، بل إني أرى من يناقشني وأبصر عيب نقاشه ولا أبالي، وكل ما يشغلني هو ثباتي على حق، والتماس العذر له والدعاء له بعد انتهاء الأمر.
2/السعي للمال لم يعد له بريق ولا فرحه، وأصبح يستوي عندي ما إن كنت مفلسا أو موسرا، بل أصبحت نفسي تقيم بمنوالها في قبول العمل مع شخص من تركه على هذا، ومع ذلك ازداد حرصي أن لا أكون مدين لأحد بأي مبلغ صغر أو كبر، لأن هذا يقلقني بدرجة لا تتصور.
3/القراءة اختلفت بشكل غير طبيعي، فقد كنت ولله الحمد والمنة أسرد الكتب سردا بمتعة وشوق، وربما أقرأ في اليوم الواحد مجلد في حدود الستمائة صفحه وأحيانا أزيد، وأذكر أني رغم كوني من أصحاب الضغط المنخفض، فقد دخلت طوارئ مستشفى شبين الكوم ليلا لارتفاع ضغطي بسبب القراءة والتركيز، أما الأن فقد أجلس على الكتاب شهور، لا أتجاوز صفحات بدون تأمل ومراجعة وتأكد، لدرجة أنني اراجع أحيانا النقل سابق ولاحق من مصدره، هذا الأمر الذي لازمني في السنوات الاخيره ولم يعد يقلقني.
4/تقبل الأحزان والتعايش مع مر الفراق، هذا الأمر دخل علي من باب التعود، والتأقلم فقد فاَرقت ثم فرِقت ثم تفرَقت ولم يعد قلبي يحتمل، فسرت على أمر قد قدر، وسلمت لأقدار الله كالريشة في مهب الريح، ترتضي ولا تعتدي، وكم يمر بي شريط ذكريات الفراق، فلا أقول إلا: اللهم ألحقني بالصالحين.
5/هاجس الموت، ذلك الأمر الذي عشته حقيقية بعد سن الثلاثين، حيث رأيت رؤية أني سأموت في سن الخمسين، وقد وقعت بالفعل، فلما بلغت هذا الحد رأيت الموت وخروج الروح من أطرافي ومشاهدة الناس من حولي ولم يعد على لساني غير الشهادتين، بل أني في هذه الحالة اتصلت بحبيب لي ووصيته ومضيت في حالة الموت ساعات طويله، ولم أفق إلا وأنا في المشفى طريح الفراش، ثم عدت إلى الحياة وهاجس الموت لا يفارقني.
6/الندم، والندم توبه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا فأنا أندم على أي قرار أو فعل اتخذته في غفله أو دون دراسة عن عجل، أو لشهوة غلبت علي، ولشبهة بررتها، ولا أعبأ بأن ارجع واعتذر ولا أندم ثم أندم، وتلاحقني الذاكرة بندمات عن وقت مضى وعمر ضاع في غير حاجه ملحه ولا أمر نافع، وياليت ندمي ينفع وتأسفي يشفع.
7/ الشوق لملاقاة الأحبة من أهل الخير والصلاح والهداية والهدى وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والتابعين من أهل الفضل أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وهذا الشوق يصل بي لتمني نفسي مصحوب بالخوف من سوء الخاتمة وفقدان التمني.
8/ البكاء من لا شيء كالطفل، وهي حالة غريبه، فقد كنت من أصحاب الدمعة العزيزة كما يقولون، واتجلد في المواقف الصعبة بفضل من الله ونعمة، لكن في السنوات الأخيرة أصبح البكاء عندي راحة نفسية وملازمة غريبه، حتى في أبسط الأمور، في حالة غريبه، أحاول منعها في حضور الغير، بل في النقاش، والفراش، والحل والترحال.
9/ تضيق دائرة التواصل، هذه الدائرة التي كانت واسعة جدا، وكانت متعتي في التواصل مع مئات الأشخاص من أهل الخير في كل دول العالم، هذه الدائرة ضاقت لدرجة أنني اتجنب التواصل مع الكثير، ولعل بعضهم يلتمس لي العذر في هذه الحالة لبعد المسافات واختلاف الأوقات، وإنا أسف لما أصابني، واعتذر لأحبتي، والتمس منهم العفو عن تقصيري، فهم في قلبي وإن لم أعد كسابق حالي.
10/الكتابه والسرد، فهذه صفة لازمتني حتى خمس سنوات مضت، فأنا سريع الكتابة كثير السرد يصعب علي الاختصار، وأذكر أستاذي ومعلمي الأستاذ عبد الله مهران، عندما كان يطلب مني اختصار تقرير صحفي كم كان يشق علي حذف كلمه، لكن على العكس لو طلب زياده، أما الأن فأكتب الكلمة وأنظر فيها وأكتب المقال وأتركه بالسنين، وأخاف من الحروف كالحتوف، ولعلي حتى في سرد أعراض ما بعد الخمسين كانت من سنين ما بعد الخمس والأربعين، واسطرها بعجل من قصر الأمل.
11/طلب العفو والمسامحة، وهو لازم لي حتى مع أولادي، أطلب منهم العفو والمسامحة عن كل تقصير في فعل وترك، وأخواني، وأصدقائي، والناس أجمعين، واحساسي بالخطأ في حق كثير من الأحياء والأموات لا ينفك، بل تمر الذكريات على قصرها فتختلط بمزيج الندم على عدم طلب المسامحة من أصحاب الفضل والخلق.
12/ الثبات على الأصل والتمسك بالحق، فهذا أمر يقيني في كل قرار اتخذته وعهد على نفسي قطعته ليقيني الثابت الذي لم يتزعزع تجاه أهل الباطل والطواغيت، وخدامهم بحسن نية أو بعمد، ومثل هؤلاء يزداد قلبي يقينا وصرامة تجاههم، ولا أعبأ بشيء أصابهم، بل تتردد برجع صدى ( ويشف صدور قوم مؤمنين،،،،، ويذهب غيظ قلوبهم) وأحس بالراحة والفرح كلما نكل الله بأهل الباطل البين وأمطرهم بسحب انتقامه، وهذا أمر ثابت لا يتزعزع قيد أنمله.
13/ الاستمرار في مدار الصبر، وهو مدار النصر، فإنما النصر مع الصبر، وإن الله مع الصابرين، وهذه المعية من الرعاية والتوفيق بل واستعذاب مر الصبر بالرضا حتى تذوق حلاوة الانقياد بالتسليم والاتباع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، تلك الخصلة التي نزلت على القلب بطول مجاهدة، أسأل الله أن تكون في رضاه، وأن تتعدى منزلة البهائم، وربما يتعجب البعض من صبري وتمهلي في اتخاذ قرار، وهو لا يدري أن طول الأمد لعلة نفي التعجل، ودحض ندم التسرع، وترك الفرصة لمن عارضك، لكن قصار النظر يعتبرونه خنوع مني ولا يدرون أنها ثمرة دربه ولطف تأمل وسعي قربة.
تلك خطرات ما بعد الخمسين لعل العمر يطول واسرد ما في العقل يجول، فاللهم ارزقنا مغفرة من عندك وقصدا لرحماتك الواسعة.