الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم
لا يَسَع المتكلمُ، إذا تناول بالحديث موضوع مَقاصد الشَريعة، أن لا يذكرَ الإمام الجليل والفقيه الأصوليّ المُجتهد محمد بن الطاهر عاشور التونسيّ، شيخ جامعة الزيتونة، وصاحب المؤلفات العظيمة مثل “مقاصد الشريعة الإسلامية” و”النظام الإجتماعيّ في الإسلام”، و”التحرير والتنوير”، وغيرها من جليل المؤلفات وفريدها في التفسير واللغة والبيان والحديث. ولعمرى، ليذكِّرك كتابه الجليل في شرح “ديوان بشار” بما فيه من إمامةٍ في الفقه اللّغوىّ، وحِرصٍ على العربية وتملك ناصيتها، ودأبٍ في البحث والتنقيب، بكتاب “المُتنبى” لإمام اللغة وفحلِ البيان في عَصرِنا العَلامة الجليل محمود محمد شاكر، رحمهم الله جميعا.
وسيرةُ الشيخ الإمام بن عاشور مَسرودة في كثيرٍ من المَواضع، لا داعي لترديدها، يجدها القارئ في أعلام الزركليّ، وفي العديد من المؤلفات التي كُتبت عنه، في العقود الأخيرة من القرن السالف.
لكن ما يهمنا هنا هو الحديث عن أمرين، يتعلقان بالإمام بن عاشور، أولهما دراسته لمقاصدِ الشريعة، وما انفرد فيها به، والثاني علاقته الفكرية بخير الدين التونسي، والذي تضاربت حوله الآراء فيما أخذ من برنامج إصلاحيّ، إرتبط في الأذهان بالمدرسة الإصلاحية التي تولى كِبرَها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده.
وما دفعنا إلى تدوين هذا المَقال إلا أن نبَيِّن للناظرين في حال الناس والدنيا اليوم، والمفتين فيها، ما عليهم أن يعتبروا حين التصدى للحديث عن مَصائر الأمم وأقدار الشعوب، وأن الإلمام بالشريعة لا يكون بتحقيقٍ في أطرافها، بل بالغوص في أعماقها واستخراج كامن لؤلؤها، وكشف خفيّ أسرارها. وقد ألمحنا من قبل في مُسلسلنا عن “مقاصد الشريعة .. والتجديد السنيّ المعاصر”، إلى ضرورة إعادة النظر في التناول المقاصديّ للشريعة، حتى نتجنب ويلات ما نراه اليوم من تفتت على الساحة الإسلامية، فلعلّ قراءنا الأحباب أن يرجعوا اليه إن شاءوا.
ابن عاشور ومقاصد الشريعة:
وقد جرى بن عاشور في بحث المقاصد على سبيلٍ يَختلف في النّظر اليها عما جَرى عليه العُلماء في توجِيهها، وما دَرَج عليه الدارسون في هذا العلم، من أنها تُعنى بحفظ الضرورات الخمس، الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وإن كانت تلتقي بها في أعلى مراتبها. فابن عاشور، وإن أدرج الضرورات الخمس في إقامة مصالح الناس، يعنى بالمقاصد أمرين: العلل الأولى أو المبادئ الأصلية التي بنيت عليها الشريعة، وجعلها الفطرة التي بني عليها الدين وخلق بها الإنسان، ومقاصدها هي السَماحة والمُساواة والحُرية، ثم الثاني، وهو الأدْني منها، علل الأحكام التفصيلية أو الجزئية التي جاءت في مفردات في الشريعة. ونكاد نُجزم من دراستنا لمَنهج الإمام، إنه إنما عرّف المقاصد بالحِكَمَ التي تقوم عليها الشريعة والتي تكون سابقة لمقاصدها، وبعلل الأحكام التي تنبنى عليها.
وقد ذكر الإمام قول من فرّقوا بين المقاصد والمَصالح، ونبّه إلى إنه إذا ثَبُتَ أنّ إدراك المَقاصد قد جُعل لتحقيق المصالح معاشاً ومعاداً، فليس من المُجدى التفرقة بينهما، إذ إعتبر أنّ المصالح هي التي ترجع اليها الأحكام الشرعية “وكان ذلك هو الأصل والأساس من وضع كتاب المقاصد، وهو إعتبار المَصالح مناطاً للأحكام الشرعية” الشيخ محمد بن الحبيب بن الخوجة، كتاب “بن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة ج2 ص171. إلا إني قد نحيت مَنحى التفريق بينهما، في مقالي عن التجديد السّنيّ المعاصر، حيث ذكرت “ضَرورة الفصلِ بين ما هو من مقاصد الشرع، وما هو من حِسابات المصالح والمفاسد، ومن ثمّ بين ما هو من المقاصد العامة والكليات الشرعية التي تثبت بجزئياتٍ متناثرة في الشريعة، نستلهمها من الأحكام الشرعية الثابتة، وبين حسابات المصالح والمفاسد التي تتخذ مجالها أساساً في تلك الحوادث التي ليس فيها حُكمٌ شرعيّ خَاصٌ، وإن امكن إدراجها تحتَ قاعِدة كليةٍ أو مقصدٍ شَرعي عامٍ ثابتٍ، وهي ما أطلقَ عليها العلماء “المَصالح المرسلة”، فأقمت التفريق على أساس عمليّ لا نظرىّ، وذلك لمّا رأيت من أهمية ذلك في عَصرِنا، إذ إعتمد كثيرٌ ممن هم محسوبون على التيار الإسلاميّ وعلى الفِكر الإسلاميّ، على تقصى حسابات المصالح والمفاسد من حيث هي هي مقاصد الشرع الحنيف، فصحّحوا الزائف، وزيّفوا الصحيح. ثم نبدأ رحلة المَقاصد مع الإمام.
الفطرة، التي بُني عليها الإسلام، هي أصْلُ أصول الشريعة، وهي التي بُني عليها الإنسان “فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا”الروم 30، وقوله صلى الله عليه وسلم “كل مولودٍ يولد على الفطرة”، فمنها تصدُر كلّ تصرّفاته، وبموافقتها تصلح هذه التصرفات أو تفسد، فهي “جملة الدين في عقائده وشرائعه” المقاصد 271. وقد جَاءت كلّ الأحكام الشرعية تؤكدَ حكم الفطرة، وتصونها، وتمنع إفسادها، وتنظّم موارِدُها، كما في احكام ، الوضوء والطهارة، والزواج والرضاع، والقصاص والحدود، وإنشاء المعاملات وإبرام العقود، وكافة الأحكام الشرعية، إذ تتوجه بناءاً على هذا الغرض ولتأكيده. فكلّ ما ينافي الفطرة السليمة من العيب الخالية من الدنس، فهو من أمر الله وشرعه، ولذلك فإن الشريعة لمّا جاءت لم تهدم كلّ ما قبلها، بل جاءت “بالتغيير والتقرير” السابق 340، فأقرت ما هو من الفطرة، وبدّلت ما يناوئها ويضادها.
والسماحة، هي مقصد من أعظم مقاصد الشريعة، يجدها من استقرأ احكامها، منتشرة في كافة الأحكام الشرعية والتوجيهات النبوية، وهي معنى الوسطية والإعتدال في الشرع، ومعنى اليسر في الدين، قال تعالى “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةًۭ وَسَطًۭا” البقرة 143، وقوله صلى الله عليه وسلم “رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى” البخارى. ولذلك سُمى الدين بالحنيفية السَمحة كما في حديث البخارى. وقد بنيت عليها اكثر أحكام الشريعة بلا شذوذ، ولا عجب، إذ الدين هو الفطرة، والفطرة لا تستقل عن السماحة، والسماحة تأتي من معنى الرحمة، التي هي مقصود بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم “وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلَّا رَحْمَةًۭ لِّلْعَـٰلَمِينَ” الأنبياء 107. وقد جاءت السّماحة في تفاصيل الشرائع كما في المُعاملات من أحكام البيوع، والتيسير في الزواج، وتحريم الإعضال، وأنواع الرخص، والحثّ على الدخول فيها بحقها، وما لا يحصى من الجزئيات التي وردت مبنية على هذا المقصد.
والمساواة، هي مقصد عام للتشريع، وهي الأصل في المعاملات وإقامة الحُدود، إذ القصد من القصاص العدل بين الناس، الذي يقوم على أنهم سواسية بلا فرق، إلا ما فرضَه ظرفٌ طارئ على الأصل كالعبودية، او الصِغر، أو فساد العقيدة. والنساء سواسية كالرجال في أصل التكليف وفي الحقوق بحسب الفطرة الخاصة بكِلا الجنسين “فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَـٰمِلٍۢ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ” آل عمران 195. والمساواة مثلا في مفهوم الشريعة تستدعى حفظ الدين والتساوى في الجامعة الدينية، وحفظ المال لتساوى حقوق المِلكيات بين الناس. وفي المساواة بين المسلم وغير المسلم، يقرر بن عاشور أن الأصل هو المساواة في غالب الحقوق لخضوعهما لحكومة واحدة، كما في القاعدة الفقهية بالمذاهب الأربعة “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”، ثم إجماع العلماء على منعهم من الولايات الكبرى، لأنها، كما ذكر بن عاشور، تنافي مقصد حفظ الدين، وهم غير مؤتمنين على الجامعة الدينية الني تقوم علي حفظها الحكومة المسلمة، لا على أي جامعة أخرى كالقومية أو العرقية، منا أنها لا تتمشى مع منع عقد الولاء معهم لما ثبت في القرآن من ذلك، وكذلك ما في الولاية العامة من التشريف المضاد لذم الكفر وتحقيره. ثم ما في الجبلة من منع مساواة الرجل للمرأة في حق الإنفاق، إذ هو حق لها دونه، ومنع مساواة المراة للرجل في كفالة الصغير لقدرته على الإنفاق والتوجيه، وهي أمور ثابتة في مقصد الفطرة.
والحرية، مبنية على أن “إستواء افراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة، وذلك هو المراد بالحرية” المقاصد 390. من هنا جاء التأكيد على القضاء على العبودية التي هي ضد الحرية. والشرع يؤكد على أن الحُرية تجرى في الإعتقاد والعمل، فحرية الإعتقاد تعنى التحرر من الخرافات والأوهام التي أضافها الإنسان لدين الفطرة، في غيبة من عقله، وحرية العمل تعنى أن “الداخلون تحت الحكومة الإسلامية متصرفين في أحوالهم التي يخولهم الشرع التصرف فيها غير وجلين ولا خائفين من أحد. ولكل ذلك قوانين وحدود حددتها الشريعة لا يستطيه أحدٌ أن يحملهم على غيرها” المقاصد 396. وقد نوّهنا بأولوية هذا المقصد الشرعيّ في مقالنا عن التجديد السنيّ حيث قلنا أنّ “هذا يدلّ على عِظم قدر الحرية وحق التعبير، والدفاع عنهنا ولو بالموت دونهما، وهو أوضَحَ من ان ندلّل عليه. ولتحقيق هذا المَقصد، يجب على المُجتمع المُسلم عامة، ويندب للفرد خاصة، ان يشارك في كل عملٍ من شأنِه أن يأتي بالحُرية، ويمنع الكَبتَ والظُلم”.
ثم يتحول بن عاشور إلى الحديث عن مقاصد الشريعة في أوجه الأحكام الشرعية التي تتناول مناحى الحياة الإنسانية في شتى جوانبها. فمقاصد الشريعة في القضاء ” أن يشتمل على ما فيه إعانة على إظهار الحقوق وقمع الباطل الظاهر والخفيّ، وذلك مأخوذٌ من حديث الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إنما أنا بشر، وإنكم تختصِمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بحقِ أخيه فلا يأخُذه، فإنما أقتطعُ له قطعةً من النار” “المقاصد 498. ثم مقاصد الشرع في نظام العائلة “أن الأصل الأصيل في تشريع العائلة هو إحكام آصرة النِكَاح، ، ثم آصرة القرابة ، ثم آصرة الصهْر، ثم ما يقبل الإنحلال من هذه الأواصر الثلاثة” المقاصد 430. ثم تحدث عن مقاصد المال والتصرفات المالية، يقول “فالمال الذي يَتداول بين الأمة ينظر اليه على وجه الجُملة وعلى وجه التفصيل، فهو على وجه الجملة حقٌّ للأمة عائدٌ عليها بالغنى عن الغير. فمن شأن الشريعة أن تضبط نظام إدارته باسلوبٍ يحفظه موزعاً بين الأمة بقدر المستطاع، وأن تعين على نمائِه في نفسه أو بأعواضه بقطع النظر عن كون المنتفع به مباشرة أفراداً خاصة، أو طوائف وجماعاتٍ صغرى أو كبرى، وينظر اليه على وجه التفصيل بإهتبار جزء منه حقاً راجعاً لمكتسبه ومعالجه من أفراد أو طوائف أو جماعاتٍ معينة أو غير معينة، أو حقاً لمن ينتقل اليه من مكتسبه” المقاصد 456. وهكذا في أحكام التبرعات والشهادة وغيرها.
ولا يخفى فضل هذا النظر وأهميته لمن يتصدى للقول في الحكومة الإسلامية، وللقيام بها فضلاً عن القول فيها، إذ إن مناحى النظر في متطلبات الحياة الحديثة، وضَرورة التشريع في كافة ما يَعرِض على الناس من حاجاتٍ، يجعل إعتبار هذه المقاصد الكلية غاية في الأهمية، وموَجّهاً للتقنين جُملة وتفصيلاً.
ومما يجدر بالذكر والتنويه هنا هو أن المَقاصد الشرعية التي ذكرنا، والتي نبّه عليها بن عاشور، ليست عِللا للأحكام التفصيلية، ومن ثمّ لا يمكن أن نرجع اليها في إصدار الفتاوى دون الرجوع إلى جزئيات الشرع وأدلته. وهذا الإلتفاف حول الشرع هو ما ينادى به عدد من المنتمين إلى الإسلام إسماً، النائين عنه قلباً وفكراً، بالرجوع إلى مبادئ الشريعة، أي مقاصدها العامة. وهذا خلل في العقيدة، لا إختلاف في الإجتهاد كما يهيؤا للعامة. ودور المقاصد، بأي من معانيها أو مستوياتها أن تُرشِد المُجتهد في الأحكام بشكلٍ عام، يوجه إجتهاده في الطريق الصحيح، لا أن يكون علة مباشرة للحكمن إلا فيما كان من مصلحة مرسلة.
ابن عاشور وخير الدين التونسيّ:
وحين يذكر الطاهر بن عاشور، يُذكر معه خير الدين باشا التونسي، الذي هو من أعلام النهضة في المغرب العربيّ، وممن دارت حوله الشكوك والشبهات، وارتبط اسمه باسم الرّافضىّ جمال الدين الإيرانيّ الملقب بالأفغانيّ، والماسوني المصري محمد عبده. فلابد لنا من كلمة عن خير الدين لإيضاح هذا الإرتباط وقدره وأثرهز
وقد كان خير الدين التونسيّ رجل حربٍ بارع، كما كان له دور كبيرٌ في تنظيم الجيش، ووقف موقفاً مشرفاً حين استقال من منصبه لإعتراضه على استدانة الدولة بالربا من أوروبا. ثم كان رئيساً لوزراء تونس لفترة قصيرة، أجرى فيها الكثير من الإصلاحات، في القضاء والإقتصاد والمسائل الإجتماعية والمالية، كما كانت من حسناته تقوية صلاته بالإستانة درءاً لمحاولات فرنسا من السيطرة على تونس. ودوّن كتابه الشهير “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”، والذى بسط فيه آراءه وطريقته في الإصلاح، من خلال تتبع ما سارت عليه نظم الغرب في التقدم التنظيميّ الإداريّ والصناعيّ والتجارى. وقد لخص خير الدين مذهبه بقوله، يشرح الغرض من كتابه “إن الباعث الأصلي على ذلك أمران آيلان إلى مقصد واحد، أحدهما، إغراء ذوي الغيرة والحزم من رجال السياسة والعلم ، بالتماس ما يمكنهم من الوسائل الموصولة الى أحسن حال الأمة الإسلامية ، وتنمية أسباب تمدّنها بمثل توسيع دوائر العلوم والعرفان ، وتمهيد طرق الثروة من الزراعة والتجارة وسائر الصناعات ونفي أسباب البطالة ” والثاني هو “تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يُحمد من سير الغير، الموافقة لشرعنا… ، فان الأمر اذا كان صادراً من غيرنا وكان صواباً موافقاً للأدلة، لا سيما اذا كنا عليه وأخِذ من أيدينا، فلا وجه لإنكاره وإهماله بل الواجبُ الحرص على استرجاعه واستعماله”. وهذان المقصدان يبينان للناظر أنّ خير الدين وإن ربما كان قد فتح باباً لنفاذ الفكر الغربيّ إلى اللاوعيّ الإسلاميّ، خاصة فيما وجه اليه من صبّ الأحكام الشرعية في شكل قوانين تشبه طريقة الوضع الأوروبيّ، بلا إنحرافٍ عن الشريعة، وهو ما ذهب اليه الدكتور الباحث العلامة محمد محمد حسين رحمه الله تعالى في كتابه “الإسلام والحضارة الغربية”، الا إننا نقرر هنا أنّه لم يكن يسعى إلا إلى خير الأمة الإسلاميّة ونهضتها، فخير الدين لم يكن من طبقة جمال الدين أو محمد عبده في قصد الخروج بالأمة عن المَسار الشرعيّ الثابت، كما لم يكن محمد عبده على نفس القدر من سوء طوية جمال الدين الرافضىّ. وإن أراد الباحثون أن يجمعوهم في بوتقة واحدة تحت مُسمى “الإصلاحيون” أوالمَدرسة الإصلاحية، فإن في هذا إجحاف ببعضهم كما ذكرنا عن خير الدين، وتكفي شهادة محمد البشير الإبراهيميّ لتبرئة ساحة خير الدين من سوء المَقصد أو فساد الطويّة. لكننا نشبهه هنا بأوائل الصوفية من طبقة الزهاد والعباد، الذين لم يخرجوا عن السنة أنملة، لكنّهم نهَجوا مَنهجاً توسّع فيه مَن جاء مِن بعدِهم، ممن لم يكن مثلهم في حسن القصد والطوية، فصارت أمورُهم إلى بدعةِ الصوفية، ثم إلى كُفرِ كثيرٍ من مذاهبها.
أنصفْ هُديتَ إذا ماكُنت مُنتصِفاً لاترض للناسِ شيئآ لستَ ترضاهُ
وما نريد هنا أن نتَتبّع حياة خَير الدين التونسيّ، رَغم ثرائِها، بل إكتفينا منها بما يَمس علاقتها بالإمام بن عاشور. ونقصد إلى إلى تقرير أنه على الرغم من أن الشيخ الإمام بن عاشور، كان سائراً على منهج خير الدين، تأصيلاً وتنظيراً، إذ لم يكن له في الحكم يد، فإن هذا لا يُعدّ قادحاً في منهجه أو علمه أو في بلائه الحسن فيما خطى من خطواتٍ عديدة في سبيل إصلاح التعليم وتوجيه الأمة إلى ما يَصلح لها وما يُصلِحها في آن. وعلى الله المعتمد والتكلان.