الرئيسية / عاجل / درسان من قادة النبي صلى الله عليه وسلم بقلم اللواء الركن: محمود شيت خطاب

درسان من قادة النبي صلى الله عليه وسلم بقلم اللواء الركن: محمود شيت خطاب

اختيار الرجل المناسب للعمل المناسب، ليس عملا سهلا، وهو سر نجاح الحكام والمحكومين في الحياة العملية وفي الحرب والسلام.
ليس عملا سهلا لأن النفس الأمارة بالسوء إلا من رحم ربك وقليل ما هم، لا تميل إلى تولية من هو أفضل منها كفاية وعلما وخلقا، وتميل إلى تولية من هو أقل منها كفاية وعلما وخلقا، ليسهل سيطرة الحاكم عل المحكوم، وليبرز الحاكم ويبقى المحكوم في الظل.
وهو سر نجاح الحكام والمحكومين، لأن القادة الصالحين عقيدة وكفاية، هم الذين يقودون شعوبهم إلى النصر في أيام الحرب، ويعينونهم عل التقدم والنجاح في السلام.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مؤيدا من الله عز وجل بالوحي، وكان لهذا التأييد أثره الحاسم في توفيقه بشيرا ونذيرا، ومشرعا وقاضيا، وسياسيا وإداريا، وقائدا وجنديا، ومربيا ومعلما، وبشرا وإنسانا.
وهذا التأييد الإلهي بالوحي، لا يمنع أن تكون لكفاياته الشخصية عليه الصلاة والسلام أثر حاسم أيضا في توفيقه، وهذه الكفايات هي القدوة والأسوة والمثل الذي باستطاعة المسلم أن يضعها نصب عينيه، لاتخاذها أسوة حسنة وقدرة ومثلا أعلى له في الحياة، لأنها كفايات بشرية متميزة، يمكن الطموح إلى اقتفاء آثارها ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلا.
وصدق الله العظيم:
{الله اعلم حيث يجعل رسالته}. (الأنعام: 134).
أما التأييد الإلهي بالوحي، فيقتصر عل الأنبياء والرسل وحدهم دون سواهم من الناس. والنبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة للمسلمين كافة، في كل زمان ومكان، وفي مختلف الظروف والأحوال.

اختيار الرجال

لقد وجدت بالدراسة المستفيضة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولسير قادته العسكريين خاصة وغير العسكريين عامة، أن من ضمن كفايات النبي صلى الله عليه وسلم الفذة، قابليته النادرة على اختيار الرجل المناسب للعمل المناسب.
ووجدت أن هذه القابلية التي التزم بها التزاما حازما في حياته المباركة، هي من أهم الأسباب (الدنيوية) لانتصاره في أيام الحرب، ونجاحه في أيام السلام.
وكان عليه أفضل الصلاة والسلام، يعرف أصحابه معرفة دقيقة مفصلة، وكان يعرف ما يتميز به كل صحابي من (مزايا) تفيد المجتمع الإسلامي الجديد، وكان يستعمل هذه المزايا استعمالا كاملا لخير هذا المجتمع، وللمصلحة العامة للمسلمين.
وكان في الوقت نفسه، يدرك ما يعاني كل صحابي من (نواقص) طبيعية، وكان يتغاضى عن تلك النواقص، ويغض الطرف عنها، ويحاول تقويمها وتلافي محاذيرها، وكان يذكر أصحابها بأحسن ما فيهم من مزايا ويشيد بها، ويأمر أصحابه بالتغاضي عن نواقص إخوانهم والإشادة بأحسن ما فيهم من مزايا، تقديرا لهم، و إعجابا بهم، وتشجيعا لهم.
وكان عليه الصلاة والسلام، بهذا الأسلوب الرائع الذي التزم به في كل حياته المباركة: يشيد بالمزايا وينتفع بها لخير المسلمين، ويغض الطرف عن النواقص ويقومها بالتي هي أحسن، ويتستر عليها، ولا يفسح المجال أن يشهر بها.
بهذا الأسلوب الحكيم الرائع، كان النبي صلى الله عليه وسلم يبني المسلم ولا يحطمه، ويقوم المعوج ولا يكسره، ويشيد للحاضر والمستقبل، لا للحاضر القريب وحده، ولا للساعة التي هو فيها.
لقد كان عليه الصلاة والسلام، لا يبقي (المزايا) في أصحابه طاقات معطلة، بل كان ينتفع بها لمصلحة المجتمع الإسلامي الجديد، وهذا يجعل طاقات أصحابه المتميزة تنطلق من عقالها وتتضافر لشد أزر الأمة وتقويتها ودفعها نحو البناء والنصر.
وكان عليه الصلاة والسلام، يعرف كفايات أصحابه وقابلياتهم حق المعرفة، فلم تغمط كفاية ولم يهمل صاحب كفاية، فأضيفت التجربة العملية بعد تسخير تلك الكفايات إلى أصحابها، فصقلت تلك الكفايات ولمع أصحابها.
وضع كل مسلم من ذوي الكفايات المتميزة، في المكان المناسب لكفايته، فلم تبق تلك الكفايات معطلة، وأصبحت منتجة لصالح الإسلام والمسلمين.

شرطان رئيسيان

كان الشرطان الرئيسان اللذان التزم بهما النبي صلى الله عليه وسلم في تولية القادة واختيارهم لتولي المناصب القيادية المختلفة، هما:
الإسلام أولا وقبل كل شيء، فما ينبغي أن يتولى قيادة المسلمين غير القادة المسلمين الذين حسن إسلامهم.
والكفاية، فالعقيدة لا تكفي دون كفاية عالية، والكفاية العالية لا تكفي دون عقيدة راسخة.
إن العقيدة الراسخة شرط أساس لتولية القادة، حتى يعمل القائد في خدمة عقيدته ومجتمعه أكثر مما يعمل لنفسه ولعائلته، وهذا هو سر تفوق أهل العقيدة في أعمالهم على من لا عقيدة لهم أولهم عقيدة فاسدة.
إنهم يعملون بكل جهودهم، لأنهم يخافون الله، وتحاسبهم ضمائرهم الطاهرة الملتزمة، ولا أزيد.
والكفاية العالية شرط أساس لتولية القيادة، حتى يبرز القائد في عمله، ويكون إنتاجه بعيدا عن الشوائب قريبا من الكمال، لأنه يعمل عل هدى وبصيرة معتمدا عل كفايته، ولا يعمل في فوضى وتخبط لأنه محروم من الكفاية.
إن صاحب الكفاية العالية يستوعب منصبه، ويكون أكبر منه، فلا يضل ويغوى.
أما الذي لا كفاية له، فيستوعبه المنصب ويكون منصبه أكبر منه، فلا يفلح في عمله ولا يرتاح فيه لا ولا يريح.
وطالما سمعنا من يتساءل: هل يفضل صاحب العقيدة عل صاحب الكفاية، أم يفضل صاحب الكفاية عل صاحب العقيدة؟
وكثيرا ما رددوا: الإخلاص، أم الكفاية؟ وكثيرا ما يريد القائل الإخلاص لشخصه الكريم لا الإخلاص للمصلحة العامة.
وفي غياب الالتزام بتعاليم الدين الحنيف، تولى أهل الإخلاص، وبقي أهل الكفاية طاقات معطلة، فتعطلت المصالح، وشاعت الفوضى، وحرمت الأمة من القادرين عل خدمتها.
والجواب عل الذين يتساءلون، يجب أن يتوفر الشرطان الرئيسان في القادة: العقيدة الراسخة، والكفاية العالية.
وصاحب العقيدة الراسخة دون كفاية عالية، يمكن أن يفيد في مجالات أخرى غير القيادة، كالتعليم والدعوة إلى الله، وإرشاد الناس.
وصاحب الكفاية العالية دون عقيدة راسخة، غالبا ما يعمل لنفسه أكثر مما يعمل لغيره، ولمصلحته الشخصية أكثر مما يعمل للمصلحة العامة، وقد يضر أكثر مما يفيد.
والأمة لا تخلو من أصحاب العقيدة الراسخة، والكفاية العالية، والحاكم مسؤول عن استقطاب من يتوفر فيه الشرطان الرئيسان.

العقيدة الراسخة

كان ثلاثون من قادة النبي صلى الله عليه وسلم، من الذين أسلموا قديما، وكانوا من السابقين إلى الإسلام.
وكان واحد وعشرون قائدا من السابقين الأولين إلى ا لإسلام، من الذين شهدوا غزوة (بدر) الحاسمة.
وكان هؤلاء الذين أسلموا قديما، والذين شهدوا غزوة (بدر) خاصة على جانب عظيم من الإيمان العميق، وهم من الذين ثبت إخلاصهم لعقيدتهم بشكل حاسم، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع ثقته الكاملة فيهم ويفضلهم على غيرهم من أصحابه في تولي المراكز القيادية.
ومعنى ذلك أن ثمانين بالمائة ممن تولى المناصب القيادية من الذين أسلموا قديما، وستين بالمائة منهم من البدريين.
وكان واحد من قادته ممن أسلموا بعد الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، هو كرز بن جابر الفهري، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة سرية من سراياه، لأنه كان فارسا مغوارا وشجاعا مقداما مندفعا يحسن التعرض والمطاردة، والسرية التي تولى قيادتها مؤلفة من الفرسان، مهمتهم الاندفاع السريع والمطاردة، وكان كرز قد أسلم وحسن إسلامه.
وكان واحد من قادته من الذين أسلموا بعد غزوة (أحد) التي كانت في السنة الثالثة الهجرية، وهو عمرو بن أمية الضمري، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم لشجاعته الفائقة ولتطوعه مختارا لتحمل الواجب الذي أوكل به إليه، وكان عمرو قد حسن إسلامه.
وكان خمسة من قادته من الذين أسلموا قبل فتح مكة التي كانت في السنة الثامنة الهجرية، وهم: ابن أبى العوجاء السلمي، وخالد بن الوليد المخزومي، وعمرو بن العاص السهمي، وعيينة بن حصن الفزاري، وعلقمة بن مجزز المدلجي.
وقد ولى ابن أبي العوجاء السلمي على سرية من سرايا الدعوة، إلى قومه بني سليم، لأنه أعرف بمداخلهم ومخارجهم، وأعرف بهم من غيره، لأنهم قومه يعرفونه ويستجيبون له أكثر مما يستجيبون لغيره، وقد أسلم ابن أبي العوجاء طوعا وحسن إسلامه، وكان حريا أن يؤثر في قومه ليسلموا، ولكنهم لم يستجيبوا له وأصروا على الكفر.
وقد ولى عليه الصلاة والسلام عيينة بن حصن، لأنه كان سيد غطفان، وقد امتنع فخذ من أفخاذ تميم فلم يدفعوا صدقاتهم إلى المصدق الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
“من لهؤلاء القوم الذين فعلوا ما فعلوا؟”. فانتدب أول الناس عيينة، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم قائدا على سرية مؤلفة من خمسين فارسا من الأعراب، ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، ويبدو أن مبادرة عيينة إلى التطوع قبل غيره من الناس، أدت إلى توليته قيادة هذه السرية التي خلت من المهاجرين والأنصار، وهم المسلمون الأولون الذين لا ينبغي أن يتأمر عليهم غير القادرين من المسلمين الأولين، إلا في حالات نادرة جدا ولضرورة قصوى وحكمة بالغة.
وولى عليه الصلاة والسلام علقمة بن مجزز المدلجي، لأنه كان ذا كفاية قيادية عالية جدا، بالإضافة إلى أنه أسلم وحسن إسلامه، كما أسلم أبوه مجزز وأخوه وقاص الذي استشهد في غزوة (ذي قرد) (وذو قرد: ماء على ليلتين من المدينة المنورة بين المدينة وخيبر) وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول من السنة السادسة الهجرية، فهو من أسرة إسلامية عميقة الجذور في الإسلام، كما أن مهمة سريته كانت تعرضا في البحر الأحمر بالقرب من مدينة (جدة) ميناء مكة المكرمة على البحر، وكانت خبرة العرب يومئذ في الحروب البحرية نادرة جدا وقليلة للغاية، فمن المحتمل أن تكون لعلقمة تجربة في البحر، بالإضافة إلى كفايته القيادية المتميزة، لينال شرف قيادة سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، تنهض بمهمة واجب قتالي في البحر.
إن تولية ثمانين بالمائة من مجموع قادة النبي صلى الله عليه وسلم، من الذين أسلموا قديما، وستين بالمائة منهم من البدريين، المناصب القيادية لسرايا النبي صلى الله عليه وسلم، دليل قاطع على أهمية العقيدة الراسخة في تولية القادة.
والذين تولوا القيادة من الذين لم يسلموا قديما، إنما تولوا مناصبهم القيادية بعد أن حسن إسلامهم.
إن العقيدة الراسخة شرط رئيس من شروط تولية المناصب القيادية، وهو الشرط الأول من شرطين رئيسين.
والقائد الذي لا يتحلى بالعقيدة الراسخة لا يمكن أن يأتي بخير أبدا، وتاريخ الحروب خير دليل على ذلك.

الكفاية العالية…

لم يتسنم قادة النبي صلى الله عليه وسلم مناصبهم القيادية، لأنهم كانوا يتحلون بالعقيدة الراسخة فحسب، إذ لم يول النبي صلى الله عليه وسلم القيادة للذين أسلموا قديما كافة، بل ولى قسما منهم فقط لا يزيد عددهم عن ثلاثين قائدا. كما أن البدريين جميعا لم يتولوا مناصب قيادية عل عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل تولى منهم واحد وعشرون قائدا.
والذين تولوا القيادة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يتوفر فيهم شرطان رئيسان: العقيدة الراسخة، والكفاية العالية.
وقد تحدثنا عن أولئك القادة الذين تحلوا بالعقيدة الراسخة، وهم دون استثناء يتحلون بالكفاية العالية، وإلا لما تولوا مناصبهم القيادية دون غيرهم من أمثالهم.
ولى عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، لكفايتهما القيادية العالية، كما أنهما أسلما وحسن إسلامهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهما شخصيا ويعرف أنهما لا يسلمان أبدا عن رهبة ولا لأسباب عاطفية، بل إن إسلامهما عن رغبة وبعد تفكير طويل عميق وقناعة كاملة.
ولعل في تولية خالد وعمرو القيادة مثالا حيا عمليا على تحري النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفاية القيادية المتميزة مع العقيدة الراسخة، لتولي المناصب القيادية في أي موقع من مواقع القيادة العسكرية والمدنية أيضا.
فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة المكرمة في عمرة القضاء التي كانت في شهر ذي الحجة من السنة السابعة الهجرية، الوليد بن الوليد المخزومي أخا خالد بن الوليد رضي الله عنهما قائلا:
(أين خالد؟!)، ثم قال: “ما مثل خالد من جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين على المشركين، لكان خيرا له، ولقدمناه على غيره”.
وكتب الوليد بن الوليد إلى أخيه خالد، فكان ذلك سبب هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وإعلان إسلامه.
وندم خالد بن الوليد إلى المدينة المنورة، مهاجرا إلى الله ورسوله، في أول يوم من أيام شهر صفر السنة الثامنة الهجرية.
قال خالد:
“فلما طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلمت عليه بالنبوة، فرد عليه الصلاة والسلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير. وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: أستغفر كل ما أوضعت فيه من صد عن سبيل الله! فقال: الإسلام يجب ما قبله. قلت: يا رسول الله! على ذلك! قال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيلك… فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أسلمت يعدل بي أحدا من أصحابه فيما يحزبه”.
وما يقال عن خالد بن الوليد، يقال عن عمرو بن العاص أيضا، فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة أصحابه في الجهاد بعد إسلامه.
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام عن خالد وعمرو لأصحابه الذين كانوا حوله حين قدما المدينة المنورة مسلمين:
“ألقت إليكم مكة أفلاذ كبدها”.
لقد قدم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كفايتهما القيادية الفذة، إضافة إلى إسلامهما طوعا واختيارا.
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقطب حوله أهل الكفايات العالية، من أجل خدمة الإسلام والمسلمين، ولتكون راية ا لله هي العليا. وكلمة الله هي العليا.

شروط أخرى…

كان عليه الصلاة والسلام، يقدم السابقين الأولين إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار في توليتهم القيادة، ما تيسرت لهم الكفاية القيادية العالية، فالأقدمية في الإسلام لها وزن كبير، وقد ذكرنا أن ثمانين بالمائة من قادة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من السابقين الأولين إلى الإسلام.
وكان يقدم البدريين على غيرهم، فلأهل بدر فضل عظيم على غيرهم من الصحابة الكرام، وقد ذكرنا أن ستين بالمائة من قادة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من البدريين.
وكان لا يؤمر أهل الوبر على أهل الحضر، أي أنه لا يستعمل أعرابيا من أهل البادية عل عربي من أهل المدن، فقد كان خمسة وثلاثون من قادته الذين بلغ عددهم سبعة وثلاثين قائدا، من أهل الحضر، وكان قائدان فقط من قادته عليه الصلاة والسلام من أهل الوبر هما: عيينة بن حصن الذي تطوع للنهوض بقيادته وسبق غيره بتطوعه، والضحاك بن سفيان الكلابي الذي كان من أشجع الشجعان، وكان يعد بمائة فارس، كما أنه مكث ردحا طويلا في المدينة المنورة إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم سيافا له، وقد ولأه على قومه في ظروف معينة، ذلك لأن أهل الحضر، أعرف بفنون القتال من أهل الوبر، وأكثر صبرا عل معاناة الحرب، وأقدر عل تحمل أعباء القتال.
والخلاصة هي أن الشرطين الرئيسين لتولية القيادة هما: الإسلام أولا، والكفاية ثانيا، وهذان الشرطان هما القاعدة للتولية دون استثناء .
أما الشروط الأخرى: السابقون الأولون، وأهل بدر، وأهل الحضر، فهي قواعد لا تخلو من استثناءات عند الضرورة القصوى.
وقد طبق أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما هذه الشروط نصا وروحا في تولية القادة، ولم يحيدا عن هذه الشروط أبدا.
وقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم والشيخان من بعده: أبو بكر وعمر رضي الله عنها، بتطبيق هذه الشروط في تولية القادة، أن يجعلوا الصفوة المختارة من الأمة عقيدة وكفاية، يقودون الأمة إلى النصر في أيام الحرب، وإلى التفوق في النجاح في أيام السلام.
وما أسعد الأمة التي يقودها القمم من رجالها دينا واقتدارا، وما أسعد الأمة التي يقودها أفضل رجالها عقيدة وكفاية.

عبرة اختيار القادة..

إن استفادة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه من بعده، من مزايا كل مسلم حسن الإسلام، واستقطاب المزايا لبناء المجتمع الإسلامي، فلا يضعون لبنة إلا في المكان اللائق بها والمناسب لها، جعل هذا البناء يرتفع ويتعالى سليما مرصوصا يشذ بعضه بعضا.
وكان اختيار القائد المناسب للعمل المناسب سببا من أسباب انتصار النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه وتوفيقهم عسكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، في أيام الحرب والسلام.
ولما التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، خلف في المجتمع الإسلامي قادة وأمراء وولاة وقضاة وعلماء وفقهاء ومحدثين، قادوا الأمة الإسلامية عسكريا وسياسيا وإداريا وفكريا واقتصاديا واجتماعيا إلى النصر والنجاح والخير، وإلى السؤدد والمجد والتوفيق، وإلى طريق الحق وسبيل الرشاد.
وكان أولئك القادة هم من خريجي مدرسة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
وأسلوب اختيار القادة، هو الدرس الحيوي الذي يجب أن يتعلمه العرب والمسلمون حكاما ومحكومين في هذه الأيام وفي المستقبل أيضا: أن يستفيدوا من الكفايات ولا يعطلوها، وان يضعوا الإنسان المناسب في الموقع المناسب.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قمة من القمم الشاهقة نسيانا لذاته، وتفكيرا في صالح المسلمين وإخلاصا لمصالحهم العليا.
لذلك خرج في مدرسته القمم من جميع الكفايات والقابليات لمختلف المناصب والواجبات.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعمل رجلا من عصابة (جماعة من الناس) وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) “صحيح، روا ه الحاكم”.
ذلك هو رجل الدولة، وهذا هو بيانه للناس، وصفه عليه الصلاة والسلام في كلمات معدودات، ولكنها تغني عن مجلدات من المؤلفات.

مجمل الدرس الثاني …
كان مجمل الدرس الأول المقتبس من قادة النبي صلى الله عليه وسلم عبرة للمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، هو أن ستين بالمائة من أولئك القادة استشهدوا، وأربعين بالمائة منهم ماتوا على فراشهم، والشهيد يموت بأجله، والمتوفى حتف أنفه يموت بأجله أيضا.
أما مجمل الدرس الثاني، فهو أن القائد الشجاع مات شهيدا، والقائد الذي هو أكثر شجاعة وإقداما مات عل فراشه..

ومن المعلوم أن الشجاعة من المزايا المعنوية للإنسان، فالشجاع والأشجع من الأمور التي تثبت بالقتال، وقد كانت بطولات قادة النبي صلى الله عليه وسلم الذين ماتوا في بيوتهم بآجالهم، والتي أثبتوها بالقتال رفيعة المستوى، متميزة عن سائر البطولات، لذلك وصفت شجاعة قادة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها شجاعة ( فائقة)، ولكنني وصفت شجاعة الذين قضوا نحبهم في بيوتهم من قادة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها شجاعة (نادرة) تمييزا لدرجتها الرفيعة عل درجة الشجاعة الفائقة، فكل شجاعة (نادرة) شجاعة (فائقة)، ولكن ليس كل شجاعة (فائقة) شجاعة (نادرة).
وقد وصفت مصائر قادة النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:
“إن قادة النبي صلى الله عليه وسلم المتميزين بالشجاعة (الفائقة) استشهدوا في ساحة الجهاد، والقادة المتميزين منهم بالشجاعة (النادرة) ماتوا في بيوتهم على فراشهم”.
وهدفي من إبراز هذه الحقيقة هو إثبات أن الجبن لا يحيي والشجاعة لا تميت، وصدق الله العظيم:
{إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (يونس 49).
وقد علمتني تجارب الحياة، أيام خدمتي العسكرية، في ميادين القتال، أن المقاتل الجبان الذي يخاف الموت ويرتبك وتنهار معنوياته، هو الذي يسعى إلى حتفه سعيا، فكأن للجبن رائحة خاصة تجذب إليها ما يصيب مقتلا في الجبان الرعديد.
لقد كان السلف الصالح مضرب الأمثال في شجاعتهم، لأنهم كانوا مضرب الأمثال في إيمانهم العميق.
فلما تخلى لخلف الطالح عن إسلامهم، اهتز إيمانهم فضعفوا واستكانوا وتداعت عليهم الأمم من كل جانب، حتى قال قائل من الأجانب فيهم، واصفا موقفهم المزري من ذبح إخوانهم في مخيمي (صبرا) و (شاتيلا) من الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين في شهر ذي القعدة من سنة 1402 الهجرية (شهر أيلول (ديسمبر)من سنة 1982 الميلادية) قائلا:
كانوا يتفرجون عل المذبحة دون أن يستطيعوا تحريك إصبع واحد من أصابعهم على الصهاينة، وحتى لم يدعمهم العرب بالمظاهرات، فتظاهر الأجانب عنهم، وبقي العرب لا يحركون ساكنا!!

الذين ماتوا في بيوتهم …

لقد مات خمسة عشر قائدا من قادة النبي صلى الله عليه وسلم- كما ذكرنا من قبل – في بيوتهم بآجالهم بعيدا عن ساحة الجهاد، مع أنهم جميعا دون استثناء من المتميزين بالشجاعة النادرة، وكانوا جميعا يتمنون على الله من أعماق قلوبهم أن يستشهدوا في ساحة الجهاد، ولكن أمانيهم لم تتحقق، فماتوا وفي أنفسهم شيء من تخلفهم دون إرادتهم عن تحقيق أعز أمانيهم في الحياة.
والذين يحبون أن يطلعوا على شواهد مما كان يتمتع به أولئك القادة من شجاعة نادرة بالتفصيل، يجدون ما يحبون أن يطلعوا عليه في دراسة سير حياة هؤلاء القادة الذين ذكرناهم في قائمة. (مصادر قادة النبي صلى الله عليه وسلم)، وسيرد ذكرها مفصلا في كتابي (قادة النبي صلى الله عليه وسلم) الذي يصدر قريبا بإذن الله.
ولكن لا بد من ذكر شواهد (مختصرة) على شجاعتهم النادرة، وقد لا يغني الاختصار عن التفصيل في هذا الباب بالذات، ولكنه لا يخلو من فائدة على كل حال.
وسأضرب الأمثال للقراء على شجاعة أولئك القادة النادرة، بالنسبة لأقدميتهم في القيادة حسب توليهم مناصبهم القيادية بموجب ما ورد في التاريخ والسير، وحسب ترتيب أسمائهم في قائمة مصادر قادة النبي صلى الله عليه وسلم، المرتبة بموجب أقدميتهم التاريخية في القيادة.

القائد الأول ..

مات سالم بن عمير الأنصاري الأوسي على فراشه، وقد تولى القيادة لأول مرة في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة. وقد تطوع لقتل أبي عفك، وهو بين أهله وعشيرته وقومه في مكان آمن أمين، فقتله في مأمنه بين أهله وعشيرته وقومه.
وكان أبو عفك يحرض عل عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وينظم الشعر في هجائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لي بهذا الخبيث؟”.
وتطوع سالم من بين الأوس والخزرج والمسلمين كافة لقتله، ونفذ وعده الذي قطعه على نفسه غير مكترث بالخطوب والأخطار والأهوال.
لقد كان من ذوي الشجاعة النادرة، وكان معروفا بالشجاعة والإقدام.

القائد الثاني …

ومات محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي على فراشه، وقد تولى القيادة لأول مرة في شهر ربيع الأول من السنة الثالثة ا لهجرية.
وكان ابن مسلمة ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم (أحد)، وقد ثبت مع الرسول صلى الله عليه وسلم يومئذ أربعة عشر رجلا: سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، كان أحدهم محمد بن مسلمة.
وكان يتولى قيادة حرس النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، وقادة الحرس لابد أن يكونوا من المختارين في شجاعتهم النادرة.
وهو الذي قتل اليهودي كعب بن الأشرف عدو النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين، وقد تطوع لقتله، فقتله بين أهله وعشيرته وقومه، وفي حصنه الحصين.
وهو الذي انتصر عل حشود المشركين، وكان بقيادته ثلاثون رجلا من المجاهدين، وكان من الذين لا يخشون في قولة الحق لومة لائم، فكان يقول الحق ولا يخشى غير الله عز وجل.
وقد اعتزل الفتنة الكبرى، كما اعتزلها أمثاله من أصحاب الورع والتقوى، كأسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، وسعد بن أبي وقاص خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم.
لقد كان محمد بن مسلمة من أبرز الأنصار خاصة والمسلمين عامة شجاعة وإقداما.

القائد الثالث …

ومات سعد بن أبي وقاص حتف أنفه، وقد تولى القيادة لأول مرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أصبح من قادة الفتح الإسلامي المشهورين بعد أن التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فتولى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قيادة فتح العراق وفارس، وقاد معركة القادسية الحاسمة التي فتحت أبواب العراق وشطر فارس للمسلمين.
وكان سعد أول من رمى بسهم في الإسلام، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم (أحد)، ووقف إلى جانبه يرمي بالنبل دونه، والنبي صلى الله عليه وسلم يناوله النبل ويترصد له إصاباته الدقيقة قائلا:
“إرم، فداك أبي وأمي”، وكان الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه يقول:
(ما سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه إلا سعدا)..
ولعل من نافلة القول، إثبات أن سعدا كان يتحلى بالشجاعة النادرة، فقد كان رضي الله عنه أمة في رجل، ورجلا في أمة.

القائد الرابع …

ومات عبد الله بن أُنَيْس الجهني الأنصاري على فراشه، وقد تولى القيادة لأول مرة في شهر المحرم من السنة الرابعة الهجرية.
وهو الذي تولى قتل اليهودي سلام بن أبي الحقيق أحد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين، حيث قتله في حصنه بين أهله وعشيرته وقومه في موقع (خيبر)، قبل أن يفتحها النبي صلى الله عليه وسلم.
كما تولى قتل اليهودي اليسير بن رزام الذي كان بخيبر يجمع غطفان ويحشد قومه يهود خيبر وغيرهم من يهود، لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لعداوته الشديدة وحقده الدفين على النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، والمسلمين.
وبذلك استطاع تفريق حشود المشركين وحده، وكفى الله المؤمنين القتال.
وابن أنيس، القائد الرابع، هو الذي قتل وحده خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي الذي كان من سادات قومه، وكان يجمع الجموع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليغزوه، فقتله ابن أنيس بين قومه وفي حشوده التي حشدها لحرب النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين.
لقد كان ابن أنيس لا يخشى الموت، وكان بطلا فذا من أبطال الصحابة عليهم رضوان الله، لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه.

القائد الخامس …

ومات أبو عبيدة بن الجراح على فراشه بالطاعون سنة ثماني عشرة الهجرية، والذي يموت بالطاعون شهيد، ولكنني لم أذكره بين الشهداء، لأنه توفي خارج ميدان الجهاد، وكان منهاجي إحصاء الشهداء الذين ماتوا بالسيف.
وقد تولى أبو عبيدة القيادة لأول مرة في شهر ربيع الآخر من السنة السادسة الهجرية، فشهد غزوة (بدر) الحاسمة، فقتل أباه في تلك العزوة، لأن أباه كان مشركا يقاتل في صفوف المشركين.
وكان مع النفر القلائل الذين ثبتوا يوم (أحد) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودافع يومئذ عنه دفاع الأبطال.
وتولى قيادة عدة سرايا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من جنود بعضها الشيخان: الصديق والفاروق رضي الله عنها، فأبلى في قيادة سراياه أعظم البلاء، وانتصر على المشركين فيها انتصارات باهرة.
ولما التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، أصبح أبو عبيدة على عهد عمر الفاروق رضي الله عنه، من أكبر قادة الفتح الإسلامي العظيم، وحسبه أن يقال عنه: إنه فاتح بلاد الشام والجزيرة.
وبلاد الشام هي: لبنان، وسورية، والأردن، وفلسطين.
والجزيرة، هي جزيرة ابن عمر، كما يطلق عليها الجغرافيون القدامى.
وأراد عمر بن الخطاب أن يستخرج أبا عبيدة من منطقة الوباء، بعد اشتداده سنة ثماني عشرة الهجرية، ولكن أبا عبيدة كتب إلى عمر:
( … لا أجد بنفسي رغبة عن جند المسلمين، فلست أريد فراقهم…). وبقي مع جنوده حتى توفي بالطاعون مع من توفي من جند المسلمين، وهذا دليل واحد من الأدلة الكثيرة عل شجاعته. النادرة التي لا تتكرر إلا نادرا.

القائد السادس …

ومات عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، في منـزله عل فراشه بأجله الموعود، وقد تولى القيادة لأول مرة في شهر شعبان من السنة السادسة الهجرية.
شهد غزوة (بدر) الكبرى الحاسمة، فأسر أسيرا من المشركين، وقتل رجلا من قريش، وغنم أدراعا.
وثبت يوم (أحد) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ثبت معه يومئذ غير قليل من أبطال المسلمين، وجرح في هذه الغزوة لاستقتاله في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين جراحة، وجرح في رجله فكان يعرج منها، وسقطت ثنيتاه فكان أهتم، وقتل رجلين من المشركين.
ومواقفه البطولية في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين، أكثر من أن تحصى وتعد.

القائد السابع …

ومات عمرو بن أمية الضمري على فراشه في بيته بأجله الموعود، وقد تولى القيادة لأول مرة في السنة السادسة الهجرية.
وكان من أنجاد العرب ورجالها نجدة وجراءة وجودا.
ومن جراحه أن المشركين من قريش صلبوا خبيب بن عدي رضي الله عنه بالتنعيم قريبا من مكة المكرمة وجعلوا عليه حرسا منهم، فاختطف عمرو جثة خبيب، وعاد بها إلى المدينة المنورة.
وكان أبو سفيان بن حرب قد بعث رجلا من المشركين لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فانكشف أمر المشرك وأسلم.
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية وبرفقته مسلم آخر اسمه: سلمة، إلى أبي سفيان، وقال لهما: “إن أصبتما منه غرة فاقتلاه”.
ودخل عمرو وصاحبه مكة، ومضى عمرو يطوف بالبيت العتيق ليلا، فرآه معاوية بن أبي سفيان، فعرفه، فأخبر قريشا بمكانه، فخافوه وطلبوه، وكان فاتكا في الجاهلية، فهرب عمرو وسلمة.
ولقي عبيد الله بن مالك التميمي، وكان مشركا، فقتله، وقتل مشركا آخر، سمعه يغني ويقول:
ولست بمسلم ما دمت حيا ولست أدين دين المسلمينا
ولقي رسولين لقريش من المشركين، يتجسسان على المسلمين، فقتل أحدهما وأسر الآخر.
وقدم عمرو المدينة المنورة عائدا من رحلته إلى مكة المكرمة، فجعل يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، إعجابا بشجاعته النادرة.
ومواقف عمرو البطولية كثيرة جدا، فقد كان بطلا في الجاهلية، وبطلا في الإسلام.

القائد الثامن …

ومات أبو بكر الصديق رضي الله عنه عل فراشه، وقد تولى القيادة لأول مرة في شهر شعبان من السنة السابعة الهجرية.
وكان من المهاجرين السبعة الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم (أحد).
وأثبت كفاية عالية في قيادته المستقلة لسريته، وانتشر بالعدد القليل من رجاله على العدد الكثير من المشركين.
وكان من الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم (حنين)، والذين ثبتوا معه يومئذ قليل.
وقال عبد الله بن مسعود عن شجاعة أبي بكر:
” لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما كدنا نهلك فيه، لولا أن الله من علينا بأبي بكر”، في عزمه وتصميمه على قتال المرتدين، وانتصاره عليهم نصرا مؤزرا، فاستعاد التوحيد والوحدة للعرب في ظل الإسلام.
وعن أبي رجاء العطاردي قال:
” دخلت المدينة، فرأيت الناس مجتمعين، ورأيت رجلا يقبل رأس رجل، وهو يقول: أنا فداؤك! ولولا أنت لهلكنا. فقلت: من المقبِّل، ومن المقبَّل؟ قالوا: ذاك عمر يقبل رأس أبي بكر في قتاله أهل الردة، إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين”.
وحسبنا شهادة الأمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد سأل علي من حوله: “أخبروني من أشجع الناس؟”، فقالوا: “أنت”، فقال: ” أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني من أشجع الناس؟”، فقالوا: ” لا نعلم”، فقال: “أبو بكر! إنه لما كان يوم بدر، فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا، فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبا بكر شاهرا بالسيف عل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهوي إليه أحد، إلا هوى إليه، فهو أشجع الناس”.
وشجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أشهر من أن تعرف، وهي ليست بحاجة إلى دليل.
إن شجاعته النادرة لا تتكرر أبدا.

القائد التاسع …

ومات غالب بن عبد الله الليثي حتف أنفه على فراشه في داره بأجله الموعود، وقد تولى القيادة لأول مرة في شهر رمضان من السنة السابعة الهجرية.
وتولى غالب قيادة أكثر من سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، حقق بها انتصارات باهرة بقواته القليلة على قوات المشركين الكثيرة، فكان بحق قائدا فذا من قادة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قاد مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم في عزوة فتح مكة، وكانت قيادته متميزة للغاية.
وشهد غالب معارك حروب الردة وفتح العراق، فكان من أبطال المسلمين المعدودين، وفي معركة (البويب) التي كانت سنة ثلاث عشرة الهجرية، وكانت من معارك فتح العراق، قتل غالب وحده تسعة رؤوس من الفرس في هذه المعركة وحدها.
وكان له موقف مشرف في معركة القادسية الحاسمة التي كانت سنة أربع عشرة الهجرية، فهو الذي قتل هرمز ملك مدينة (الباب) التي تسمى اليوم: (دربند) عل بحر الخزر، وكان هرمز يومئذ من أكبر قادة الفرس ومن أشجع شجعانهم.
لقد كان غالب بطلا مغوارا، يتحلى بالشجاعة النادرة.

القائد العاشر …

ومات أبو قتادة بن ربعي الأنصاري الخزرجي على فراشه في داره بأجله الموعود، وتولى القيادة لأول مرة في شهر شعبان من السنة الثامنة الهجرية.
وكان قد شهد سرية عبد الله بن عتيك، لقتل اليهودي أبي رافع سلام بن أبي الحقيق النضري، وقد قتلته لأنه كان يحرض المشركين على المسلمين، فنسي أبو قتادة قوسه في موضع قتل أبي رافع، فذكرها بعد ما نزل، فرجع واستعاد قوسه، ثم عاد إلى أصحابه، دون أن يخشى حشود يهود أو يحسب لها حسابا.
وشهد غزوة ( المُرَيْسيع)، وكان يحمل لواء المشركين أحدهم وهو صفوان ذو الشقر، فشد عليه أبو قتادة، فكان الفتح.
وشهد غزوة (ذي قرد)، فقتل مسعدة بن حكمة بن مالك بن حذيفة الفزاري، وحبيب بن عيينة بن حصن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذي قرد: “خير فرساننا أبو قتادة”، ومن يومها أصبح يعرف بفارس النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان في قيادته لسريتين من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم موفقا، فأثبت أنه قائد لامع.
وشهد عزوة (حنين)، فقتل أحد المشركين، فأراد أن يستأثر بسلبه أحد مسلمي الفتح الذين أسلموا حديثا بعد فتح مكة، فقال هذا الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم:
(يا رسول الله! سلب ذلك القتيل عندي، فأرضه عني، يريد سلب قتيل أبي قتادة، ويريد أن يستأثر به دون أبي قتادة. ولكن أبا بكر الصديق قال: “لا والله! لا يرضيه منك، تعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن دين الله، تقاسمه سلبه! اردد عليه سلب قتيله)، وكان هذا الأسد من أسد الله، الذي يقاتل عن دين الله، أبا قتادة.
والحديث عن شجاعة أبي قتادة النادرة وبطولاته الفذة يطول.

القائد الحادي عشر …

ومات خالد بن الوليد على فراشه كما يموت العير، كما قال هو عن نفسه حين حضرته الوفاة.
وكان قد تولى القيادة لأول مرة في سرية (مؤتة) التي كانت في جمادى الأولى من السنة الثامنة الهجرية، فقد أمره المسلمون على أنفسهم بعد استشهاد قادة هذه السرية الثلاثة بالتعاقب: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، فاصطلح المسلمون عل خالد، وولوه قيادتهم في موقف ميؤوس منه وعصيب للغاية، فأنقذ المسلمين الذين شهدوا تلك المعركة وبقوا على قيد الحياة، من الإبادة والإفناء، بفضل قيادته النادرة وشجاعته الفذة.
واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على سرية من سراياه لأول مرة في شهر رمضان من السنة الثامنة الهجرية، ثم استعمله من جديد على سريتين أخريين، كما استعمله قائدا مرؤوسا في غزوة فتح مكة وغيرها.
لقد شهد خالد ثلاث معارك مع المشركين عل المسلمين، وشهد بعد إسلامه اثنتي عشرة معركة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد في حروب الردة على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثلاث معارك هي أهم وأخطر وأكبر معارك حروب الردة، وقاتل الفرس في العراق في خمس عشرة معركة، وخاض في طريقه من العراق إلى أرض الشام غمار أربع معارك، وقاد سبع معارك في أرض الشام، فكان مجموع ما شهده من معارك في حياته العسكرية أربعا وأربعين معركة، كانت نتائجها كلها باهرة في تاريخ الإسلام وفي تاريخ العرب والمسلمين وفي تاريخ الحرب العالمي.
وانتصاراته الباهرة جعلته قائدا مشهورا منذ كان حتى اليوم وإلى ما شاء الله، ليس على النطاق العربي أو الإسلامي فحسب، بل على النطاق العالمي، ومعاركه تدرس في المعاهد والمدارس والكليات العسكرية الأجنبية، كما تدرس في المعاهد والمدارس والكليات العسكرية وكليات الأركان والقيادة العربية الإسلامية.
وطالما سمعنا أو قرأنا، أن ألمع قادة الغرب، يفخرون بأنهم طبقوا خطة عسكرية تعلموها من خطط خالد.
وطالما سمعنا أو قرأنا أن ألمع القادة الأجانب يشبههم الذين يريدون أن يرفعوا أقدارهم من الكتاب والمؤلفين بأنهم كخالد…
ولولا حرصي على ألا أذكر أولئك القادة الأجانب الذين يفخرون ب “خالد”، وأولئك الذين يشبهون القادة الأجانب ب “خالد”، لعددت أسماءهم، فلن يكون أحدهم مثله أبدأ، وشتان بين الأصل والصورة، وشتان بين خالد وبين غيره من القادة الأجانب!
وحسب خالد قولة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه:
“خالد سيف من سيوف الله، سله الله على المشركين”.
ولكن خالدا حين حضرته الوفاة قال: “ما كان في الأرض من ليلة أحب إلي من ليلة شديدة الجليد، في سرية من المهاجرين، أصبح بهم العدو، فعليكم بالجهاد”.
وتنهد قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، حزنا وأسفا عل الشهادة التي فاتته بالرغم من تعرضه لأفدح الأخطار، في أقسى المعارك، فقال: “شهدت مائة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثم ها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء”.

القائد الثاني عشر …

ومات عمرو بن العاص عل فراشه، وقد تولى القيادة لأول مرة في شهر جمادى الآخرة من السنة الثامنة الهجرية، وتولى قيادة سريتين من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسن في قيادته غاية الإحسان.
ولما التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، شهد عمرو حروب الردة ومعارك فتح بلاد الشام، كما شهد فتح مصر وليبيا، وفتح فلسطين وأجزاء من بلاد الشام ومصر وليبيا.
ومن مواقفه التي تدل على شجاعته النادرة ودهائه أيضا، أنه أقام على (أجنادين) في فلسطين، لا يقدر على قائدها الأرطبون الرومي ولا تشفيه الرسل، فسار إليه بنفسه، ودخل عليه كأنه رسول، ففطن به الأرطبون وقال: ( لا شك أن هذا هو الأمير أومن يأخذ الأمير برأيه)، فأمر رجلا أن يقعد على طريقه ليقتله إذا مر به. وفطن عمرو بغدر الأرطبون، فقال له: قد سمعت مني وسمعت منك، وقد وقع قولك مني موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكاتفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى، فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك”، فقال الأرطبون:
“نعم!”، ورد الرجل الذي أمره بقتل عمرو وخرج عمرو من عند الأرطبون، فعلم الأرطبون أن عمرا خدعه، فقال: ( خدعني الرجل! هذا أدهى الخلق)، وبلغت هذه القصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: “لله در عمرو!”.
لقد كان عمرو من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية مذكورا بذلك فيهم، وكان جريئا مقداما، وذا رأي قريش كما وصفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فكان عمرو يقاتل بشجاعته النادرة وعقله الراجح، لذلك كان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، فقال عمرو عن ثقة النبي صلى الله عليه وسلم به واعتماده عليه: “ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في حربه منذ أسلمت”.
وصدق عمرو، وحسبه ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وهي ثقة لا تكون إلا في مكانها الصحيح.

القائد الثالث عشر …

ومات سعد بن زيد الأنصاري الأوسي الأشهلي حتف أنفه، وقد تولى القيادة لأول مرة في شهر رمضان من السنة الثامنة الهجرية.
وقد شهد غزوة (ذي قرد) قائدا لفرسان المسلمين، فطارد عيينة بن حصن الذي أغار عل سرح المسلمين بالقرب من المدينة المنورة، وقتل حبيب بن عيينة بن حصن في رواية، وفي رواية أخرى أن الذي قتله هو أبو قتادة كما ذكرنا من قبل.
وأحسن سعد في قيادة سريته غاية الإحسان، وأحسن في أداء واجبه عل أحسن وجه.
وقد شهد سعد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول صلى الله عليه وسلم، كما شهد قسما من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم جنديا مرات وقائدا مرة واحدة، فأدى واجبه في الجهاد العملي جنديا وقائدا بشكل مثالي يدعو إلى أعمق التقدير، وأبدى في جميع المعارك التي خاضها شجاعة نادرة.
لقد كان سعد معدودا من أشجع شجعان الأنصار.

القائد الرابع عشر …

ومات عيينة بن حصن الفزاري على فراشه كما يموت العير، وكان قد تولى القيادة لأول مرة في شهر المحرم من السنة التاسعة الهجرية.
وكان بطلا من أبطال العرب في الجاهلية وبعد الإسلام، وسيدا من سادات العرب، وكان أحد المؤلفة قلوبهم، الذين كانوا أشرافا من أشراف العرب، يتألفهم النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاهم ويتألف بهم قومهم.
وكان عيينة من الجرارين في الجاهلية يقود عشرة آلاف، ولم يكن الرجل يسمى: جرارا، حتى يرأس ألفا على الأقل، وقد قاد غطفان إلى بني تغلب، كما قاد قومه في كثير من أيام العرب قبل الإسلام.
وشهد معارك طاحنة مع المشركين على المسلمين قبل إسلامه، وشهد معارك طاحنة مع المسلمين على المشركين بعد إسلامه جنديا وقائدا.
وقاد سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أول من انتدب لحرب المنحرفين من بني تميم الذين منعوا الزكاة، ولم يستجيبوا للمصدق الموفد إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عند حسن ظن المسلمين به في قيادته، وكان لشجاعته النادرة أثر عظيم في انتصار سريته بعددها القليل على المنحرفين بعددهم الكثير.
لقد كانت حياة عيينة سلسلة من المعارك المتصلة، فقد كان بطبيعته مسعر حرب ، (1)   عاش في حرب متصلة لا تكاد تهدأ، وكان فيها فارسها البطل.

القائد الخامس عشر …

ومات قطبة بن حديدة الأنصاري حتف أنفه، وهو الذي تولى القيادة لأول مرة في شهر صفر من السنة التاسعة الهجرية.
وقد شهد غزوة (بدر) الكبرى الحاسمة، فرمى حجرا بين الصفين وقال: “لا أفر حتى يفر هذا الحجر”، وقد ثبت في تلك الغزوة ثبات الراسيات، وقاتل فيها قتال الأبطال، وأسر أحد صناديد قريش من المشركين.
وشهد غزوة (أحد)، وكان أحد الرماة الماهرين الذين برزوا بين المسلمين في تلك الغزوة، وجرح فيها تسع جراحات، فلم تمنعه جراحاته الغائرة من المبادرة إلى الخروج في اليوم التالي من يوم (أحد) مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين شهدوا عزوة (أحد) إلى (حمراء الأسد) لمطاردة المشركين، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة التي رفعت معنويات المسلمين من جهة، وحطمت معنويات المشركين من جهة أخرى.
وشهد قطبة معركة (مؤتة)، فلما استشهد القادة الثلاثة بالتعاقب، وكانت الهزيمة وقتل المسلمون، جعل قطبة يصيح: “يا قوم، يقتل الرجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا” فقاتل في تلك المعركة قتال الأبطال الأفذاذ.
وشهد عزوة فتح مكة، فعقد النبي صلى الله عليه وسلم الألوية والرايات في (قديد)، فجعل راية بني سلمة قومه من الأنصار مع قطبة، والراية لا تعقد إلا لمن يحافظ عليها ويحميها من الأعداء.
وحين تولى قطبة قيادة سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، أحسن في قيادته غاية الإحسان، وانتصر على عدوه وعدو المسلمين انتصارا باهرا، بينما كانت سريته قليلة العدد والمدد، وكان عدوه وعدو المسلمين كثير العدد والمدد.
وقد شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يتخلف عنه في مشهد من مشاهده، بالإضافة إلى السرايا التي شهدها مع قادة السرايا الآخرين، فكان في كل مشهد شهده نادر الشجاعة فذ الإقدام.
لقد كان قطبة من أشجع شجعان الأنصار، معروفا بالشجاعة والإقدام.

الأجل الموعود …

تلك هي الحقيقة الناصعة، التي برزت لأول مرة في مطلع القرن الأول الهجري، رسالة من رسائل الغيب، تنكشف وتكتشف لتذكر الجبناء بأن الأعمار بيد الله، ولا يزيد فيها الجبن لحظة واحدة، ولا تنقص منها الشجاعة لحظة واحدة أيضا، فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف، وصدق القائل: “اطلب الموت توهب لك ا لحياة”.
هكذا في بساطة، مات على فراشه الأشجع، واستشهد الشجاع في ميدان القتال.
ولم يستشهد الذي مات على فراشه من عجز، بل حرسه أجله، ونعم الحارس الأجل، ولا حارس كالأجل.
ومات الذين قضوا نحبهم على فراشهم، ومات الشهداء تحت ظلال السيوف، ولم يبق أحد منهم، ولكن استأثر الشهداء بالحياة الباقية التي كرمهم بها سبحانه وتعالى، وجعلها ميزة لهم دون غيرهم من الناس.
ودرجة الشهداء عند الله من أرفع الدرجات، وصدق الله العظيم: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالجين وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما}.
ولو عاد المسلمون إلى مثل هذه التعاليم، لما هانوا على الناس وعلى أنفسهم أيضا.
والله غالب عل أمره، وهو على كل شيء قدير.


(1) – المسعر: ما تحرك به النار من حديد أو خشب، ومسعر حرب: موقد حرب.

عن habib

شاهد أيضاً

من الشك إلى اليقين: رحلة نهى السيد من المسيحية إلى الإسلام وكشف أسرار الكنيسة

من الشك إلى اليقين: رحلة نهى السيد من المسيحية إلى الإسلام وكشف أسرار الكنيسة من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *