تجفيف منابع الكلمة الحرة: إعفاء عالم من مهامه بسبب تضامنه مع غزة:
في خطوة مثيرة للقلق وتثير تساؤلات جدية حول واقع حرية التعبير في المؤسسات الدينية المغربية، أقدمت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على إعفاء محمد بنعلي، رئيس المجلس العلمي المحلي لفكيك، من مهامه، مستندة في ذلك – كما نُقل – إلى “عدم انتظامه في الحضور”، رغم أن السياق العام والوقائع المتزامنة توحي بأن السبب الحقيقي يتجاوز هذا التبرير الإداري الباهت.
فالرجل لم يكن اسماً عادياً في صفوف العلماء، بل عبّر قبل أيام من قرار إعفائه، عبر حسابه الشخصي في فيسبوك، عن موقف أخلاقي وإنساني تضامني مع الشعب الفلسطيني في غزة، الذي يواجه واحدة من أفظع الكوارث الإنسانية في العصر الحديث. كتب بنعلي:
“كلنا متواطئون في إبادة غزة… فالعلماء ليسوا مجرد معلمين للوضوء والصلاة، وإنما هم مشاعل هداية حين تتنكب الأمة عن طريق الله… الواجب العيني الأول الآن هو نصرة المظلومين في غزة ورد الظلم عنهم..”.
هذه الكلمات، التي تذكّر بدور العلماء التاريخي في نصرة القضايا العادلة ومواجهة الاستبداد والعدوان، لم تكن خارجة عن نطاق المسؤولية الأخلاقية والدينية، بل تقع في صميمها. ورغم أن الرجل لم يخرق أي قانون أو يخلّ بأي واجب مهني واضح، إلا أن التعبير عن موقفه – على ما يبدو – أغضب جهات ترى أن واجب العلماء ينحصر في “تعليم الوضوء والصلاة”، وتودّ إبقاء المجالس العلمية خالية من كل روح أو مواقف حية.
ما وقع لمحمد بنعلي يدخل في إطار ما يسمى بـ”تجفيف منابع التعبير”، حين يتم استخدام القوانين والقرارات الإدارية بشكل انتقائي لمعاقبة من يصدع بكلمة حقّ في وجه ظلمٍ مستفحل، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، التي أضحت في بعض السياقات الرسمية موضوعاً محظوراً أو مقنناً بشدة.
إن هذا الإعفاء لا يُقرأ فقط في بعده الفردي، بل يندرج ضمن سياق أوسع من تهميش العلماء المستقلين، وإعادة تشكيل الحقل الديني وفق رؤية بيروقراطية خالية من الحيوية، حيث يُقصى كل من يتجاوز حدود “الخطبة النموذجية” أو يتجرأ على الربط بين الدين والعدل والواقع.
نحن هنا أمام لحظة اختبار حقيقية لحرية التعبير، ليس فقط داخل المنابر الإعلامية أو المنتديات السياسية، بل في قلب المؤسسات الدينية التي من المفترض أن تكون صوت الضمير والموقف والعدل. فهل نريد عالماً يدرّس في الصمت، أم عالماً يُبصر ويُبصّر؟
ختاماً، إن نصرة غزة – اليوم – ليست قضية سياسية فحسب، بل امتحان لأخلاقنا جميعاً، ولقدرتنا على أن نقول “لا” حين يكون الصمت جريمة. وتجفيف منابع الكلمة الحرة لا يحمي الدولة ولا يخدم الدين، بل يعمّق فجوة الثقة، ويفرغ مؤسساتنا من معناها الحقيقي.