الرئيسية / عاجل / نحو وعي رشيد: المجتمع المسلم في آخر العهد النبوي من خلال سورة التوبة

نحو وعي رشيد: المجتمع المسلم في آخر العهد النبوي من خلال سورة التوبة

فضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي

باحث إسلامي ، مفسر للقرآن، عضو المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي مؤسس الحركة الإسلامية المغربية

المجتمع المسلم في آخر العهد النبوي من خلال سورة التوبة

ونعني به عامة المسلمين في الفترة المفصلية التي كانت جسرا للانتقال من العهد النبوي إلى عهد الخلفاء رضي الله عنهم ، وهو مابين فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، إذ تكاثر عدد المسلمين عقب إسلام طلقاء قريش وعتقاء غيرهم من القبائل ، وبين تحريم الحج على المشركين في السنة التاسعة للهجرة، وحجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، ثم وفاته صلى الله عليه وسلم بعد ذلك باثنين وثمانين يوما أو ثلاثة وثمانين يوما، ليقوم الصحابة بأمر أمتهم مباشرة وبكامل مسؤوليتهم.

ومهما حاولنا أن نتحدث عن هذا المحتمع في هذه الفترة المفصلية الانتقالية من نشأة دولة الإسلام، فلن نستطيع كشف أغواره أو إحصاءها مثلما أحصاها الله تعالى في سورة براءة وسورة المائدة، لأن الأولى نزلت في هذه الفترة نفسها عقب عودته صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وقد استخلف صلى الله عليه وسلم عند خروجه إليها الإمام علي رضي الله عنه على المدينة، وحاول اغتياله صلى الله عليه وسلم عند عودته منها ما بين اثني عشر وخمسة عشر من أصحابه، فأبى قتلهم أو معاقبتهم حفاظا على وحدة الصف المسلم بقوله: (لايتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)، وعندما سماهم صلى الله عليه وسلم وعدهم قال له حذيفة رضي الله عنه:”أَلَا تَبْعَثُ إِلَيْهِمْ فَتَقْتُلُهُمْ؟”، فَقَالَ: (أَكْرَهُ أَنْ تَقُولَ الْعَرَبُ لَمَّا ظَفِرَ بأصحابه أقبل يقتلهم).

لقد كانت سورة التوبة شهادة لله عليهم، وأصدق صورة للمجتمع المسلم في هذه الفترة الحاسمة من حياة الأمة، لأنها كشفت أوضاع أهلها العقدية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، وخفايا ما يكنون وما يعلنون، وأهداف ما يعملون له ويخططون، وسميت بأسماء كثيرة بحسب معانيها وما نزلت له أو فيه، مثل التوبة لما فيها من قوله تعالى:{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة (117) وبراءة أي من الشرك والمشركين، والفاضحة والمقشقشة والمخزية والمبعثرة لخفايا نفوس المنافقين، والأعداء المتسترين والمتآمرين، وأعداء الداخل والخارج، وسورة العذاب، كما أخرج البخاري فيها عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة براءة، قال: “سُورَةُ التَّوْبَةِ بَلْ هِيَ الْفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ: “وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ … “حَتَّى ظننا ألا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا”. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال: “قَالَ عُمَرُ: مَا فَرَغَ مِنْ تَنْزِيلِ بَرَاءَة حَتَّى ظَنَنَّا أنه لا يبقى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا سَيَنْزِلُ فيه، وأخرج أبو عبيدة وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة قال: يسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب. ولئن ابتدأت هذه السورة بالحض على تطهير البلاد من الشرك والمشركينـ فإنه تعالى بعد أن بين نموذج المجتمع المسلم الحق بقوله:{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} التوبة 18، وأشاد بصفوته الصالحة ونواته الصلبة بقوله تعالى:{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة 99 – 100ـ كشف عقب ذلك مختلف الآفات التي تتعايش فيه وحوله، ضعيفة الإيمان أو متآمرة أو حاقدة أو حاسدة أو مغضبة أو مريضة بكفر أو منطوية على ولاء لأجنبي، فقال تعالى عن طائفة المتثاقلين عن النهوض بالأمر والمتهاونين بواجبهم في نصرة الدين:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} التوبة 38، ثم بالذين يتوسلون بالأيمان الكاذبة كي يتخلفوا عن الجهاد وتبرير العصيان:{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} التوبة 42، ثم بالمتخلفين عن الجهاد لكفر يبطنونه فقال:{إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} 45، ثم بالمتآمرين على الإسلام والمسلمين مثيري الفتن مدبريها في الخفاء:{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} التوبة 48، ثم بالحاقدين الحاسدين المتنمرين مترقبي فرص الانقضاض:{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} التوبة 50، مبينا كفرهم ونفاقهم وجبنهم الذي يمنعهم من إعلان الخيانة والمجاهرة بالعداوة فقال عز وجل: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} التوبة 56، ومنددا بعدوانيتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتشكيك في عدالته بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} التوبة 58، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} التوبة 61، بل إن النفاق يصل بهم إلى درجة الكفر وتبييت قتل الرسول صلى الله عليه وسلم مرات كثيرة أحصتها كتب السيرة والأثر،{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} التوبة 74، ومنهم من عاهد فأخلف وخان عهده {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} التوبة 75، ثم عقب الحق تعالى بقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} التوبة 80، ومنهم من منعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر ربه من المشاركة في الجهاد معه بقوله تعالى:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} التوبة 83 – 84، ومنهم بعض الأعراب حول المدينة في قوله تعالى:{ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} التوبة 90، وقوله عز وجل: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة 97،{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} التوبة 101 ثم بالذين تآمروا في المدينة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم أثناء خروجه إلى تبوك والانقلاب على النبوة لولا أن كشف الله له أمره فترك عليا واليا على المدينة وأفشل مسعاهم في العقبة وقال تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه} التوبة 107 -108، هذا حال المجتمع الذي توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وتركه، من خلال شهادة الله تعالى عليه في سورة سورة التوبة { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} النساء 87.

عن habib

شاهد أيضاً

بيان الاتحاد السوداني للعلماء والأئمة والدُّعاة حول الموقف الشرعي والواجب الإخلاقي والإنساني في أحداث الفاشر

بيان الاتحاد السوداني للعلماء والأئمة والدُّعاة حول الموقف الشرعي والواجب الإخلاقي والإنساني في أحداث الفاشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *