الرئيسية / المنبر الحر / فايز الكندري والقيود النفسية!

فايز الكندري والقيود النفسية!

براء العامري

قد كان الأميركيون يتفننون في وسائل تعذيبنا نفسيا وجسديا. إن اسم برنامج التعذيب في المعتقل هو “ترويض الخيول الجامحة” ولك أن تتصور طبيعة التعذيب فيه! إن الولايات المتحدة الأميركية تركز على إركاع وإذلال شخصية وعقلية المعتقل.

أما عن جسدي، فـ الشظايا الأميركية ما زالت فيه. وأذكر أنني بقيت مُسلسلاً لمدة اثني عشر يوماً ومقيد اليدين والرجلين في وضعية الركوع تحت إشراف وكالة الاستخبارات، حتى أنني كنت أنام وأنا مُكوَّر بهذه الطريقة، وكانوا يرفضون فك السلاسل عند دخولي الحمام.

وطوال سنوات سجني كلها، لم تُطفأ الأنوار، فكنت لا أستطيع النوم وأشعر بحرارتها في رأسي حتى اعتدت عليها، واكتشفنا لاحقاً أن هذا النوع من التعذيب يسبب السرطان، وكانوا أحياناً يضعون عقاقير داخل الطعام والشراب والتي كانت تسبب نوعاً من الغثيان والأرق، لدرجة أن بعض المعتقلين استمر لثمانية أيام دون نوم، حتى أننا كنّا نسمع صوت رأسه وهو يضربها في الحائط لعدم مقدرته على النوم.

ــــــــــــــــ

هكذا وصف فايز الكندري ما تعرض له من تعذيب وقهر وإذلال تحت إشراف مباشر من أمريكا في المعتقلات الأفغانية وكذلك في مركز الاعتقال الوحشي والمشهور “غوانتانمو”، لأول وهلة سيظن أي إنسان سوي أن هذا الرجل بعدما سرقت أمريكا من عمره 14 عاما ووضعته فيها تحت هذه الظروف القاسية والمهينة أنه سيكون في مقدمة الصفوف لحرب هذه الدولة الطاغية، وأنه سيبذل كل الجهد والطاقة ليكون في الطليعة التي تريد إركاعها وإذلالها، وأنه لا بد وألا يقر له قرار حتى يضع السلاسل في أعناق جندها، كما ساموه هذا العذاب جزاء وفاقا!

فهذا النوع من الكرامة مما فُطر عليها الإنسان، بل مما فطر عليه الحيوان، وإن كانت الدوافع بين الإنسان والحيوان مختلفة إلا أننا لا نجد حيوانا يعتدي أحد عليه أو على صغاره أو على منطقته إلا ويظهر نوعا من مدافعة هذا المعتدي استجابة لما فُطِر عليه من حب البقاء.

ولكن! ليس هذا ما فعله فايز الكندري، وإنما خرج علينا منذ عدة أيام في مقطع مدته 30 دقيقة بذل فيه جهده، وأنفد وسعه في جمع كل المبررات التي تبيح التحالف مع جلاده، وأن علينا إعانته على من يريدون تخليص الأمة من شره، وأن “المصلحة” تكمن في الارتماء في أحضان هذا الجلاد الذي سلبه عمره وكرامته!

أنا مهتم بالظواهر والمتلازمات النفسية، لأن بعضها -أحيانا- يعطيني تفسيرا مبدئيا لبعض الأمور التي يصعب تفسيرها بسبب الصورة المشوهة والجامعة بين المتناقضات التي نراها أحيانا، بعض هذه المتلازمات لا يولد بها الإنسان، وإنما تتكون عندما يتم وضع في ظروف محددة.

قهر مطلق، وإذلال مُطبِق، وإخضاع مستغرق.. هذه هي البيئة المثالية لظهور إحدى هذه المتلازمات، وتُسمّى “متلازمة ستوكهولم”، وسُمّيت بهذا الإسم نسبة إلى مدينة ستوكهولم في السويد حيث قام لصوص باحتجاز موظفي أحد بنوكها كرهائن لمدة ستة أيام، خلال فترة الأسر، أظهر الرهائن تأييدًا وتبريرا غريبًا لسلوك آسريهم .

وقامت بعض الحالات المشهورة لهذه المتلازمة بالتطوّع بإرادتها لمساعدتهم في عملية سرقة .. واستمر احتجازها لدى الخاطفين لمدة سنة انضمت خلالها للمجموعة واعتنقت أفكارهم وشاركت معهم في جرائم السرقة التي يقومون بها، وكانت هذه وسيلة للتكيّف والبقاء في ظروف الاحتجاز القاسية والتعايش معها بما لا يسبب عذابا نفسيا أو جسديا، ولكن سبب اعتبارها “متلازمة” أنها استمرت معهم بعد تحريرهم أو عندما يتاح لهم الهرب فلا يفعلون، إذ رفض بعضهم الإدلاء بشهادتهم ضد الخاطفين، وبعضهم اختار بنفسه البقاء تحت سلطة المعتدي عليه في نوع من التناقض النفسي الصارخ!

عندما سمعت حلقة الكندري (هل يجوز التحالف مع الكفار ضد الخوارج؟)، لم أرَ فيها إلا اعترافا ضمنيا منه بأن المحققين ومسؤولي التعذيب في سجن “غوانتانمو” قد نجحوا في تحقيق مرادهم من برنامج التعذيب “ترويض الخيول الجامحة” على أكمل وجه.

هذا التبرير الطويل ليس إلا تحولا للقيود التي وضعوا الكندري فيها إلى أغلال وقيود أخرى نفسية أشد إحكاما من تلك التي تركها في غوانتانمو، لقد نجحوا في ترويضه، وضمنوا ألا يقوم من الذل والركوع الناتج عن هذا الترويض، الكندري لا يستطيع -نفسيا- أن يقبل حلا لأي مشكلة، أو يبحث بحثا شرعيا إلا إذا كان فيه نوع من التماهي والخضوع للقوة القاهرة التي كانت مصدر الرعب والتعذيب في الأمس القريب، نجاة الأمة عند الكندري ليست إلا مرآة لما يشعر أنه نجاته هو.

فبالنسبة لشخص ليس لديه أي مؤهل إلا وصفه بأنه “معتقل سابق في غوانتانمو” فإن موقفه من هذا التحالف الجديد الذي يتزعمه نفس الجلاد القديم هو مجرد ظلال ألقتها تجربته مع هذا الجلاد، ويتكلم فيها كأنه ما زال في زنزانته عاجزا قليل الحيلة لا يرى أنه يستطيع أن يعيش الحد الأدنى من الكرامة ولا أن تكون “المصلحة” و”الحكمة” و”الحكمة” إلا بالتحالف مع جلاده حتى وإن كان هو من أذاقه الذل وسقاه الهوان .

لذلك أنا أدعوكم أن لا تأخذوا كلام هذا المريض النفسي على محمل الجد، وما يصدر عنه يمكنكم التعامل معه على أنه مجرد آثار نفسية لفترة اعتقاله، وبدلا من أن يذهب ليتعالج منها قرر أن يُخرجها على هيئة فتاوى وتنظيرات على الأحداث الجارية.

براء العامري

عن habib

شاهد أيضاً

الشيخ خميس الماجري

في فتوى مفتي ليبيا الشيخ الصادق الغرياني الشّيخ الدّكتور الزّيتوني خَميس بن علي الماجري التّونسي

في فتوى مفتي ليبيا الشيخ الصادق الغرياني     الشّيخ الدّكتور الزّيتوني خَميس بن علي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *