الرئيسية / المنبر الحر / “خالد الإسلامبولي”

“خالد الإسلامبولي”

بقلم الشيخ أسامة حافظ

لخالد الاسلامبولي صورة واحدة في أذهان الناس وهي صورته وهو يقفز برشاقة من عربة المدفع يحمل رشاشه ومن حوله اخوانه متجها نحو المنصة يطلق رصاصه على الجالسين ..

وكل من أحب أو كره خالد إنما أحب أو كره هذه الصورة لا يعرف غيرها في التعبير عنه.

وقد أحببت في خالد في البداية صورة الشجاعة والجرأة والاقدام الذين نقلتهم لي تلك الصورة فلم أكن قد اقتربت منه أو عرفته عن قرب حتى اقتربت منه اكثر بالالتقاء في المحاكمة والتي استمرت اشهرا نقلت معرفتي له نقلة أخرى نحو شخص أخر تمامًا غير الذي تخيلت.

كان خالد طفلًا كبيرًا جاوز الثالثة والعشرين البساطة والرقة والتواضع والحياء ثم ايضًا سرعة إنفعال الطفل وشدة هياجه ثم انطفاء ذلك الانفعال ببسمة أو كلمة ظريفة تجعل الحريق الهائل سلسبيلًا رائقا.

كان فيه مباشرة الطفل ووضوحه والبعد عن الخداع واللف والدوران ورغم ذلك كان فيه من الشموخ والاباء والقوة في الحق مايهد الجبال.

كان كثير العبادة والطاعة فترة السجن القصيرة التي عشناها معًا فقد ظل صائمًا منذ قرر المشاركة في الحدث وحتى لقى ربه لم يفطر يومًا واحدًا وكان يبدأ صلاته من الليل بعد منتصف الليل وكان قد حفظ سورتي البقرة وآل عمران حديثًا فكان يبدأ صلاته كل ليلة باحداهما تامة ثم يكملها بغيرها مما يحفظ من سور .. وكان بكاءًا ذا صوت عذب في تلاوة القرآن وكثيرًا ما كنت استيقظ ليلًا لمجرد أن أستمع لقراءته وهو يصلي إذ كان يقطن في الزنزانة المجاورة لي لا يفصله عني سوى حائط “ربع طوبة” وكنت أحيانًا اطلب منه أن يوقظني قبل الفجر بساعة لأصلي ركعات قبل الفجر فكان يقول “ساعة فقط اهذا سلوك انسان بينه وبين لقاء الله خطوات”

كان يحب تلاوة القرآن ويقضي في تلاوته أكثر ما يتاح له من انفراد أثناء النهار وكان له صيحة يكررها من آن لأخر في حبسه الإنفرادي “يارحمن”.

كنا نذهب للمحكمة كل يوم قبل مجئ القاضي بساعات إذ كانوا يصرون على ذهابنا بعد صلاة الفجر فكنا نفتتح يومنا بسلامات المشتاق واحضانه ثم نبدأ برنامجًا بسيطًا نستغل فيه وقتنا إلى حين حضور القاضي كنا نبدأه بقراءة الدكتور عمر جزءًا من القرآن أو يزيد بصوته الجميل ونحن جلوس من حوله في خشوع ـ واشهد أنني ما تأملت فيما قرأت طوال مصاحبتي للقرآن بمثل ما تأملت في هذه الأيام ـ ثم نبدأ في سؤال الشيخ حول ما يعن لنا من مسائل فقهية يشترك في السؤال الجميع ثم ننتقل إلى الانشاد حيث كنا نحفظ من أناشيد “أبو مازن” ماتيسر منها وكان أبو مازن المنشد الوحيد الذي كان قد ظهر حتى الأن واعتقد أن أحدًا بعد ذلك مااستطاع أن يأتي بمثل ما أنشد كلماتا ولحنًا وأداءًا وصوتًا متميزًا.

وقد كان الدكتور عمر يعشق رائعة هاشم الرفاعي “ملكنا هذه الدنيا القرونا” وقد ضبطت الشيخ أكثر من مرة تتسلل دموعه في صمت على وجنتيه وهو يسمع هذه القصيدة ينشدها “الشيخ كرم”.

والحقيقة أنه رغم ما سلطه الإعلام على شخص خالد باعتباره المتهم الأول والمسئول عن حادث الاغتيال وبرغم اقبال المحامين عليه والمبالغة في سؤاله وحواره إلا أنه احتفظ بروح الانسان البسيط المتواضع لم يبطره هذا الاقبال ولم يشعره بأي تميز .. على العكس كان يقدر ويحترم إخوانه جميعًا ويقدمهم على نفسه .. وكنا كثيرًا ما نستغل أسمه في تسريب كتابات للنشر فلم يكن يلقي لذلك بالًا أو يهتم به إذ كان شغله الشاغل في ذلك الوقت هو التجهز للشهادة والجنة.

ـ نسأل الله ألا يحرمه منها ـ

كان ضباط الشرطة العسكرية المكلفين بحراستنا ينظرون إلينا منذ بداية الجلسات

شذرًا وهم يضمرون لنا أشد الكراهية .. فخيالهم عنا كان أننا مجموعة من الارهابيين ظنوهم في البداية فلسطينيين او عراقيين ثم فوجئوا أننا مصريون وأن كنا في نظرهم خونة لا نختلف عن غيرنا كيف وقد قتلنا القائد الأعلى للقوات المسلحة قائدهم .. وكان شكلنا في الجلسات الأولى يؤكد في نفوسهم هذا المعنى فقد حلقوا رؤوسنا ـ زلبطة ـ ولبسنا ثيابا قد لا تكون لائقة فظهرنا في الجلسات الأولى للمحكمة بصورة لا تعبر عنا كأخوة من أهل الدين.

ومع مرور الأيام بدأت جلسات القرآن وحبنا لها وارتباطها بنا وعلامة الحب التي كانت بيننا ويظهر أثرها على معاملاتنا والكلمة الطيبة والحوار المهذب أو باختصار أخلاقيات المسلم تظهر أثرها على نظرة الضباط الذين اعتادوا أن يرافقونا للحراسة سواء في الطريق من السجن للمحكمة أو في المحكمة وكان أكثر من تأثروا به خالد إذ كان أكثرنا خلقًا وارقنا حاشية وأكثرنا بساطة وودًا في معاملته.

وهكذا بدأوا يلينون شيئًا فشيئًا فاقتربوا في جلوسهم من الاقفاص ليتابعوا حوارتنا وكثيرًا ما سألوا الدكتور عمر في مسائل فقهية.

تعن لهم .. ولما شكونا من طعام السجن الحربي وطلبنا تسهيل دخول اطعمة في الزيارات كانوا يجيئون لنا معهم خلسة ومن مالهم الخاص ببعض الشطائر ـ الساندويتشات ـ من الفول والطعمية الذين كثيرًا ما تمكنت رائحتهم الشهية من اغراء بعض من قرر الصيام من اخواننا إلي الافطار –

مضت جلسات المحاكمة سريعا وأكثرنا غير عابئ بسير أحداثها فقد كان الجميع يشعر أنه قد باع لله وليس عليه أن ينشغل أين يضع المشتري مبيعه .. وأثناء مرافعات الدفاع والتي طالت بصورة أزعجت القاضي الذي أراد أن ينتهي من القضية سريعا فافتعل مشكلة مع المحامين وأمر بمنعهم من الحضور وانتدب آخرين بعيدا عن نقابة المحامين لينتهوا من المرافعة عن الجميع في ساعتين ويحجز القضية للنطق بالحكم بعد يومين

وهكذا ذهبوا بخالد إلي ساحة الإعدام رميا بالرصاص في الهايكستب وسبقنا إلي الحكم العدل الذي لايظلم عنده أحد

رحم الله خالد وجمعنا به في أعلي عليين.

عن المحرر

شاهد أيضاً

آداب الطعام في الإسلام

آداب الطعام في الإسلام   الشيخ وحيد عبدالسلام بالي   آداب الطعام في الإسلام   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *