الرئيسية / الحركة الإسلامية المعاصرة / الحركة الإسلامية المعاصرة . . رؤية من الداخل

الحركة الإسلامية المعاصرة . . رؤية من الداخل

كمال السعيد حبيب

كانت مصر بعد هزيمة يونيو 1967 تبحث عن خلاص من مسخ هويتها وكرامتها وكان الجيل الذي مثَل عصب الحركة الإسلامية في الجامعة – بعد ذلك – قد بدأ وعيه في التفتح ، وبدأ يدرك حجم الخديعة التي وقع فيها إبَان الحقبة الناصرية ، وكانت الجامعة المصرية التي تمثل نبض الأمة المتدفق تعج بالتيارات اليسارية “شيوعية وناصرية” ، ويشاء الله أن تكون الهزيمة فرصة لأن يراجع النظام الناصري مسيرته بما في ذلك موقفه من الإسلام وأهله ، وعموماً فلم يعد القول بأن ( لا صوت فوق صوت المعركة ) مقبولاً لتأميم قوى المجتمع الأهلي من أن تعبر عن نفسها ، لقد هُزمت الناصرية ، ولم تكن الهزيمة الفظيعة هزيمة جيش بقدر ما كانت هزيمة لمرحلة في تاريخ الأمة .
ومن الواجب الإشارة إلى أن الاستلاب الناصري لعقل الجماهير لم يكن كاملاً ، فقد كان هناك وعي دائم بحقيقة أن الإسلام هو هوية الأمة الثابتة وخيارها الذي لا مناص منه ، كان هذا الوعي لدى القطاعات الإسلامية التي عانت من العَسف الناصري “الإخوان المسلمون” بشكل أساسي ثم قطاعات صغيرة من الشباب ارتبطت بالشيخ سيد قطب ، ولا يجب إهمال أن الجمعيات العلمية ذات الطابع المدرسي مثل (جمعية أنصار السنة) ، و( الجمعية الشرعية) مثلت ما يمكن أن نطلق عليه ظهيراً استراتيجياً للوعي بأهمية الانتماء للإسلام . وبشكل عام فإنه في ظل مجتمع إسلامي يستلهم نظامه الحداثة الغربية في مناحي الحياة المختلفة فإن الإسلام يظل ثابتاً قوياً في وعي الجماهير ، بل إنني لا أبالغ إذا قلت إنه يظل النداء المقلق والصدى العميق الذي يتردد في نفس أولئك الذين يتبنون الحداثة ذاتها .
كان الحديث عن الإسلام قد بُديء في الإعلان عنه بشكل يدعو للاطمئنان عقب الهزيمة الناصرية وبدأ رصيد الفطرة في نفس الجيل الصاعد – الجيل الذي تربى في أحضان الناصرية – يتفاعل بقوة مع خطاب الأئمة في المساجد وأحاديث الإيمان في إذاعة القرآن الكريم ، وبدأت الكتب الإسلامية – التي رأيت بعضها وعليه آثار الإخفاء المرير سنوات طويلة – تخرج إلى النور ، كان إيمان النخبة المتغربة بالناصرية يمثل عقيدة بديلة للإيمان ذاته . وكانت النخبة وراء النظام عبر آلة الإعلام تهاجم الإخوان ، لكنه وعقب الهزيمة فإن كل شيء قد سقط وبدت الأشياء تسفر عن حقيقتها وخف الضغط على الإسلام كممنوع في مصر وبدأت الأمور تنفرج تدريجياً حتى إن الدولة ذاتها بدأت تنحو إيجابياً إصلاحياً تجاه الإسلام عبر نصائح لقوى إسلامية أو سياسية رسمية .
وفي حياة الأفراد فإن الانعطاف الحقيقي ناحية الإسلام هو نتاج لتاريخ متصل من استبطان معاني الإسلام وحقيقته عبر الممارسات البسيطة التي تشكل جوهر ثقافة الناس وهذا الاستبطان للإسلام يتفجر في لحظة تحول داخلي فريدة في حياة الفرد حيث تهتف به أشواقه التي لا يمكن دفعها ناحية منازله الأولى . وفي حياة الشعوب فإن الإسلام يظل كامناً في الذاكرة الجماعية لها حتى إذا جدَت ساعة الخطر أو المواجهة فإن رصيد الإسلام يمثل الزاد الذي يحقق لها الأمان ويمكنها من تحدي الأخطار .
الحركة الإسلامية :
كان المشهد العام في مصر إبَان الستينات يؤكد أن القوى الإسلامية قد تم القضاء عليها إلى غير رجعة ، فلا توجد مؤشرات حقيقية على وجود الإسلام في حياة الناس اللهم إلا تواجد لعجائز في زوايا المساجد ، وكان جيل الصحوة الذي مثل عصب الحركة الإسلامية في السبعينات لا يعرف شيئاً عن الإسلام ، ومع أوائل السبعينات بدأت بشائر الصحوة الإسلامية في الظهور ، ففي الجامعة تأسست الجماعة الدينية ثم الجماعة الإسلامية ، وخرج الإخوان المسلمون والقطبيون من السجون ، وبدأ الشباب يتجه بقوة ناحية الإسلام فزادت اللحى وانتشر الحجاب وظهرت مراكز التجمعات الإسلامية مثل (مسجد أنس بن مالك) وبدأت المعسكرات الإسلامية الصيفية التي شارك فيها آلاف الطلاب حيث كانت تنعقد بالمدن الجامعية لمختلف جامعات مصر ، وانتشرت معارض الكتب الإسلامية ، وشارك الاتجاه الإسلامي في الجامعة في الانتخابات الطلابية وسيطر الإسلاميون على الاتحادات الطلابية ، وبدأت أموال هذه الاتحادات توج×ه لخدمة جماهير الطلاب ، وظهرت سلسلة الكتب الإسلامية (صوت الحق) ، وأصبحت الكليات خلايا نحل نشيطة تسعى لفهم الإسلام والالتزام بقواعد الدين ، وظهر النقاب لأول مرة في الجامعة عام 1976م واكتسح الحجاب فتيات الجامعة ، وأصبحت صلاة العيد في عابدين موسماً لاحتكاك الحركة الإسلامية بالأمة – رجالها ، نسائها ، وأطفالها – وتطور عمل الحركة الإسلامية ليكتسب أبعاداً سياسية حيث رفضت الحركة زيارة السادات للقدس ، ورفضت استقبال الشاه في مصر ثم دفنه بها ، كما قاومت القوانين الاستثنائية التي سنها السادات والتي عُرفت بالقوانين المقيدة للحريات .
كما رفضت معاهدة الصلح مع العدو الصهيوني ، وكان هناك مجلة (المختار الإسلامي) ، و(الاعتصام) و(الدعوة) ، وظهرت أسماء إسلامية كبيرة في الدعوة مثل الشيخ كشك والغزالي والمحلاوي وحافظ سلامة وعيسى عبده وصلاح أبو إسماعيل فضلاً عن دعاة الإخوان مثل الشيخ مصطفى مشهور وعمر التلمساني ، ووقعت حادثة الفنية العسكرية وأُعدم صالح سِرية وكارم الأناضولي وألهبت حماس الشباب خطبته في المحكمة ، وأصبح (الظلال) مأدبة للتدارس والفهم ، وكانت المدينة الجامعية معسكراً إسلامياً متصلاً ترى فيه الصائمين والقائمين والتالين والذاكرين .
وكان الشاب المسلم نموذجاً حقيقياً للإسلام ومحطاً للاحترام ، لقد أصبحنا بإزاء جيل كامل يجعل من الإسلام أساساً لحياته الفردية ويريد أن يجعله أساساً لحياة أمته ومجتمعه ، هذا الجيل هو الذي شكل في الثمانينات والتسعينات عصب الحركة الإسلامية في مصر .
لقد كان جيل التأسيس الجديد للإحياء والصحوة الإسلامية . واستطاع هذا الجيل أن ينجح في حسم خيار الإسلام كمنهج حياة على مستوى حياته الفردية ، إذ تكونت في هذه الفترة وفي شتى الكليات الجامعية وعلى امتداد الوطن كله أسر تتخذ من الإسلام أساساً لحياتها .
لقد كان جيل التأسيس جيلاً حياً يحمل حلم تطبيق الإسلام كمنهج حياة في الواقع واستطاع هذا الجيل أن يحطم التقاليد والأعراف الاجتماعية في المهور والأعراس والأثاث وبدأت الصحوة تنتقل من الجامعة إلى المنازل ثم إلى الشوارع حيث صار الإسلام مشتركاً عاماً لحياة الناس في مصر ، لا باعتباره مسألة عبادات وإنما باعتباره ضابطاً للسلوك وللحياة .
وبشكل عام فإن حِقبة السبعينات كانت أزهى عصور المد الإسلامي في (فترة ما بعد انقلاب يوليو) . ولم يكن الأمر في مصر وحدها بل كان على امتداد العالم العربي والإسلامي ، وكان أبرز تجليات الصحوة الإسلامية الجهاد الإسلامي في أفغانستان ونجاح الثورة الإيرانية في القضاء على طاغية إيران (الشاه) ، وكان هذا يعد انقلاباً في التحليل السياسي والاجتماعي ؛ إذ لم يعد الدين الإسلامي (ميتافيزيقا) خارج العلم أو تبريراً للخرافة وإنما أصبح ملهماً لحركة الجماهير وأساساً للمقاومة والتغيير، وأصبحت الحركات الإسلامية جزءاً من العلوم الاجتماعية والسياسية باعتبارها حركات للتغيير الاجتماعي .
ويمكن أن نصيغ عدة ملاحظات على الحركة الإسلامية في السبعينات :
أولاً : أنها حركة جيل في مجمله يحمل الرفض بين جوانحه وتتغلغل الثورة في جنبات نفسه ووعيه ؛ ولذا فإنه يرفض وصاية الآخرين عليه ، ويريد أن يكون لنفسه خبرته الذاتية الناتجة عن رؤيته هو ؛ لذا فإن خبرة الإخوان المسلمين لم تكن تمثل مصدراً لإلهامه .
وللتاريخ : فإن الجماعة الإسلامية بالجامعة ظلت حتى عام 1978 وهي مستقلة تماماً عن أي توجه أو تيار خارج الجامعة ، حيث بدأ الإخوان يحاولون التحرك للسيطرة عليها عبر تجنيد قيادات العمل الإسلامي في كليات الطب والذين أصبحوا الصف الثاني للجيل الأول من الإخوان ومثلوا – فيما بعد – القاطرة التي حفظت لجماعة الإخوان استمرار مسيرتها .
ثانياً : أن الجيل في مجمله تأثر بمصدرين شكلا أفكاره ووعيه : المصدر الأول أفكار (ابن تيمية) “661 – 728 هـ” خاصة فيما يتصل بالموقف من التتار ، والمصدر الثاني أفكار سيد قطب فيما يتصل بموقفه من النظام الناصري ، والفترتان بكل المقاييس تعد استثناءً في تاريخ الإسلام ، ففي الفترة الأولى وُجدت لأول مرة في تاريخ المسلمين جماعة أسقطت مؤسسة الخلافة في بغداد واستولت على دار الإسلام وحكمتها عبر مجموعة من القوانين المختلطة التي اعتبرت شرعاً للناس بديلاً عن الإسلام ، والفترة الثانية وُجد حكم عَلْماني يتبنى قيم الحداثة الغربية ويتخذ (الميثاق) شريعة للناس ، واعتبر فقهاء الإسلام وعلى رأسهم ابن تيمية أن التحاكم إلى (الياسَق) – أي مجموعة القوانين التي وضعها (جنكيز خان) – يعد اعتداءً على حق الله في التشريع للناس وأن ذلك كفر يستوجب الخروج من الملة ، واعتبر ابن تيمية أيضاً أن (التتار طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام مثل مانعي الزكاة على عهد أبي بكر الصديق وأن ذلك يستوجب قتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) فمتى كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله .
أما سيد قطب فقد اعتبر النظام الناصري الذي يعتبر الميثاق والوضعية والاشتراكية مرجعية بديلة للناس – اعتبره نظاماً جاهلياً ونظر إلى مؤسساته التشريعية والتنفيذية باعتبارها مغتصبة لحق الله في التشريع ، ورأى أن أخص خصائص العبودية والحاكمية هي حق الله في أن ينفرد بالتشريع للبشر ؛ ومن ثَم¹ فالنظام الناصري جاهلي يجب على المسلم أن لا يمنحه ولاءً أو شرعية . وهكذا تولدت لدى هذا الجيل فكرتان : الأولى قتال الطائفة الممتنعة ، والثانية جاهلية النظام السياسي .
ثالثاً : أن الجيل في مجمله أيضاً تأثر بالتوجه السلفي أي ضبط أفكاره ومفاهيمه على طريقة السلف الصالح وهم الأربعة قرون الأولى في تاريخ الإسلام حيث تعبر هذه القرون عن الخيرية – واعتبر القرآن والسنة كما فهمها السلف منهجاً للتفكير لدى هذا الجيل ، وفي الواقع فإن التوجه السلفي للجيل كان جزءاً من تأكيد رفض اتجاه التكفير الذي عبر عنه قطاع على هوامش الحركة الإسلامية في حقبة السبعينات . ولا بد من الإشارة أيضاً إلى تأثير أفكار الشيخ (حسن البنا) على هذا الجيل خاصة الذي مال ناحية الإخوان ، بل وغير الإخوان ، لكن أفكاره لم يكن لها نفس تأثير أفكار ابن تيمية وسيد قطب .
رابعاً : هذا الجيل شاء الله له أن ينشأ في بيئة آمنة حيث لم تعرف هذه الفترة صداماً مع السلطة التي أعلنت الإيمان والعلم منهاجاً لها ، واعتبرت أن الصعود الإسلامي فرصة تاريخية للقضاء على خصومها اليساريين ؛ لذا فقد غضَت الطرف عن النشاط الإسلامي للحركة الإسلامية في هذه الحقبة ؛ لذا لم يشعر هذا الجيل بمشكلة الأمن أو التعذيب أو المطاردة وكان ذلك فرصة لسلامة هذا الجيل من الناحية النفسية والإيمانية ، إذ أتيحت لهم فرصة طويلة في دراسة الإسلام وفهمه والتعمق فيه وكذا ممارسته وهذا شرط – في اعتقادنا – لإمكان خروج جيل مؤمن قادر على التعامل مع مشاكل مجتمعه بشكل صحيح أي أن الأمان له صلة بالسلامة النفسية والإيمانية للجيل بحيث يمكنه ذلك من التعبير الصحيح عن الإسلام .
لقد كانت الثقة أساساً لعلاقات أبناء هذا الجيل ببعضه وهو ما أدى إلى تعميق وشائج الارتباط بينهم .
خامساً : لم تكن الحركة الإسلامية في الجامعة منفصلة عن المجتمع بل كانت متصلة بقوة بمجتمعها تؤثر فيه وتتأثر به ، فالطالب الجامعي كان ينقل نشاطه الإسلامي في منطقته وكان الطلبة يتقابلون في الشوارع والمؤسسات والميادين العامة كجزء من مجتمعهم ، وكانت الرابطة الإسلامية هي الأعمق في حياتهم جميعاً ، لكن الاتجاهات الإسلامية ذات الطابع التنظيمي انتقلت هي الأخرى للجامعة ، وبدت قطاعات واسعة من الشباب في الجامعة مستعدة للارتباط بالتنظيمات خارج الجامعة ، ولا يبدو مفهوماً أسباب هذا الاستعداد ، هل لأن هذه التنظيمات تمثل بيئة أخص لتمثل الإسلام ؟ أم أنها – من وجهة نظر الشباب – أداة الحسم في مواجهة الدولة والأنظمة السياسية الجاهلية ؟ أم أنها تعبير عن الفدائية الإسلامية والاستعداد العملي للتضحية ؟ .
المهم أن (رسالة الإيمان) لصالح سرية تم طبعها وكانت توزع في الجامعة وكان شريط كارم الأناضولي يتداوله الطلبة ، وبدا والد كارم كأب للشهيد وللجميع في إحدى صلوات الجمعة (بمسجد أنس بن مالك) ، وكانت رسالة (المسائل الشاغلة) لحسن الهِلاوي تنتشر حَثِيثاً ، كما أن جماعة التكفير قد أحرزت تواجداً في الجامعة أيضاً وخاصة في بيوت الطلبة المغتربين بالقاهرة وفي المدن الجامعية بالأقاليم . وبدأ الإخوان العمل السريع في الجامعة واستطاعوا أن يحققوا إنجازاً هاماً في جامعة القاهرة ، أما جامعة الأزهر فكان السلفيون المدرسيون يسيطرون عليها ، وفي خارج الجامعة كان تيار التكفير ينتشر انتشار النار في الهشيم لكنها كانت ومضة خاطفة كومض البرق سرعان ما خبت وزالت .
وهكذا يمكن القول إن هذه المرحلة من مراحل الحركة الإسلامية مثلت ما يشبه الحُلم الذي يتسم بالروح العالية والعاطفة المتدفقة لكنه يفتقر إلى الانضباط والتخطيط والإحكام .
اتجاهات الحركة الإسلامية :
1- مثلت (الجماعة الإسلامية) الوعاء الجامع لكل فصائل الحركة الإسلامية في السبعينات حيث كانت إطاراً للعمل الطلابي بصرف النظر عن توجهه وظلت الجماعة الإسلامية تمثل هذا الوعاء حتى عام 1978 حيث بدأت قيادات الجامعة في القاهرة – خاصة في كلية الطب – تتحرك على بقية الجامعات لدعوتهم إلى (الإخوان) باعتبارها الجماعة الأم ويبدو أنهم نجحوا في (الوجه البحري) ، بَيْدَ أن (الوجه القبلي) رفض الانضواء تحت مظلة (الإخوان) بشكل لا هوادة فيه ، وهنا صارت الجماعة الإسلامية في الوجه القبلي تعبر عن تيار سلفي يريد أن يتمايز وينتج شكلاً مختلفاً للحركة .
وفي الواقع فإن (أسامة حافظ) أحد مؤسسي الجماعة الإسلامية بالوجه القبلي كان قد نقل تقاليد التيار السلفي لجامعة أسيوط ، والذي كان جزءاً منها عدم اعتبار الإخوان حركة قادرة على الاستجابة لتطلعات الجيل الجديد ، إن مثاليته تتجاوز الإخوان إلى عمق التاريخ والممارسة الإسلامية الصافية في القرون الأولى ، وفي الواقع فإن (الجماعة الإسلامية) الطلابية في الوجه القبلي – التي تطورت فيما بعد إلى (الجماعة الإسلامية) الجهادية وهي أهم قوى معارضة للنظام في التسعينات – قد بدأت تمارس (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مستخدمة القوة ؛ وذلك لمنع الاختلاط أو تنفيذ المؤتمرات أو تحطيم حانات الخمر .
وكان ذلك يتم بعفوية وسذاجة ، كما كان يتم عبر تفاوض صراعي مع السلطات المحلية لتنفيذ مقاصد الجماعة التي تتمحور – بشكل أساسي – حول أهداف بسيطة ، مثل تنظيم صلاة العيد ، أو إقامة مؤتمرات … الخ ، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن طبيعة الوجه القبلي والإنسان في الصعيد قد لعبت دوراً في التأكيد على التمايز عن الإخوان والقدرة على تأسيس إطار جديد مستقل (فنحن لسنا أقل منهم -أي الإخوان) ، كما أن الجماعة الإسلامية بتقاليدها السلفية كانت أكثر تعبيراً عن البيئة الصعيدية المحافظة وهي أكثر تماثلاً مع النفسية الصعيدية التي تميل إلى الأخذ بالنصوص دون توسع في تأويلها كما يذهب (الإخوان) ، وهكذا صار لدينا اتجاهان أساسيان : الأول : الجماعة الإسلامية الإخوانية في جزء هام من جامعة القاهرة والأقاليم ، الثاني : الجماعة الإسلامية السلفية في كل الصعيد بجامعاته المتعددة . وبقية الجماعة الإسلامية في القاهرة كانت متوزعة على التيار السلفي والجهادي والقطبي .
2 – اتجاه التكفير : والذي أطلق على نفسه (جماعة المسلمين) وأسسه (شكري أحمد مصطفى) وكان يدعو إلى عزلة المجتمع وهجرته وتكفير أفراده ومؤسساته ، واعتبر نفسه إماماً لجماعته بل وخليفة لهم وأعطى لنفسه حق التشريع والطاعة كما لو كان نبياً وكان فهم النصوص يتم عن طريقه هو ، واستطاع شكري أن يؤسس جماعة قوية جذبت قطاعاً واسعاً من الشباب والشابات ، لكن أسسها الفكرية ذات الطابع المَهدوي الخلاصي لم تكن لتصمد أمام الواقع ، كما أن الجماعة اُخترقت أمنياً ، وتورطت في مقتل الشيخ الذهبي ، وهو ما شكل نهاية سريعة لها .
وبشكل عام : فإنه يمكن القول إن (جماعة التكفير) كانت تعبيراً عن اتجاه نفسي لمؤسسها وأتباعها الذين لم يكونوا قادرين على التكيف مع مجتمعاتهم وبالتالي قرروا هجرتها ، ومع أواخر السبعينات اختفت الجماعة من الواقع خاصة بعد مقتل (شكري) ، كما أن فكر التكفير منافٍ للفطرة البشرية وللطبيعة المصرية .
3 – اتجاه الجهاد : وكان أول تعبير حركي له (عملية الفنية العسكرية) التي حاول خلالها طلبة الفنية أن يسيطروا على اللجنة المركزية التي كان يخطب بها السادات ثم يرغموه على إعلان تنازله عن الحكم وكان يشترك معهم آخرون من خارج الكلية ، وقد حاولوا اقتحامها من الخارج ، لكن الأمر تم اكتشافه ، كان ذلك عام 1974 ، وتعد هذه أول محاولة انقلاب عسكري إسلامي منظمة ضد السلطة السياسية . وكان يقودها (صالح سرية) الفلسطيني الأصل ، وحُكم عليه وعلى (كارم الأناضولي) بالإعدام بينما بُريءَ معظم المشتركين وكانوا صغاراً في السن ، وكان من هؤلاء شاب ينتمي لكلية أصول الدين اسمه (حسن الهِلاوي) وكان ألمعياً وافر الذكاء على علم بمنهج السلف ، استطاع أن يدخل في مرحلة مبكرة مع (شكري مصطفى) في جدل لنقض مذهبه الفكري ، ونجح في ذلك بحيث كان شريط المناظرة سبباً في نهاية جماعة التكفير ، فرغم تماسك البناء الفكري للتكفير إلا أنه فككه عن طريق منهج أهل السنة ، وكان ذلك سبباً في اقتحام (الكتيبة الخضراء) لمنزله ومحاولة قتله لكنه فر وأصيبت أخواته البنات ، وفي المحكمة نفى أن تكون جماعة التكفير هي التي هاجمته ، وفي عام 1977 اتُهم في قضية جديدة للجهاد وحكم عليه بسبع سنوات ثم هرب إلى الأردن والسعودية حيث تم القبض عليه مؤخراً وترحيله إلى مصر .
وكان يتوازى مع هذا الاتجاه (مجموعة صغيرة) من الشباب منهم أيمن الظواهري وعصام القمري ومحمد الشرقاوي وأكبرهم كان (نبيل البرعي) وهؤلاء تربوا في أنصار السنة ويتمسكون بتراث السلف باعتباره مقدساً وعُرض عليهم الاندماج مع مجموعة (صالح سرية) لكنهم رفضوا لوجود بعض المشاكل فيما يتصل بفهم الأسماء والصفات ، وظل هؤلاء كما هم حتى اشتركوا مع أحداث 1981م دون أن يكونوا صانعيها ، وضمن هذه المجموعة ظهر وكيل النيابة (يحيى هاشم) الذي حاول أن يُخرج مجموعة (الفنية) من السجن لكنه حدثت مواجهة بينه وبين الشرطة في الصعيد أسفرت عن مقتله ، ثم حدثت في عام 1979 قضية للجهاد كان ضمنها عنصران هامان : هما (محمد عبد السلام) ، و(محمد سالم الرحال) الفلسطيني الأصل .
4 – السلفيون : ويمثلهم اتجاه مدرسي لا يذهب إلى الاجتهاد ويعتمد التقليد أداته ، ويدرس المذاهب الفقهية كما كان الأزهر يدرسها وهؤلاء يمثلهم (أسامة عبد العظيم) و(محمد الدبِيسي) وهم يهتمون بقضايا العقيدة والتمسك بظواهر النصوص وليس لهم اهتمام بالواقع ويركزون بالطبع على ما يتصل بالأخلاق وتزكية النفس ويدعون إلى التمسك بالرموز الإسلامية وهم لا يذهبون إلى المواجهة مع السلطة وهم فعلاً أشبه ما يكونون بالمدرسة ، وبظني أنها تحقق وظيفة مؤكدة في تعليم الشباب دينهم لكنها بحاجة إلى أن تفسح لهم مجالاً لفهم الواقع ومشكلاته والعالم وما يدور فيه بحيث يتكامل العلم والوعي ، وينتشر هذا الاتجاه في القاهرة .
أما الاتجاه الآخر فهو مدرسي لكنه يدعو إلى الاجتهاد وعدم التقليد ويستمد فهمه للنص من كلام الصحابة والتابعين وتابعيهم بل ومن المجتهدين المعاصرين دون اعتبار مسألة التعلم عبر المذاهب مسألة مجدية وهم أقرب للواقع ومحاولة فهمه ويهتمون أيضاً بقضايا التزكية ويتحدثون عما يطلقون عليه (التصفية والتنقية) وهم يعملون بالحديث أكثر من الفقه ويعد الشيخ الألباني حجتهم في هذا ، ومن رموز هذا التيار (محمد إسماعيل) بالإسكندرية .
5- التبليغ والدعوة : وهي جماعة تعتمد البلاغ والتعليم وتأخذ بيد الناس العوام والبسطاء إلى الإسلام ، وهي متأثرة بمنهج (جماعة التبليغ) التي ظهرت في الهند وباكستان ، حتى أنهم يتمثلون طريقتهم في الكلام ، وكان شيخها في مصر (إبراهيم عزت) – رحمه الله – وكان مقر تجمعها وانطلاقها (مسجد أنس بن مالك) بالعجوزة قبل هجمة الأوقاف على المسجد ، وفي الواقع فإن جلسات التعارف التي كانت تُعقد بالمسجد عقب صلاة الجمعة مثلت إطاراً لشبكة علاقات اجتماعية إسلامية فاعلة ، وكثير من قيادات العمل الإسلامي في هذه الفترة دخلت إلى العمل الإسلامي عبر هذه الجماعة .
هذه هي أهم الاتجاهات التي مثلت الحركة الإسلامية في فترة السبعينات .
التحولات في الحركة الإسلامية :
رغم أن اتجاه (التكفير) أو جماعة المسلمين كما تطلق على نفسها مثلت أول الاتجاهات التي تحركت تجاه المجتمع وفقاً لمنظورها ، حيث هاجر مجموعة من الطلبة المجتمع إلى جبال المنيا والوجه القبلي وتم القبض عليهم ، لكن اعتباراً لصغر سنهم فإن السادات أفرج عنهم ورغم أن اتجاهها ظل يتصاعد بقوة خارج الجامعة بالذات إلا أنه ومع عام 1977 حيث تم القبض عليهم بسبب إقدامهم على فعلتهم الشنعاء بقتل الشيخ (الذهبي) – بدأت الجماعة في الانهيار وذلك بسبب اكتشاف خطأ مقولات (شكري) على أرض الواقع ، إذ كان يعتقد أنه إمام جماعته وأنها الحق وأنه سوف ينتصر قبل أن يموت وكان يقول : (إذا مت فاعلموا أنني على الباطل) وظل يعتقد حتى وصوله إلى حبل المشنقة أنه لن يُعدم .
لقد كان (شكري) يؤمن بالتوسمات ويبالغ في التفاؤل إلى حد القفز على الواقع أو قل إنه كان يواجه الواقع ببناء (عالم فوقه) لا يأخذه – أي الواقع – في الاعتبار كأداة للاستمرار ، وبالطبع فإن التفاؤل جزء من أي حركة تغيير لكنه تفاؤل يجب أن يكون الواقع جزءاً منه أو مأخوذاً في الاعتبار ، وفي الواقع فإن (شكري) كان شخصية حالمة ، وهو شاعر وكتب كتاباً اسمه (التوسمات) ، لكن الخطأ المنهجي الأساسي في (توسماته) أنه درس أحاديث آخر الزمان ورتبها لكي تكون صورة للعالم في ذهنه – أي أنه استقى حركة التاريخ من أحاديث الفتن والملاحم ومن ثم فإن التاريخ كان مرسوماً أمامه – أي أنه كان تاريخاً مقدراً سلفاً لا يمكن الفكاك منه ، وبالتالي فقد نفى إرادة الإنسان ، وبشكل عام فإن استناده إلى نصوص لرسم التاريخ يعكس أزمته في الاستعلاء على الواقع أن يكون مادة أو جزءاً من حركته ، إذ إنه يشكو فيه إلى الحد الذي يلتمس فيه اليقين من النصوص .
وبشكل عام فإن جماعة التكفير تلاشت من الواقع الإسلامي بقوة كما ظهرت حتى باتت باهتة لا وجود لها الآن .
وكان التيار السلفي “الجهادي والمدرسي” له الأثر الكبير في محاصرة أفكار (شكري) وجماعته ؛ لذا فإن (السلفية) مثلت أساساً لكل الحركات الإسلامية الناشطة في مصر بمختلف اتجاهاتهــــا ، وتحظى عقائد السلف وفقههم ومناهجهم في الاستدلال والأصول بالثقة والرضا ؛ لذا فإن (التكفير) أصبح فكرة منبوذة لدى كل الحركة الإسلامية ، وجميعهم يعتقدون: (أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) ، بَيْدَ أن مذاهبهم اختلفت فيما يتصل بمسألة التغيير ، وبشكل عام فإن هناك منهجين أساسين بهذا الخصوص :
المنهج الأول : إصلاحي :
يعتمد أسلوب العمل الاجتماعي والسياسي عبر القنوات التي يتيحها النظام السياسي والاجتماعي ويدخل ضمن هذا المنهج (الإخوان المسلمون) كقوة أساسية بالإضافة إلى الجماعات والجمعيات الأخرى التي تتبنى العمل الاجتماعي والدعوة مثل : التبليغ وأنصار السنة والجمعية الشرعية بالإضافة – طبعاً – للسلفيين .
المنهج الثاني : ثوري :
ويعتمد أسلوب العمل الصدامي مع النظام بشكل أساسي حيث يغلب على حركته أعمال المواجهة الممتدة ، ولا يكاد العمل السياسي السلمي يمثل جزءاً من مشروعه أو خطته ويدخل ضمن هذا المنهج الثاني بشكل أساسي (الجماعة الإسلامية) و(جماعة الجهاد) بشكل رئيسي ، وفي الواقع فإن الأساس الفكري لمنهج الفريقين لا يعتمد فقط على الموقف من النظام السياسي ، وإنما يعتمد أيضاً على فهمه للواقع فأصحاب المنهج الإصلاحي خاصة (الإخوان) يمثلون امتداداً لحركتهم التاريخية التي لم تكن ترى نفسها خارج النظام الذي نشأت فيه وإنما ترى أنها جزء منه وأنها تعتمد القنوات التي يتيحها وربما يكون لطبيعة المرحلة الليبرالية التي نشأت فيها الحركة تأثير في رؤية الإخوان لأنفسهم باعتبارهم جزءاً من الواقع الاجتماعي والسياسي ، لكن فكر (الشيخ حسن البنا) في التحليل النهائي هو فكر إصلاحي ذو طابع توفيقي وهو يمثل تطوراً طبيعياً للفكر الإسلامي الذي سبقه ممثلاً في (رشيد رضا) على وجه الخصوص ، يضاف إلى ذلك أن الخبرة التاريخية للإخوان جعلتهم يقررون عدم الصدام مع السلطة في مصر واتباع سياسة النفس الطويل واستبعاد المواجهة تماماً كأداة حركية في التعامل مع النظام .
أما أصحاب المنهج الثاني وهم الحركة الأحدث تاريخياً والأكثر سلفية والأكثر تأثراً بأطروحات سيد قطب وشيخ الإسلام (ابن تيمية) ، لكن مصادر أفكارهم في المواجهة مع النظام تستند إلى ميراث فقهي متكامل هو (فقه الخروج) ، فهناك اتجاه في الفقه الإسلامي يبيح الخروج على الحاكم المسلم الظالم إذا فحش ظلمه وهناك اتجاه يبيح الخروج عليه بكل حال حتى لو كان ظلمه قليلاً . وفي الواقع فإن الفقه السياسي الإسلامي يرى العلاقة مع الحاكم علاقة عقدية تفترض حقوقاً وتلزم بواجبات وأن عدم الالتزام بشروط العقد – وعلى رأسها الالتزام بتطبيق أحكام الإسلام – يعطي الأمة »الشعب حق الرقابة عليه بما في ذلك استخدام القوة ، بيد أن ذلك كله مشروط بالقدرة وأن غياب حد القدرة لا يجعل من ذلك تكليفاً واجباً يأثم الفرد أو الجماعة بتركه غير أن الطابع العاطفي الحماسي لهذا الفصيل لا يجعله يقدر حد الاستطاعة والقدرة حقه .
ومع اتجاه النظام الساداتي للتراجع عن الفترة القصيرة للديمقراطية في أوائل عام 1976 وتحوله ناحية التصالح مع العدو التاريخي للأمة – وهم اليهود – بدأت نذر المواجهة مع التيار الإسلامي تلبد الأفق السياسي المصري ، ورغم أن التيار الإصلاحي عبر عن مواجهته للنظام بطرقه الخاصة التي تراوحت بين الكتابة والخطابة والمواجهة الشفهية المباشرة إلا أن التيار الثوري بدأ يشتد عوده ويقوى عبر المواجهات الصدامية مثل المظاهرات والخطابة وكتابة الحائط في الجامعة إلا أن التحول الحقيقي كان خارج الجامعة حيث كان جيل (الجماعة الإسلامية) الجامعية قد تخرج فعلاً وانتقل إلى الشارع وبدأت خيوط جديدة لشبكة علاقات ذات طابع تنظيمي تنمو بقوة خارج الجماعة حيث التقى أعضاء من تنظيم الجهاد بأفراد الجماعة الإسلامية في أسيوط الذين كانوا لا يزالون طلبة ، وانتقل الفكر التنظيمي إليهم ، كما انتقلت تأثيرات (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى الجهاد في الوجه البحري ، صَاحَبَ ذلك نمو في المواجهة مع التيار الإسلامي بجميع فصائله ، ويمكن أن نطلق على هذه المواجهة أنها (مفتوحة) باستثناء تيار الإخوان فالأئمة خطابهم النقدي كان ثورياً ، و(الاعتصام) و(المختار) كانت كتابتهما ثورية ، والشيخ كشك كان خطابه قوياً .
المتغير الجديد الذي جعل المواجهة مفتوحة هو التحول الحاد للنظام في سياسته الخارجية والذي مثل انقطاعاً قاسياً مع تقاليد المواجهة التاريخية مع اليهود كأعداء للأمة الإسلامية . وبلغت المواجهة أقصاها في منتصف عام 1981 الذي كان قد تشكل فيه – بالفعل – تنظيم الجهاد بفصائله الثلاث : مجموعة محمد عبد السلام فرج وضمنها عبود الزمر ، طارق ، نبيل المغربي ، ومجموعة قبلي وعلى رأسها الشيخ عمر عبد الرحمن وأبرز أعضائها كرم زهدي ، ناجح إبراهيم ، عاصم عبد الماجد ، عصام دربالة ، فؤاد الدواليبي ، حمدي عبد الرحمن ، ومجموعة ثالثة ذات مواصفات خاصة هي مجموعة (سالم الرحال) وهو طالب دراسات عليا في جامعة الأزهر بكلية أصول الدين وعلى دراية كبيرة بالفقه والعقيدة والحركة إذ كان من قبل عضواً بحزب التحرير الإسلامي ، لكنه خرج منه لتحفظه على منهجه الفقهي والعقدي ، لكن ظلت مناهج السياسة والحركة لحزب التحرير جزءاً من خطته ، وفي الواقع فإن هذه المجموعة كانت عبارة عن مجموعات أخرى عدة تتبنى الفكر الجهادي ، وهي سلفية العقيدة ولا ترى أسلوب الثورة الشعبية ، وإنما الانقلاب العسكري باعتباره أقرب للروح الإسلامية ؛ لأنه لا يؤدي إلى الهرج والدماء والقتل ، وكانت هذه المجموعة تضم أكثر العناصر وعياً وخبرة ، فقد كانت تضم أيمن الظواهري وعصام القمري ونبيل نعيم ومحمد الشرقاوي ، كما كانت تضم محمد الأسواني وخميس مسلم وأنور عكاشة ، ثم طارق إبراهيم وطارق المصري وصلاح بيومي ونبيل فرج وأسامة قاسم وعلي فراج .
وفي الواقع فإن هذه عناصر تتبنى الأسلوب الجهادي ، وكان سالم الرحال هو الذي يربط بينهم ، لكنه سافر من البلاد عقب أحداث “الزاوية الحمراء” ، ثم التهبت المواجهة مع النظام السياسي ، وبدأت بوادر أزمة طائفية ، ثم حدثت المواجهة الكبرى مع جميع الفصائل في سبتمبر 1981 ، وانضمت هذه المجموعة – والتي كان محور الارتباط بينها جميعاً كاتب هذه السطور – إلى المجموعتين الأخريين ، وصار تنظيم الجهاد قبل مقتل السادات هو هذه المجموعات الثلاث .
في الواقع فإن مقتل السادات انتقل بالتيار الثوري نقلة نوعية كبيرة ، إذ جعله في قلب الأحداث ، وصار قوة سياسية تحظى باحترام جميع الفصائل والتيارات ، حتى العلمانية ذاتها ؛ لأنه هو الذي استطاع أن يحقق تعديلاً في الموازين السياسية جاءت برئيس جديد ، وأدت إلى انفراجة سياسية ، انتقلت بالقيادات التي كانت مسجونة من جميع الفصائل ، من السجن إلى قصر الرئاسة ، ثم إلى بيوتهم .
أي أن التحولات في فترة السبعينات يمكن إيجازها في الآتي :
1- تراجع التيار التكفيري ، وزواله من الساحة السياسية بعد مقتل الشيخ الذهبي.
2- تقدم التيار الثوري الجهادي ليصبح قوة سياسية أساسية بعد مقتل السادات .
3- بروز تيار إسلامي فكري يعكس تحولاً في قناعات أصحابه بالتوجه الإسلامي بعد أن كانوا يساريين ، أو علمانيين وطنيين .
الحركة الإسلامية في الثمانينات :
ظل الإسلاميون بجميع فصائلهم معتقلين في السجون مع بواكير الفترة الجديدة للنظام السياسي ، ولم يكن منهم أحدٌ قد التقى بالرئيس معباقي القيادات العلمانية الأخرى ، وكان الإسلاميون من التيار الثوري يواجهون التعذيب في إطار التحقيقات حول الحوادث الأخيرة ، بينما كان الإسلاميون من التيار الإصلاحي يحقق معهم في المدعي الاشتراكي ، وتعرضوا لتحقيقات قاسية لمعرفة علاقتهم بالأحداث ، ولم يثبت لهم أي صلة ، بل استنكروها ، واعتبروها تأخيراً للدعوة ، وظل الإسلاميون بجميع فصائلهم يعانون في السجن لمدة خمسة أشهر كاملة حيث بدأت انفراجة تدريجية في التعامل داخل السجون ، وبدأ التخلص من آثار ما يحدث يأتي تدريجياً ، فبدأ بالإفراج عن دفعات لا علاقة لها بالأحداث ، ثم بدأ الإفراج عن التيارات السلفية والإصلاحية ، وشكلت محكمة عسكرية سريعة برئاسة “سمير فاضل” لـ 24 شخصاً من تنظيم الجهاد ، وأُعْدِم خمسة ، هم محمد عبد السلام فرج ، وعبد الحميد عبد السلام ، وخالد الإسلامبولي ، وعطا طايل حميدة ، وحسن عباس ، وحُكم على الآخرين بمدد مختلفة ، وبُريء اثنان هما : د. عمر عبد الرحمن ، ود. سيد السلاموني المدرس المساعد بكليـة التربية .
ثم تشكلت محكمة لأعضاء تنظيم الجهاد برئاسة المستشار “عبد الغفار محمد” ، واتُهم فيها 302 من معظم محافظات مصر ، وظلت المحاكمة طوال ثلاث سنوات تقريباً .
وبشكل عام فإن الملامح الأساسية للحركة الإسلامية في الثمانينات تمثلت في الآتي :
1- وجود شهداء للتيار الثوري مثَلوا رموزاً للتضحية واستمرار المقاومة ، كما قامت المحكمة مع ضمانة قانونية مكنت التيار الثوري من الاحتكاك اليومي بالجماهير عبر الهُتافات في الشوارع – كما كانت فرصة للبحث الفقهي لإيجاد أساس سلفي للمواجهة التي حدثت في أسيوط وبعض أقاليم مصر وفي المنصة ، وكانت فرصة لبداية تعرف التنظيم على نفسه .
2- حدوث انشقاق داخل التنظيم إلى بحري وقبلي ، حيث مجموعة بحري تجمع كل الذين ينتمون إلى الوجه البحري ، بينما مجموعة قبلي تجمع كل الذين ينتمون للوجه القبلي ، ورفض قادة قبلي مطالب بحري بتوسيع مجلس شورى التنظيم ليستوعب الكفاءات الجديدة التي لم تكن معروفة من قبل ، وهنا بدأ الحديث عن “إمارة الضرير” ، وعدم مشروعيتها ، وأصبحت مجموعة بحري وعلى رأسها “عبود الزمر” ومجموعة قبلي وأميرها “د. عمر عبد الرحمن” .
3- تأسيس فقه جديد يحكم حركة (الجماعة الإسلامية) تمثل بشكل أساسي في “ميثاق العمل الإسلامي” ، الذي ألفه ناجح ، وعصام ، وعاصم ، وحتمية المواجهة الذي ألفه “خالد فكري” ، و”كلمة حق” للشيخ عمر عبد الرحمن ، تواكب هذا مع خروج ما يمكن أن نطلق عليه “الجيل الثاني” للجماعة الإسلامية حيث حصلوا على البراءة ، إما لعدم مشاركتهم ، أو لعدم ثبوت التهم عليهم .
4- حدوث اضطراب داخل مجموعة بحري – الجهاد – حيث لم تكن تنعم باتساق تنظيمي ، إذ كان يغلب عليها “طابع الجبهة” ، كما أن أعضاءها ذَوُو نفسية خاصة تميل إلى الانقسام ، وبشكل عام فإن الجهاد كان وعاءً فكرياً أكثر من كونه تنظيماً قادراً على استيعاب طاقات أفراده ، وانفصل عصام القمري أولاً ، ثم بدأت توجهات نحو بناء قواعد لائحية لضبط عمل التنظيم في إطار أن يكون القرار شورى ، لكن الجهود التي بذلت في ذلك لم تُؤدِ إلى ضبط القرارات الفردية ، وتأخرت مجموعة بحري عن إصدار أي أعمال فكرية مشتركة حتى عام 1986 حيث أصدرت “المنهج” ، وهُو عمل مشترك لا يختلف كثيراً عن “الميثاق” . ثم بدأت الإصدارات الفردية لمجموعة بحري مثل “الإحياء الإسلامي” ، و”أمريكا والحركة الإسلامية” ، ثم “فلسفة المواجهة” .
5- ظهور مجموعة “الناجون من النار” ، وهي مجموعة تتبنى فكر “التوقف” المتأثر بأفكار القطبيين والتكفير ، وبدأت هذه المجموعة بأعمال قتالية مثل محاولة اغتيال “أبو باشا” ، و”مكرم محمد أحمد” ، و”النبوي إسماعيل” ، خاصة بعد الحديث عن تعرض أعضاء الجهاد للتعذيب في السجون .
6- وقوع حادث الهروب الذي قاده عصام القمري ، ومعه خميس مسلم ، ومحمد الأسواني ، وكان الحادث مرعباً ، إذ استطاع الذي قاموا به أن يخرجوا من الزنازين ، ثم من الأسوار ثم من الباب الخارجي عن طريق أدوات بُدائية ، وكان عصام ضابطاً برتبة مقدم ، وخاض حرب أكتوبر ، وعلى درجة كبيرة من الجرأة والجسارة ، وكان يرفض الزواج ، وكان يضيق بالسجن إلى حد أن قضيته أصبحت كيف يمكنه الهروب منه تأسيساً على أحكام شرعية بعدم بقاء الأسير المسلم في سجن الأعداء .
7- خروج ذوي الأحكام – التي انتهت – من الجماعة الإسلامية والجهاد وهؤلاء مثلوا امتداداً خارجياً للتنظيمين ، واستطاعت الجماعة الإسلامية أن تنتقل بنشاطها إلى الوجه البحري ، وقدمت أعمالاً خيرية للمجتمعات التي نشطت فيها ، وأصبح لها مساجدها ، كما نشطت بالجامعة ، وبدأت عمليات السفر إلى أفغانستان باعتبارها قاعدة إسلامية محررة وكان هناك معسكران للجماعة والجهاد ، ويبدو أن الالتحام الشعبي بين الجماعة والجماهير في مناطق مثل عين شمس ، وإمبابة ، والمطرية قد أدى إلى تدخل أجهزة الأمن بقوة للقضاء على هذه الظاهرة ، لكن يبدو أن شخصية “زكي بدر” وزير الداخلية أعطت تفويضاً واسعاً للضباط في تنفيذ أوامر الاعتقال ، وهو ما أدى إلى مواجهات دموية أثناء تنفيذ عمليات قبض روتينية ، كما أدى إلى انتهاك حرمات البيوت وحجرات النوم والنساء بشكل جديد على أجهزة الأمن ، بل إن أعمال النهب والسرقة العلنية لما خف وزنه وغلا ثمنه كانت تحدث ، وهو أمر جديد أيضاً على أجهزة الأمن ، وكان تهور “زكي بدر” سبباً لفتح مواجهة عاصفة مع الجماعة الإسلامية والجهاد .
8- حدوث حوار داخلي بين فصائل التيار الثوري – الجهاد والجماعة – لضم أفراده إلى الجماعة الإسلامية التي ترى نفسها الأصل ، ويبدو أن ذلك آتى أُكله ، إذ بدأ “عبود الزمر” يحضر مع الجماعة الإسلامية جلسات مجلس شوراها ، وبشكل عام فإن القرار كان يتم اتخاذه بالتشاور بين “عبود” و”مجموعة قبلي” ، ثم يتم إبلاغه للباقين من مجموعة بحري .
الملامح الفكرية للمرحلة :
1- تبني مجموعة “الجهاد” و”الجماعة الإسلامية” للسلفية كإطار مرجعي للتأسيس الفقهي للموقف الصدامي مع النظام السياسي باعتباره “طائفة ممتنعة” وفقاً للجماعة الإسلامية ، وباعتباره “نظاماً جاهلياً” ، وفقاً للجهاد ، ولكن “الجماعة الإسلامية” كانت أشد سلفية بينما تميزت كتابات “الجهاد” بطابع معاصر ، أو يدرك الواقع بشكل متزايد ، وكانت الأعمال الفكرية للجهاد تأخذ في الاعتبار القضية الفلسطينية ، والغرب كما كانت ترفض أشكال المواجهة الفردية التي تقوم بها الجماعة الإسلامية .
2- استمرار رفض الجماعة الإسلامية للاشتراك في النظام السياسي ، عبر رفض الحياة الحزبية والانتخابات والمجالس النيابية ، واعتبار ذلك شركاَ يضاد عقيدة التوحيد ، وصدر كتاب لأسامة حافظ بعنوان “الحركة الإسلامية والعمل الحزبي” ، بينما كان أعضاء الجهاد لا يرون ذلك شركاً ولا حراماً ، إذا كان بقصد تحقيق مصلحة إسلامية ، ويبدو أن موقف الجماعة من مجلس الشعب كان رداً على الإخوان الذين تحالفوا مع الوفد عام 1984 ، ثم حزب العمل عام 1987.
3- نمو اتجاه داخل مجموعة الجهاد يرفض بشكل قاطع أعمال المواجهة الفردية التي كان يقوم بها أعضاء “الجماعة الإسلامية” ، وبدأ هذا الاتجاه يدرك أهمية المشاركة في الحياة السياسية ، وتابع بشكل خاص فعاليات المعركة الانتخابية التي حدثت عام 1987 ، ورحب بمساعدة السلفيين للإخوان في مواجهة العلمانيين في بعض المناطق ، خاصة “شبرا” .
الحركة الإسلامية في التسعينات :
1- يبدو أن نجاح جبهة الإنقاذ في الجزائر قد أخاف النظام السياسي في مصر من الاتجاه الإسلامي الإصلاحي ، حيث يمكن لهذا الاتجاه أن يحرز انتصارات سياسية عبر القنوات السياسية السلمية ، ومن ثم فإن النظام بدأ مواجهة مع تيار الإخوان ، حيث عقد محاكمات عسكرية لهم مرتين ، وأدى ذلك إلى توقيف الجيل الوسيط لهذه الحركة ، كنوع من شل فعاليات الجماعة .
2- فتح المواجهة مع الجماعة الإسلامية ، دون اعتبار لأية خطوط حمراء ، وكانت النتيجة ، قتل “علاء محيي الدين” الناطق باسم الجماعة ، ثم ردت الجماعة بقتل “رفعت المحجوب” ، ثم قتل الجماعة للأقباط في “صنبو” ، ثم الدخول في دائرة العنف والعنف المتبادل ، وظهور قادة الخارج الذين سافروا إلى أفغانستان ، وعلى رأسهم مصطفى حمزة ورفاعي طه ، كما ظهرت مجالات أخرى للضغوط المتبادلة مثل السياحة والسياح – من جانب الجماعة – ومن جهة السلطة اخترعت الاعتقال المتكرر والتعذيب في السجون ، والاعتداء المستمر على حرمات المنازل ، وعدم الالتزام بالقانون باللجوء إلى المحاكم العسكرية ، ويبدو أن محاولة اغتيال “الرئيس حسني مبارك” ، كانت تمثل قمة المواجهة العنيفة بين الجماعة والنظام .
4- ظهور تنظيمات جديدة ، مثل طلائع الفتح التي تعد امتداداً لتنظيم الجهاد القديم ، واستطاع هذا التنظيم أن يقوم بعمليات ذات طابع انتحاري ، مثل محاولة اغتيال الألفي ، وطابع تقني مثل محاولة اغتيال عاطف صدقي ، وظهر قادة للجهاد في الخارج أيضاً وعلى رأسهم أيمن الظواهري .
5- ظهور قيادات عسكرية مطاردة من قِبَل الأمن ، تقوم بمعظم العمليات في الصعيد ، وهي من الجماعة الإسلامية ومن الواضح ارتباط هذه المجموعات .
الملامح الفكرية للتسعينات :
لا يوجد شيء جديد لدى التيار الجهادي في الجانب الفكري ، أي أن هناك استمرارية لما كان قائماً ، لكن توجد ظاهرة جديدة يمكن أن يطلق عليها “البيانات الفكرية” ، حيث تصدر بيانات تعب×ر عن الموقف الفكري لهذا التيار ، وتوجد مساحة كبيرة في هذه البيانات للتطورات الإقليمية خاصة فيما يتصل بالموقف من القضية الفلسطينية ، والموقف من أمريكا ، كما توجد بيانات عن المواقف الداخلية للحكومة وصدرت بيانات في قضية المالك والمستأجر ، كما صدرت بيانات ضد الموقف المعادي للأقباط ، بيد أن أهم التحولات الفكرية تمثلت في “مبادرة وقف العنف” ، التي أُطلقت في شهر يوليو الماضي ، وهي مبادرة من طرف واحد ، ولا تفرض شروطاً مسبقة ، وتدعو المنتمين للجماعة الإسلامية إلى عدم إصدار بيانات تدعو للعمل العسكري في الداخل أو الخارج ، ووقف العمل العسكري فعلاً ، “وأيد بيان وقف العنف الشيخ عمر عبد الرحمن” ، الذي قال : (إنني أبارك الدعوة لوقف العنف وأسأل الآخرين أن يؤيدوها) ، ودخل مؤيداً للدعوة أعضاء من الجهاد مثل “طارق الزمر ، صالح جاهين” ، وأيدها أعضاء الجناح العسكري للجماعة الإسلامية مثل “صفوت عبد الغني” ، و”ضياء الدين فاروق” و”ممدوح علي يوسف” .
وبينما تحفظت قيادات الخارج ، وبعض قادة طلائع الفتح في الخارج ، فإن قيادات الداخل أصروا على الاستمرار في تعزيز مبادرتهم لوقف العنف . وفي الواقع فإن الدعوة لوقف العنف من قِبل القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية والجهاد يعكس جدية الدعوة ، كما يعكس صدورها عن قناعة حقيقية بضرورة مراجعة المواقف التي صدرت عنهم خاصة فيما يتصل بأعمال العنف الفردية ضد عناصر الشرطة والسياح ، والتي طالت مواطنين أبرياء أيضاً ، ولا يمكن بحال تبرير هذه الأعمال باعتبارها نوعاً من دفع الصائل أو قتال طائفة ممتنعة ؛ لأنها تطال آخرين أبرياء ، ولأنها حولت التيار الجهادي إلى فصيل لا يحمل دعوة إحياء ، كما بدأ في أوائل السبعينات . أي أن الانخراط فيما نطلق عليه “عسكرة السلوك الإسلامي” ، يحول التيار الجهادي باستمرار ليفقد الطابع الرسالي لدعوته ، التي يفترض أنها مقصود بها المجتمع كله ، والتي يفترض أيضاً أن القتال يمثل جزءاً يسيراً منها ، بشروط استخدامه ، وليس هو كلها .
وبشكل عام فإن قادة الداخل في السجون يقومون بمراجعة فكرية دائمة لأعمال الفصائل القتالية ، وهم يشعرون أكثر من غيرهم أن احتمال الانخراط في أعمال عسكرية ذات طابع يحكمه رد الفعل الذي يخرج بالعمل عن مقصد الحركة ، وضبط الشريعة وارد ، خاصة وأن تجربة الجزائر تؤكد وجود فصيل هو “الجماعة المسلحة” تورط في أعمال ذات طابع خوارجي .
مأزِق التيار الجهادي :
لاشك أن التيار الجهادي يواجه مأزقاً حقيقياً يتمثل في الآتي :
1- استنفاره بشكل كامل للمواجهة مع النظام السياسي بما يترتب على ذلك من عسكرة سلوك دون وجود مساحة كافية من الجهد والوقت للجهد التربوي الذي يتعاطى مع تعميق معاني العقيدة ، وإحياء الضمير الإسلامي عن طريق ممارسة العبادات ، بما في ذلك النوافل ، والتي تحقق تزكية النفس وتقواها . وفي الواقع فإن التأمل في مسيرة الجماعة الإسلامية الأولى في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم – سوف يرشدنا أنها ظلت ثلاثة عشر عاماً تبني العقيدة وتربي الضمير ، ولم يُفرض الجهاد بمعنى القتال عليها ، إلا في المدينة ، حيث توجد سلطة لديها قدرة توقيع الجزاء ، بالمعنى المادي “دولة” ، كما أن القتال يمثل ممارسة استثنائية في حياة المسلم ، إذا قورن بالعبادات مثلاً ، وهو فرض كفاية ويباشَر تحت سلطة دولة ، وذلك لأن القتال يحتاج إلى ضبط أخلاقي وسلطوي كبير ، لأن ممارسته تجعل القائمين به ميالين للتجاوز ، وكم ارتُكبت كثير من أعمال النهب والسلب والاعتداء في ساحات الحرب ، ولكن الحرب الإسلامية كانت منضبطة أخلاقياً وحركياً ، وفي النهاية فإن القتال مقصود به كسر شوكة الممتنعين عن الدخول في الإسلام دون قصد قتلهم بدليل أن النساء والأطفال والكبار والرهبان لا يقتلون ، وإنما يقتل المحاربون ، وفي فقه الجهاد نجد أن هناك ضوابط كثيرة تضبطه ، منها الدعوة قبله إلى الإسلام أو قبول الجزية ، ومنها تحريم قتل الاطفال والضعفاء وعدم التحريق : أي أنه في التحليل النهائي عمل تربوي وأخلاقي ، لكن ممارسة القتال بشكل فردي كما يحدث الآن تؤدي إلى تغليب الجانب العنيف في النفس ، بينما لا يوازن ذلك تعميق جانب التزكية ، فتصبح النفس المسلمة عنيفة لا يمكنها – حين ممارسة عنفها – أن تضبطه بميزان الإسلام ، وهو ما يجعل سلوكها عنفاً لا يحقق مقاصده .
إن الحركة الإسلامية بدأت عملاً إحيائياً يحي في الناس معالم ما اندثر من الإسلام في نفوسهم وحياتهم . وهذه هي المهمة الأولى للحركة الإسلامية ، فإذا انحرفت عنها لتصبح مجرد جماعة تمارس أعمال العنف ضد السلطة ، فإنها بحق تكون قد انحرفت عن مقصدها الأصلي ، خاصة وأنها لا تملك حد الاستطاعة كما لا تملك إنجاز النصر .
2- عسكرة السلوك الإحيائي لتيار من الحركة الإسلامية يؤدي إلى اتساع قاعدة العسكر المقاتلين على حساب قاعدة المدنيين الذين يدخل ضمنهم الدعاة والساسة والطلبة والباحثون والعاملون في المجالات المدنية الأخرى كافة ، وهو ما يعني فقدان الحركة لقاعدة تبني وترشد ، وفي اعتقادي أن وجود قاعدة واسعة مدنية للحركة الإسلامية يحفظها من عسكرتها ، ففي أفغانستان تمت عسكرة المجتمع كله بحيث أصبحت قاعدته ذات طابع قتالي ، بينما بناء الدولة يحتاج إلى عقول مدنية تبني مجتمعاً وتدخل مع العالم في علاقات سياسية حيث يكون استخدام عقلية الحرب – في مرحلة البناء – أداة لاستمرار الصراع وفناء المجتمع ، ففي ظل مجتمع يجني ثمار نصره في المعارك فإن السلاح لا يكون أداة لحسم المواقف كما أن عقلية المحارب لا تصلح أيضاً لصناعة قرار تلك المرحلة ، وحين أرى قاعدة كبيرة في حركة الإحياء الإسلامي المصري من المدنيين في مختلف المجالات فإنني أستبشر خيراً؛ لأن وجود هذه القاعدة يحمي الحركة الإسلامية من أن تصبح في المستقبل مجرد حركة عسكرية .
3 – أنني أتبنى الآن وبشكل قوي ما أطلق عليه (عودة الحركة الإسلامية إلى بدايتها) حيث الاهتمام بالأبعاد الأخلاقية حيث استطاعت أن تثبت الآن وجودها في الجانب السياسي فإن ذلك يحدث على حساب الجانب التربوي والأخلاقي ، وحماية الحركة يكون باستحضار الأبعاد الأخلاقية دائماً كأساس لحركتها السياسية ، والانخراط في أحد الجوانب يستدعي الميل إليه دون إعطاء بقية الجوانب الأخرى حقها بما في ذلك البعد الأخلاقي التربوي ؛ لذا فإن استحضار ما يتصل بالثوابت بل وتحديد جزء من جهة الحركة إليه واجب لا يمكن الإغضاء عنه .
4 – وحيث إن بيئة الصراع لا يمكن أن تفسح مجالاً للتربية والتزكية إذ تفترض اطمئناناً وثقة ، كما تستوجب وقتاً ونَفَساً لتثبت في النفس ؛ لذا فإن الاستدراج للصدام مع السلطة يضيع هذه الفرصة على الحركة ، وباستقراء نوعية الشباب في مرحلة الصراع والصدام ستجده شباباً عاطفياً متحمساً لم يجد فرصة كافية لبنائه تربوياً ، وبشكل عام فمن السهل ممارسة القتال ، لكنه صعب الالتزام بأخلاق الإسلام وممارساته ضمن مجتمع يحتاج إلى رده رداً جميلاً إلى هويته . وبالعودة إلى فترة السبعينات سنجدها أنتجت أفضل جيل في مسار الصحوة حيث وجدت وقتاً وبيئة صالحة تنفست من خلالها الإسلام ، وإذا كانت طبيعة العصر الذي نعيشه تستدعي كل مظاهر العنف فإن نفسية شباب الحركة ستنزع إليه كسمة لعصرهم بينما الواجب استحضار جهاد النفس بشكل كافٍ لتخليصها من آثار عنف العصر .
الخروج من المأزق :
1 – نبذ ممارسة العنف بشكل تام تجاه السلطة والمجتمع ؛ لأن المدركات الشرعية التي تم الاستناد إليها لممارسة العنف مثل (قتال الطائفة الممتنعة) أو (فقه الخروج على الحاكم الظالم) ثبت بيقين أن تحقيق مناطات هذه الأحكام مشروط بالقدرة والاستطاعة ، ومشروط بالالتزام بقواعد الأصول التي تقول : (لا ضرر ولا ضرار) و(الضرر يُزال) ، و(المشقة تجلب التيسير) و(الأمور بمقاصدها) ، و(الأمر إذا ضاق اتسع) ، و(الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف) و(يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء) ، و(التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) . ويبدو مفهوماً لي الآن الإجماع الذي انتهى إليه الفقهاء في مرحلة متأخرة بالقول : (بعدم جواز الخروج على الحاكم المسلم الظالم) ؛ لأن معظم حركات الخروج – إن لم نقل كلها – قد فشلت وترتب عليها دماء وهرج يمكن القول إنها (فتنة) .
2 – الانعطاف إلى المجتمع وتحويل طاقة العنف المتجه إلى السلطة إلى طاقة عمل تحاه المجتمع في مجالات الدعوة والعمل الاجتماعي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل سلمي ؛ لأن الرصيد الباقي لأي حركة هو مجتمعها ويبقى المجتمع هو مجال الفعل الرئيسي لها. إننا بحاجة إلى إيقاظ الأغلبية الصامتة فيه نحو قيم الإسلام الحقة : المشاركة ، الكرامة ، الإيجابية، الوعي ، ولا يزال المجتمع مستعداً للانخراط في العمل الإسلامي وبمقارنة التحول الذي حدث حتى الآن وما كان عليه الأمر في الستينات مثلاً يؤكد هذه الحقيقة .
3 – تغيير منهج التفكير الذي ينظر للأشياء بشكل كلي مجمل دون تفحص للجزئيات المكونة لها ، وهو ما يجعل العقل يطلق أحكاماً عامة دون نظر للتمايزات المتباينة ، وعلى سبيل المثال فإن الشريعة ذاتها وهي محور دعوتنا لا تدرك أنها ليست شيئاً واحداً متماثلاً بل يوجد فيها الثابت المجمع عليه مثل العقائد ، وأحكام الحلال والحرام القطعية وفيها الظني الذي يحتمل تنازع أنظار المجتهدين وفيها أيضاً المتغير الذي يواجه أحكام السياسة والتدبير والذي يفترض اجتهاداً دائماً ، وتخريجاته لها طابع الفتوى أو الحكم الذي يتغير بتغير المكان والزمان والحال . فالتمييز بين الثابت والمتغير في الشريعة أمر مهم حتى لا يطَرد حكمنا عليها جميعاً فنظنها ثابتة : فمسألة الأحزاب ، دخول مجلس الشعب ، طرق تحقيق السلطة في الإسلام كلها من المتغير الذي لا يجوز أن نلحقه بالثابت من العقائد والأحكام .
4 – قبول المنازلة السياسية ؛ لأنه – وكما يقول “كلاوزتنر” – : إذا كانت الحرب هي السياسة بوسائل أخرى فإن السياسة أيضاً هي الحرب بوسائل السلم ، ولا بأس بتكوين حزب سياسي أو السعي إلى ذلك بل هو – بظني – ضرورة لا ينبغي التردد فيها ، إن معترك السياسة والنضال بوسائلها أمر ضروري لابد من الاتجاه إليه ونبذ الحرب على السلطة والمجتمع ، كما لا يجوز أن نسعى لإيجاد مجتمع موازٍ أو بديل عن المجتمع الذي نعيش فيه بل لا بد من الانخراط فيه والعمل في قلبه وليس بموازاته أو بعيداً عنه . إن الحركة الإسلامية المعاصرة الآن عمرها ربع قرن ويجب إعادة النظر فيها ومراجعتها وطرح رؤى جديدة تتلاءم مع واقعنا الجديد .

 

 

عن المحرر

شاهد أيضاً

من خطوات التأسيس الأولى للحركة الإسلامية المغربية ( الحلقة الثامنة)

من خطوات التأسيس الأولى للحركة الإسلامية المغربية ( الحلقة الثامنة)  فضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *